خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ بتاريخ 7 جُمَادَى الآخرة 1447هـ – 28 نَوْفَمْبِرَ 2025م
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ word (تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ pdf (تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ
الحَمْدُ للهِ جَعَلَ تَوْقِيرَ الْكَبِيرِ مِن شَعَائِرِ الدِّينِ، وَاحْتِرَامَ ذِي الْمَنْزِلَةِ مِن الْآدَابِ وَالْهَدْيِ الْقَوِيمِ، أَحْمَدُهُ -سُبْحَانَهُ- أَرْشَدَ لِإِعْطَاءِ أَهْلِ الْحَقِّ حَقَّهُمْ، وَلِإِنْزَالِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَكَانَةِ مَنْزِلَتَهُمْ، الْحَمْدُ للهِ القائلِ ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾[البقرة:83] جَمالًا وَأَدَبًا وَذُوقًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَحَبِيبَنَا وَعَظِيمَنَا وَقَائِدَنَا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، صَاحِبُ الْوَجْهِ الْأَنْوَرِ وَالْجَبِينِ الْأَزْهَرِ، إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ الْحُنَفَاءِ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ الْـمُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ الأَخْيَارِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ … فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
عِبَادَ اللَّهِ: ((تَوْقِيرُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِكْرَامُهُمْ)) عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:
أَوَّلًا: توقيرُ الكَبِيرِ مِنْ هَدْيِ الإِسْلَامِ.
ثَانِيًا: إهانَةُ الكَبِيرِ خِزْيٌ وَعَارٌ !!
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: صُورٌ وَنَمَاذِجُ مُشَرِّفَةٌ لِتَوْقِيرِ الكِبَارِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ توقيرِ كِبَارِ السِّنِّ وَإكرَامِهِمْ وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا سَآءَتْ فِيهِ الْأَخْلَاقُ وَقَلَّ فِيهِ احْتِرَامُ الْكَبِيرِ وَتَوْقِيرُهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَخَاصَّةً وَدِينُنَا الْحَنِيفُ حَثَّنَا عَلَى احْتِرَامِ الْكَبِيرِ وَتَوْقِيرِهِ وَإكرَامِهِ وَإنزَالِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، وَخَاصَّةً وَالْكَثِيرُ مِنْ شَبَابِ الْيَوْمِ شَبَابُ الْفَيْسِ بُوكِ وَغَيْرِهِ يَنْظُرُونَ إِلَى كِبَارِ السِّنِّ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا وَلَا يَفْهَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا وَيَنظُرُونَ إِلَيْهِم نَظْرَةَ الْاِزْدِرَاءِ وَالْاحْتِقَارِ، يَرَوْنَ كَلَامَه غَيْرَ صَحِيحٍ، وَيَرَوْنَ رَأْيَه غَيْرَ صَائِبٍ، وَيُعَدُّونَه عِبْئًا وَثِقَلًا عَلَيْهِم، وَأَنَّ مَكَانَهُمْ الْجُلُوسُ فِي الْبُيُوتِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بَلْ أَنْ شِئْتَ فَقُلْ مَكَانَهُمْ الْقُبُورُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ سُوءُ أَدَبٍ وَسُوءُ أَخْلَاقٍ وَسُوءُ تَرْبِيَةٍ إِلَّا فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الشَّبَابُ لَوْلَا الْكِبَارُ بَعْدَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا وَجَدُوا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، أَلَا فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الشَّبَابُ أَنَّهُمْ لَا قِيمَةَ لَهُمْ وَلَا وَزْنَ لَهُمْ وَلَا أَهِميَةَ لَهُمْ بِلَا الْكِبَارِ وَصَدَقَ الْمَثَلُ الْمِصْرِيُّ الَّذِي يَقُولُ (( الْلِّي مِشْ لَهُ كَبِيرٌ يَشْتَرِي لَهُ كَبِيرٌ )) أَلَا فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الشَّبَابُ أَنَّ الْكِبَارَ هُمْ خَيْرٌ وَبَرَكَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، وَخَاصَّةً وَمِنْ هَؤُلَاءِ الكِبَارِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الفَضْلِ، فَمِنْهُمْ الْمُعَلِّمُ وَالْمُرَبِّي الَّذِي رَبَّى وَعَلَّمَ الْأَجْيَالَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَمِنْهُمْ الطَّبِيبُ الَّذِي كَانَ يُطَبِّبُ النَّاسَ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمِنْهُمْ الْعَسْكَرِيُّ الَّذِي كَانَ يَحْفَظُ الْأَمْنَ، وَمِنْهُمْ الْفَرْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَخْدِمُ النَّاسَ وَالْمُجْتَمَعَ، وَخَاصَّةً وَالإحْسَانُ إِلَى الكِبَارِ بُرْهَانٌ وَاضِحٌ لِلْمَبَادِئِ الَّذِي عَلَيْهَا نَشَأَ المَرْءُ وَبِهَا يَعِيشُ، وَتَرْجَمَةٌ صَادِقَةٌ لِمَا يَتَحَلَّى بِهِ مِنْ أَخْلَاقٍ فَاضِلَةٍ، وَقِيِّمٍ ثَابِتَةٍ.
إِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاَقُ مَا بَقِيَتْ ***فَإِنْ هُمْو ذَهَبَتْ أَخْلاَقُهُمْ ذَهَبُوا
أَوَّلًا: توقيرُ الكَبِيرِ مِنْ هَدْيِ الإِسْلَامِ.
أيُّها السَّادةُ: نَبِيُّنَا eهو نَبِيُّ الأَخْلاقِ، ودِينُنَا هو دِينُ الأَخْلاقِ، وشَرِيعَتُنَا هي شَرِيعَةُ الأَخْلاقِ، وَقُرْآنُنَا هو قُرْآنُ الأَخْلاقِ، بَلِ الغَايَةُ الأسمَى مِن بَعْثَتِهِ e هِيَ الأَخْلاقُ فَقَالَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: { بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، فَالْمُؤْمِنُ بِلَا شَكٍّ يُرِيدُ أنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا لَدَى الْخَالِقِ، ومَحْبُوبًا لَدَى الْخَلْقِ، يُرِيدُ أن يَكُونَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَوَجِيهًا فِي الْآخِرَةِ، يُرِيدُ أن يُؤتَى فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ بِحُسْنِ خُلُقٍ، يُرْزِقُهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَبْدَ إِيَّاهُ، لِذَا كَانَ أَعْلَى النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَنَبِيُّ الأَخْلاقِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ أَعْظَمِ الأَخْلاقِ الَّتِي يُنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الْمُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ: تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ وَإِكْرَامُهُ وَاحْتِرَامُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ احْتِرَامَ الْكِبَارِ وَتَوْقِيرَهُمْ وَكِرَامَهُمْ مِنْ أَهَمِّ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَالْأَئَمَّةُ الْأَطْهَارُ، فَتَوْقِيرُ الْكَبِيرِ أيُّها السَّادَةُ خُلُقٌ عَظِيمٌ مِنْ أَخْلَاقِ الدِّينِ، وَمَبْدَأٌ كَرِيمٌ مِنْ مَبَادِئِ الْإِسْلامِ، وَشِيمَةٌ مِنْ شِيَمِ الأَبْرَارِ الأَخْيَارِ، وَصْفَةٌ مِّن صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ ، أَمَرَنَا بِهَا الدِّينُ ، وَتَخَلَّقَ بِهَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تَدُلُّ عَلَى سُمُوِّ النَّفْسِ ، وَعَظَمَةِ الْقَلْبِ ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ ، وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ ، وَوَعْيِ الرُّوحِ ، وَنَبَلِ الْإنْسَانِيَّةِ وَأَصَالَةِ الْمَعْدِنِ .
وَالتَّوقيرُ عِبَادَ اللَّهِ: اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما فيه سكينةٌ وطمأنينةٌ من الإجلالِ والإكرامِ، وأن يُعاملَ من التَّشريفِ والتَّكريمِ والتَّعظيمِ بما يصونُه عن كُلِّ ما يخرِجُه عن حَدِّ الوَقارِ)
وَالنَّاظِرُ في نُصوصِ السُّنَّةِ المُشرَّفةِ: يلاحِظُ بجَلاءٍ ما اشتملَت عليه من حثٍّ على التَّوقيرِ والاحترامِ في مختَلِفِ صوَرِه وأشكالِه؛ فقد أمرَت السُّنَّةُ بحُسنِ المعاملةِ والبشاشةِ، والقولِ الحَسَنِ وبَذلِ السَّلامِ، ودعَت إلى تهذيبِ اللِّسانِ، والتَّحَلِّي بالتَّسامُحِ، ونَبذِ الفُحشِ والبذاءةِ خَاصَّةً مَعَ كِبَارِ السِّنِّ. وَكَيْفَ لَا؟ وَشَرِيعَةُ الإِسْلَامِ جَاءَتْ بِمَا يُقَوِّي الرَّوَابِطَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ، غَنِيِّهِ وَفَقِيرِهِ، عَاَلِمِهِ وَجَاهِلِهِ. جَاءَتْ بِمَا يُقَوِّي تِلْكَ الْأَوَاصِرَ؛ حَتَّى يَكُونَ الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ مُجْتَمَعًا مِثَالِيًّا فِي فَضَائِلِهِ وَقِيَمِهِ، وَفِي شَرِيعَةِ اللَّهِ كُلُّ خَيْرٍ وَهُدًى، وَمِنْ ذَلِكَ تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ وَاحْتِرَامُهُ وَإِكْرَامُهُ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يُونُسَ: 57]. لَذَا حَثَّنَا نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى “احْتِرَامِ كِبَارِ السِّنِّ”؛ لِأَنَّهُم أَحْوَجُ إِلَى هَذَا مِنْ غَيْرِهِم، لِتَخَطِّي الأَزْمَاتِ وَظُرُوفِ الحَيَاةِ الْقَاسِيَةِ؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» [رواه أبو داود]. أي: إنَّ مِن تَبْجيلِ اللهِ وتعظيمِه وأداءِ حَقِّه، “إكرامَ”، أي: تعظيمَ وتوقيرَ، “ذي الشَّيْبَةِ المسلمِ”، أي: الشَّيخِ الكَبيرِ في السِّنِّ. فَكَمْ سَجَدَ لِلَّهِ! وَكَمْ رَكَعَ لِلَّهِ! وَكَمْ قَنَتَ وَخَضَعَ لِلَّهِ! وَكَمْ تَصَدَّقَ وَصَامَ وَفَعَلَ الْخَيْرَاتِ! كُلُّ ذَلِكَ يُقَدَّرُ لَهُ قَدْرُهُ.
وَكَيْفَ لَا؟ وَتَوْقِيرُ الْكِبَارِ مِنْ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ، فَهذا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُعَامِلُ أَبَاهُ بِأَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ وَتَوْقِيرٍ مَعَ كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ فَيَقُولُ لَهُ كَمَا حَكَى الْقُرْآنُ ((إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا )) مريم: 42 – 48] وَهَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يُحْسِنُ إِلَى صَاحِبِ مَدْيَنَ، وَيَسْقِي لِابْنَتَيْهِ دُونَ مَقَابِلَ حِينَ عَلِمَ بِشَيْبَتِهِ وَكِبَرِ سِنِّه (( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ))، وَيُوَفِّي لَهُ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ عَشَرَ سَنَوَاتٍ كَامِلَةً لِحَاجَتِهِ لِذَٰلِكَ. وهذا نَبِيِّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْهُ ظَاهِرًا فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا لِكِبَارِ السِّنِّ، -حَالًا وَمَقَالًا-، فَكَمْ فِي سُنَّتِهِ مِنْ آثَارٍ مَرْوِيَّةٍ تَبَيِّنُ حَالَهُ مَعَهُمْ، فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جَاءَ بِوَالِدِهِ أَبِي قُحَافَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فلمّا رآه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأبي بكرٍ: (لو أقرَرْتَ الشَّيخَ في بيتِه لَأتَيْناه) تقديرًا لسِنّه وشيبته.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْسِنُ اسْتِقْبَالَهُمْ؛ وَعَنْ سَهلِ بْنِ سَعدٍ السَّاعِديِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ : ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَـؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا! قَالَ: فَتَلَّه -أَيْ: وَضَعَهُ- رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ)) . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استَأذَنَ الْغُلَامَ فِي أَنْ يَبدأَ بِالأَشْيَاخِ تَوْقِيرًا لَهُمْ وَتَقْدِيرًا لِسِنِّهِمْ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَمَّا امْتَنَعَ الْغُلَامُ احْتَرَمَ حَقَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الْيَمِينِ، وَالأَيْمَنُ فِي الشُّرْبِ وَنَحْوِهِ يُقَدَّمُ وَإِن كَانَ صَغِيرًا أَو مَفْضُولًا؛ لِذَلِكَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَابَ.
وَكَيْفَ لَا ؟ وَمِنَ السَّنَّةِ تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ وَتَقْدِيرُهُ بِأَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ إِلَى الْإِمَامِ وَكَبِيرِ الْمَجْلِسِ، كَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالْقَضَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْمَشَاوَرَةِ، وَإِمَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالتَّدْرِيسِ وَالِإِفْتَاءِ، وَإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهَا، وَيَكُونُ النَّاسُ فِيهَا عَلَى مَرَاتِبِهِم فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَالشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَالْكَفَاءةِ فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِينِي مِنكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا)) لِذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِمَالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ وصحبه: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ولْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» متفق عليه]؛ فَجَعَلَ إِمَامَةَ الصَّلَاةِ مُرَتَّبِطَةً بِالسِّنِّ إِذَا اسْتَوَتْ بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ التَّوْقِيرِ وَالإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ أَيُّهَا الأَخْيَارُ. وَكَيْفَ لَا؟ وَلَقَدْ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا الْأَمِينُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ…)) .و(تَسْلِيمُ الصَّغِيرِ لأَجْلِ حَقِّ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِتَوْقِيرِهِ وَالتَّوَاضُعِ ))
وَكَيْفَ لَا؟ وَعَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (مِن السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ: العَالِمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ، وَالسُّلطَانُ، وَالْوَالِدُ) .وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: (إِنَّ الْعَبْدَ عَلَى قَدْرِ حُبِّه لَمَوْلَاهُ يُحَبِّبُه إِلَى خَلْقِه، وَعَلَى قَدْرِ تَوْقِيرِه لِأَمْرِه يُوَقِّرُه خَلْقُه …) وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: (لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرِ مَا عَظَّمُوا السُّلطَانَ وَالْعُلَمَاءَ، فَإِذَا عَظَّمُوا هَذَيْنِ أَصْلَحَ اللَّهُ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَإِذَا اسْتَخَفُّوا بِهَذَيْنِ أَفْسَدُوا دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ) فَتَوْقِيرُ الْكَبِيرِ وَاحْتِرَامُهُ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ إِلَى “الْكَبِير” سَيُسَخِّرُ اللَّهُ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْكَ فِي عَجْزِكَ وَشَيْخُوخَتِكَ، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عِمْرَانَ: ١٤٠]؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِرُّ لَا يَبْلَى، وَالْإِثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُنْ كَمَا شِئْتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي “الزَّهْدِ الْكَبِير”]. فَإِنَّ الجَزَاءَ عِندَ اللهِ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فَمَن أَكْرَمَ مَنْ أَمَرَ اللهُ بِإِكْرَامِهِ قَيَّضَ اللهُ مِنْ يُكْرِمُهُ، فَقَدْ رُويَ أَنَّهُ “مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِندَ سِنِّهِ” حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ عِندَ هَذَا الأَثَرِ: فِيهِ الإِيمَاءُ بِإِطَالَةِ (عُمُرِ) مَنْ يُكْرِمُ غَيْرَهُ، فَهُوَ قَدْ قَدَّرَ الْكَبِيرَ، فَيُطيلُ اللهُ فِي عُمُرِهِ لِيُسَخِّرَ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ.
وَكَيْفَ لَا؟ وَتَوْقِيرُ الْكَبِيرِ وَإِكْرَامُهُ سَبَبٌ لِمُرَافَقَةِ النَّبِيِّ الْعَدْنَانِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ فَعَنَ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ حِجَجٍ، فَقَالَ لِي: يَا أَنَسُ، «وَقِّرِ الْكَبِيرَ، وَارْحَمِ الصَّغِيرَ تُرَافِقْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ]
وَكَيْفَ لَا؟ وَكِبَارُ السِّنِّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ وَخَيْرِ النَّاسِ عِندَ اللَّـهِ جَلَّ وَعَلَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّـه، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَن طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ» [أَخْرَجَهُ التَّرْمِذِيُّ].
وَكَيْفَ لَا؟ وَإِكْرَامُ الْوَالِدَيْنِ عِندَ الْكِبَرِ خَاصَّةً سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّاتِ أَيُّهَا الْأَخْيَارُ قَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإِسْرَاء: 23 – 24] وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ -أحَدَهُما أوْ كِلَيْهِما- فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ) وخُصَّ حالةَ الكِبَرِ بالذِّكرِ مع أنَّ بِرَّ الوالدَينِ يَنْبغي المُحافظةُ عليه في كلِّ وقتٍ، وفي كُلِّ حالةٍ؛ لأنَّه أحْوجُ الأوقاتِ إلى حُقوقِهِما؛ لشِدَّةِ احتياجِهما إلى البِرِّ والخِدمةِ في تِلكَ الحالةِ.
وَكَيْفَ لَا؟ “وَانزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ” لَيْسَتْ مُجَرَّدَ شِعَارٍ، بَلْ مَنْهَجٌ إِسْلَامِيٌّ أَصِيلٌ يُوَجِّهُ السُّلُوكَ الاَجْتِمَاعِيَّ وَالإِدَارِيَّ وَالتَّرْبَوِيَّ. وَمَتَى التَزَمَ بِهَا النَّاسُ، سَادَ بَيْنَهُمْ احْتِرَامُ الْقَدْرِ، وَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ فِي التَّعَامُلِ، وَاسْتَقَامَتِ الْحَيَاةُ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ الَّتِي جَاءَ بِهَا سَيِّدُنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَنْ مِيمُونَ ابْنِ أَبِي شَبِيبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً، وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ، فَأَقْعَدَتْهُ، فَأَكَلَ، فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَنزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ”. [رَوَاهُ أَبُو دَاوُد]. فَلْنَقْدِرِ الكَبِيرَ، وَلْنُرَبِّيْ أَبْنَائَنَا عَلَى احْتِرَامِ النَّاسِ عُمُومًا، وَعَلَى مُعَاوَنَةِ الضُّعَفَاءِ وَالمَرْضَى، وَالمُحْتَاجِينَ وَالأَرَامِلِ، وَعَلَيْنَا عَدَمُ نِسْيَانِ الْأَقْرِبِينَ ، فَمَا أَجْمَلَ الإِحْسَانَ إِذَا كَانَ مَعَ الرَّحِمِ وَالْقَرِيبِ! الْصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي تَوْقِيرِ الْكِبَارِ اللَّهَ اللَّهَ فِي احْتِرَامِ الْكَبِيرِ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
أحسِنْ إلى النّاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ*****فطالَما استبَعدَ الإنسانَ إحسانُ
ثَانِيًا: إهانَةُ الكَبِيرِ خِزْيٌ وَعَارٌ !!
أَيُّهَا السَّادَةُ: إَهَانَةُ الكَبِيرِ وَالتَّقْلِيلُ مِن شَأْنِهِ مِن شِيَمِ الأَنذَالِ وَلَيْسَتْ مِن شِيَمِ الأَخْيَارِ وَسِمَةُ الجَاهِلِينَ وَعَلَامَةُ الخَاسِرِينَ وَدَلِيلٌ عَلَى ضُعْفِ الإِيمَانِ وَصِفَةٌ ذَمِيمَةٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إِلَّا ذَمِيمٌ مَذْمُومٌ، إَهَانَةُ الكَبِيرِ دَاءٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ، وَوَبَاءِ خُلُقِيٌّ كَبِيرٌ مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلَّا كَانَ نَذِيرًا لِهَلَاكِهَا وَمَا دَبَّ فِي أُسْرَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبًا لِفَنَائِهَا فَهُوَ مَصْدَرُ كُلِّ عَدَاءٍ، وَيَنْبُوعُ كُلِّ شَرٍّ وَتَعَاسَةٍ.
لِذَا حَذَّرْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن إِهَانَةِ “كِبَارِ السِّنِّ”، فَنَفَى عَنْهُ النَّبِيُّ المُخْتَارُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “كَمَالَ الإِيمَانِ” رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبْطَأَ القَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا»؛ فِي رِوَايةِ عَمْرُو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: ((وَيَعْرِفُ شَرَفَ كَبِيرِنَا))، وَهَذَا زَجْرٌ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((لَيْسَ مِنَّا)) أَيْ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَهَدْيِنَا وَطَرِيقَتِنَا مَن لَمْ يُوَقِّرِ الكَبِيرَ.
إِهَانَةُ الكَبِيرِ إِفْلَاسُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَt أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ eقَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)
إهَانَةُ الكَبِيرِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النِّفَاقِ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ – صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: “ثَلاثٌ لَا يَسْتَخِفُّ بِهِنَّ إِلَّا مُنَافِقٌ: ذُو الشَّيْبَةِ فِي الإِسْلَامِ، وَذُو العِلْمِ وَإِمَامٌ مُقْسِطٌ.” وَالاِسْتِخْفافُ كَأَنْ يَهْزَأَ بِهِ وَيَسْخَرَ مِنْهُ وَيُوَجِّهَ كَلَامًا سَيِّئًا إِلَيْهِ، وَيُسِيءُ الأَدَبَ فِي حَضْرَتِهِ، وَيَنْهَرَهُ فِي وَجْهِهِ وَكَمْ مِنْ مَنَاظِرَ يَنَدِي لَهَا الجَبِينُ نُشَاهِدُهَا فِي الطُّرُقِ وَوَسَائِلِ السَّفَرِ المُخْتَلِفَةِ وَنُجْبَرُ عَلَى سَمَاعِهَا مِنْ دَاخِلِ الْبُيُوتِ عَلَى مَا يُقَالُ فِيهَا تَدْمِي لَهَا الْقُلُوبُ.
إِهَانَةُ الكَبِيرِ دَلِيلٌ عَلَى سُوءِ الأَدَبِ وَسُوءِ التَّرْبِيَةِ فَاجْعَلْ مَنْ يَرَاكَ يَدْعُو لِمَنْ رَبَّاكَ لَا يَدْعُو عَلَيْهِمْ بِالْوَيْلِ وَالْهَلاَكِ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)) [التحريم: 6]، قَالَ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: عَلِّمُوا أَهْلِيكُمْ الخَيْرَ. وَمِنَ الْخَيْرِ احْتِرَامُ الْكَبِيرِ وَعَدَمُ إِهَانَتِهِ .
إِهَانَةُ الكَبِيرِ وَالتَّقْلِيلُ مِن شَأْنِهِ كِبْرٌ وَالكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الشَّرِّ، قَالَ ﷺ: (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ).إِهَانَةُ الكَبِيرِ وَالتَّقْلِيلُ مِن شَأْنِهِ وَاحتِقَارُ المُسلِمِ وَاستِصغَارُهُ، وَالاستِخفَافُ بِهِ وَازدِرَاؤُهُ، لَيْسَ مِنْ هُدَى الْإِسْلَامِ؛ لَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ” المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ، لا يَظلِمُهُ وَلا يَخذُلُهُ، وَلا يَكذِبُهُ وَلا يَحقِرُهُ، التَّقوَى هَاهُنَا – وَيُشِيرُ إِلى صَدرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ – بِحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وَعِرضُهُ ” رَوَاهُ مُسلِمٌ. أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَخفِضِ الجَنَاحَ لِلمُؤمِنِينَ، فَقَد أَمَرَ اللهُ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ فَقَالَ: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88] وَلْنَحذَرِ التَّعَالِيَ وَالتَّعَاظُمَ عَلَى النَّاسِ مَهمَا احتَقَرَتهُم أَعيُنُنَا أَو صَغُرَ شَأنُهُم في الظَّاهِرِ؛ فَقَدِ استَهَانَ إِبلِيسُ بِآدَمَ وَسَخِرَ مِنهُ قَائِلًا: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12] فَبَاءَ بِالخَسَارَةِ وَالخِذلانِ وَأَبعَدَهُ اللهُ ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 13] وَالمِيزَانُ عِندَ اللهِ التَّقوَى، وَالتَّقوَى مَحَلُّهَا القَلبُ، وَاللهُ أَعلَمُ بِمَنِ اتَّقَى، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ” كَم مِن أَشعَثَ أَغبَرَ ذِي طِمرَينِ لا يُؤبَهُ لَهُ، لَو أَقسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ ” رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ. فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِن رُؤيَةِ النَّفسِ وَالاستِهزَاءِ بِالآخَرِينَ وَتَحقِيرِهِم مَهمَا كَانَ أَحَدُنَا مُطِيعًا لِرَبِّهِ مُنعَمًا عَلَيهِ في نَفسِهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ تَحقِيرُهُ وَاستِهزَاؤُهُ بِإِخوَانِهِ سَبَبًا في انتِكَاسِهِ وَزَوَالِ نِعمَةِ اللهِ عَنهُ، فَقَد رَوَى مُسلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – حَدَّثَ ” أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لا يَغفِرُ اللهُ لِفُلانٍ. وَإِنَّ اللهَ – تَعَالى – قَالَ: مَن ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَلاَّ أَغفِرَ لِفُلاَنٍ؟! فَإِنِّي قَد غَفَرتُ لِفُلانٍ وَأَحبَطتُ عَمَلَكَ ” أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].
وَكَيْفَ لَا ؟ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ هُوَ أَحَدُ أَسْوَأِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا بَشَرٌ ، ثُمَّ إِنَّهَا مِنْ مُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ ، وَأَحَدُ مَذْهَبَاتِ الْحَسَنَاتِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: ” «قِيلَ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): لَا خَيْرَ فِيهَا ، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، قَالُوا : وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَ لَا تُؤْذِي أَحَدًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» “
فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَإِهَانَةَ الْكَبِيرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ فَهَذَا خِزْيٌ وَهَلَاكٌ وَخَرَابٌ وَدَمَارٌ ، لِذَا جَاءَتِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ تُرْهِبُ وَتُنْذِرُ وَتُحَذِّرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاوِئِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الْاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}} أَمْسِكْ لِسَانَكَ ، وَكَفَّ أَذَاكَ عَنْ النَّاسِ .. فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ ، وَكَمَالِ الْإِسْلَامِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسُّلَامُ ” « تَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: مَن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ”
وَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْكُبَارَ فِي الشَّوَارِعِ وَالطَّرِقَاتِ وَالْمَوَاصَلاتِ فَتَقَعَ فِي خَصْلَةٍ مِنَ النِّفَاقِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا(({{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
لِسَانُكَ لَا تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ *** فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَيْنُكَ إِنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَايِبًا *** فَصُنْهَا وَقُلْ: يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي ولكُم ….الخطبةُ الثانيةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ ….وبعد
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: صُورٌ وَنَمَاذِجُ مُشَرِّفَةٌ لِتَوْقِيرِ الكِبَارِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: لَقَدْ ضَرَبَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي تَوْقِيرِ الْكِبَارِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ فَقَدْ أَتَتْهُ عَجُوزٌ كَانَتْ صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ لَهَا: “كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟” قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ! فَقَالَ: “إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ” رَوَاهُ الْحَاكِمُ، فَانْظُرْ لِهَذِهِ الْحَفَاوَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ مِنْهُ لِهَذِهِ الْفِئَةِ لِتَرَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خُلُقٍ كَرِيمٍ.
وَعَلَّمَنَا نَبِيِّنَا صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقَافَةَ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ مَعَ “كِبَارِ السِّنِّ”، وَالْبَشَاشَةِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَعَدَمِ التَّدْقِيقِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَتَتْهُ عَجُوزٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: «إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ»، فَذَهَبَ نَبِيُّ اللَّهِ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ لَقِيَتْ مِنْ كَلِمَتِكَ مَشَقَّةً وَشِدَّةً، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: «إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَدْخَلَهُنَّ الْجَنَّةَ حَوَّلَهُنَّ أَبْكَارًا» [رواه الطبراني في “المعجم الأوسط”].
وَلَقَدْ ضَرَبَ الصَّحَابَةُy الْأَخْيَارُ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي تَوْقِيرِ الْكِبَارِ وَإِكْرَامِهِمْ حَتَّى مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَهذا فَارُوقُ الأُمَّةِ وَعِمْلاقُ الإِسْلامِ عُمَرُ – رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ – وَهُوَ خَلِيفَةٌ- يَخْرُجُ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ، فَيَدْخُلُ بَيْتًا؛ لَيَقْضِي حَاجَةَ امْرَأَةٍ عَجُوزٍ عَمْيَاءَ قَدْ قَعَدَ بَهَا السِّنُّ، فَرَآهُ طَلْحَةُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَلْحَةُ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَإِذَا بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ، فَقَالَ لَهَا: مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى، فَقَالَ طَلْحَةُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ أَعَثَرَاتِ عُمَرَ تَتْبَعُ؟!
وهذا مَوقفُ عُمَرَ – رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَعَ ذَلِكَ الشَّيْخِ الْيَهُودِيِّ الْكَبِيرِ فَيَذْكُرُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتابِهِ (الْخَرَاجِ) “أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ – مَرَّ بِبَابِ قَوْمٍ وَعَلَيْهِ سَائِلٌ يَسْأَلُ ـ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَضَرَبَ عَضُدَهُ مِنْ خَلْفِهِ فَقَالَ: مِنْ أَيِّ أَهْلِ الْكُتُبِ أَنْتَ؟ قَالَ: يَهُودِيٌّ. قَالَ: فَمَا أَلْجَأَكَ إِلَى مَا أَرَى؟ قَالَ: أَسْأَلُ الْجَزْيَةَ، وَالْحَاجَةَ، وَالسِّنَّ. قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ـ بِيَدِهِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ فَرَضَخَ لَهُ ـ أَيِ أَعْطَاهُ ـ مِنَ الْمَنْزِلِ بِشَيْءٍ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَازِنِ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ: انْظُرْ هَذَا وَضَربَاءَهِ، وَاللَّهُ مَا أَنْصَفْنَاهُ إِذَا أَكَلْنَا شَبِيبَتَهُ ثُمَّ نَخْذُلَهُ عِندَ الْهَرَمِ (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ).. سُورَةُ التَّوْبَةِ 60….. وَهَذَا مِنَ الْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَضَعَ عَنْهُ الْجَزْيَةَ “.
رَوَى مُعَاذُ بنُ سَعِيدٍ، قَالَ: (كُنَّا عِندَ عَطاءِ بنِ أَبِي رَباحٍ، فَتَحَدَّثَ رَجُلٌ بِحَدِيثٍ فَاعْتَرَضَ لَهُ آخَرُ فِي حَدِيثِهِ، فَقَالَ عَطاءٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا هَذِهِ الأَخْلَاقُ؟ مَا هَذِهِ الأَحْلَامُ؟ إِنِّي لَأَسْمَعُ الحَدِيثَ مِن الرَّجُلِ وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَأُرِيهِم مِن نَفْسِي أَنَّنِي لَا أُحْسِنُ مِنْهُ شَيْئًا!) فَاللَّهَ اللَّهَ فِي تَوْقِيرِ الْكِبَارِ اللَّهَ اللَّهَ فِي احْتِرَامِ الْكَبِيرِ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
وَبَعْدَ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ نُؤَثِّرَ الْكَبِيرَ فِي الْجُلُوسِ فِي الْمَكَانِ الْمُحَدَّدِ لَهُ فِي وَسِيلَةِ السَّفَرِ ؟هَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَأْخُذَ بِأَيْدِيهِمْ عِنْدَ عُبُورِ الطَّرِيقِ؟ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَقُومَ لَهُمْ عِنْدَ حُضُورِهِمْ وَنُقَبِّلَ أَيْدِيَهُمْ؟ هَلْ يُمْكِنُ إِنْهَاءُ مَصَالِحِهِمْ فِي أَسْرَعَ وَأَيْسَرَ وَقْتٍ مَعَ الْبَشَاشَةِ فِي وُجُوهِهِمْ؟ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَقُومَ عَلَى خِدْمَتِهِمْ وَنُرَاعِي فِيهِمْ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ وَلَاسيَّمَا إِذَا كَانُوا آبَاءَ أَوْ أُمَّهَاتٍ؟ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا حُبَّ الْقِيَامِ عَلَى خِدْمَةِ وَرِعَايَةِ الْكِبَارِ.
حَفِظَ اللهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الكَائِدِينَ، وَشَرِّ الفَاسِدِينَ، وَحِقْدِ الحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ المَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ المُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ المُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الخَائِنِينَ.
كَتَبَهُ العَبْدُ الفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ
د/ مُحَمَّدٌ حِرْزٌ
إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الأَوْقَافِ









