خطبة الجمعة «مظاهر عناية الإسلام بالطفولة» للدكتور محمد داود

خطبة الجمعة بتاريخ 26 ديسمبر 2025م ، الموافق 6 رجب 1447 هـ تحت عنوان «مظاهر عناية الإسلام بالطفولة» للدكتـــــور/ محمد حســــن داود
(٦ رجب1447هـ – 26 ديسمبر 2025م)
خطبة الجمعة word «مظاهر عناية الإسلام بالطفولة» للدكتور محمد داود
خطبة الجمعة pdf «مظاهر عناية الإسلام بالطفولة» للدكتور محمد داود
العناصـــــر :
– الطفولة مرحلة أساسية في بناء الشخصية.
– صور ومظاهر عناية الاسلام بالأطفال.
– خطورة الألعاب الالكترونية على الأطفال.
– دعوة إلى تحقيق معاني الاهتمام بالأطفال .
الموضــــــوع: الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فإن مرحلة الطفولة مرحلة أساسية في بناء الشخصية، إذ يُبنى فيها جسد الطفل؛ حيث يتعلم المشي والكلام وغيرهما، وتُبنى فيها مهاراته، وتنمو مواهبه، وتكتمل مشاعره، وتُبنى فيها الكثير من جوانبه الروحية، والنفسية والعقلية، ولذا يؤكد المختصون في التربية أن مرحلة الطفولة من أهم مراحل تكوين ونمو الشخصية، وهي مجال إعداد وتدريب للطفل للقيام بالدور المطلوب منه في الحياة؛ لذلك كان اهتمام الإسلام بأمرها اهتماما بالغا، فمع أن الأبناء نعمة ومنة وهبة من الله (عز وجل)، مع أنهم زهرة الحياة الدنيا وزينتها، مع أنهم بهجة النفوس وقرة الأعين، إذ يقول الله (عز وجل): (لْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) (الكهف:46) هم أيضا جيل الغد، ورجال المستقبل، ومن ثم كان اهتمام الإسلام ببناء الأطفال وعنايته بهم عناية فائقة حتى يكون هؤلاء الأبناء ذخرا لآبائهم، وثمرة صالحة ينفعون دينهم ووطنهم، ومن ذلك الاهتمام والبناء:
– أن ترى عناية الإسلام بهم قبل ولادتهم؛ فلما كان الدور الأكبر في الرعاية والنشأة الطيبة، يتمثَل في دور الوالدين، فقد حرص الإسلام على أن تنشأ الأسرة في الأساس بزوج تقيٍ وزوجة صالحة، فعن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) أن النبي (صَلى الله عليه وسلم)، قال” تَخَيَّروا لِنُطَفِكُم” (رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي) فلقد حث النبي (صَلى الله عليه وسلم) على اختيار الزوجة الصالحة التي بدورها ستكون مدرسة طيبة للطفل ينهل منها حسن الأخلاق وطيب الصفات، فقال الحبيب (صلى الله عليه وسلمَ): “تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ” (رواه البخاري ومسلم)، وكذلك حث الزوجة وأهلها على اختيار الزوج على نفس المعيار والأساس؛ فقال: “إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ” (رواه الترمذي) ولا ريب في أن هذا الاختيار وذاك الأساس من شأنه أن يعود بالتربية الحسنة واكتساب الأخلاق الحميدة من الوالدين، لما لهما من تأثير على أخلاق الطفل وسلوكه.
– البناء الجسدي والصحي: ومنه دعوة الإسلام إلى إتمام فترة الرضاعة، حيث أثبتت البحوث أن إتمام فترة الرضاعة من الضرورة بمكان لنمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية، قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) (البقرة: 233) فمع كون إرضاع الأم للطفل غذاء جسدي، هو أيضا غذاء عاطفي رفيع؛ الحاجة إليه ليست أقل من الحاجة إلى الطعام والشراب، كونه ممزوجا بعطفها وحنانها.
– اهتمام الإسلام بالأطفال من الناحية النفسية: ومن ذلك أن حثنا على انتقاء الأسماء الحسنة لهم، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ ” (رواه أبو داود)، وفي ذلك مراعاة للجانب النفسي عند الطفل، ولا شك أن هذا الجانب من أهم الأسس التي تبنى عليها شخصية الفرد منذ طفولته، ويظهر هذا جليا فيما روى أن الفاروق عمر بن الخطاب، (رضي الله عنه) جاءه رجل يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر الرجل وابنه وأنَّبه على عقوقه لأبيه، ونسيانه لحقوقه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (أي القرآن)، قال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جُعلاً (أي خنفساء)، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً. فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إليَّ تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك “.
فالطفل يتأثر نفسياً باسمه وكنيته، وتتأثر رؤيته لنفسه بذلك، فنجد بعض الأطفال الذين يعانون من أسمائهم (لأنها تحمل معان سيئة)، في حرج، بينما لو منحه أبواه اسماً جميلاً، ذا معنى ومغزى، انعكس ذلك عليه بهجة وسعادة، وفي الغالب أيضا سعيا إلى الصفات الحميدة التي يحملها هذا الاسم؛ ولقد كان النبي (صَلى الله عليه وسلم) يحب الأسماء الجميلة، ويبدل غيرها؛ فغير اسم عاصية: وقال أنت جميلة. وسمى حربا: سلماً. وشعب الضلالة: شعب الهدى. وعن سيدنا الإمام عَلِيٍّ (رضي الله عنه)، قَالَ: لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: “أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟” قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا. قَالَ: “بَلْ هُوَ حَسَنٌ” فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: ” أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ ” قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا. قَالَ: “بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ ” فَلَمَّا وُلِدَ الثَّالِثُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ النَّبِيُّ (صَلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: ” أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ ” قُلْتُ: حَرْبًا. قَالَ: ” بَلْ هُوَ مُحَسِّنٌ ” (رواه أحمد).
– كذلك من رعاية الطفل نفسيا: الإحسان والرحمة وإدخال السرور عليه وعدم الغلظة معه؛ فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رضي الله عنها)، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: يَا عَائِشَةُ : “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُك الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ” (رواه مسلم).
– كما اهتم الإسلام بالطفل وجدانيا ومعنويا: فلقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ) يحسن إلى الأطفال ويرفق بهم، فعَنِ بُرَيْدَةَ (رضي الله عنه)، قال: “بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، إِذْ أَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عَلَيْهِمَا السَّلَام)، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ وَحَمَلَهُمَا، فَقَالَ: “صَدَقَ اللَّهُ (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: 15)، رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى نَزَلْتُ فَحَمَلْتُهُمَا” (رواه النسائي)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه): أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، أَبْصَرَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ، لَا يُرْحَمْ” (رواه مسلم)، وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ: “جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ” (رواه البخاري).
– كذلك من مظاهر عناية الإسلام بالأطفال وجدانيا ومعنويا: نهي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عن الدعاء عليهم، فعن جابر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ): “لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ (تبارك وتعالى) سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ ” (رواه أبو داود) ، بل كان أنبياء الله (عليهم السلام) وخيرته من خلقه يسألون الله لذريتهم الصلاح والهداية، قال تعالى حكاية عن الخليل إبراهيم (عليه السلام): (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (إبراهيم: 40)، ومن دعاء عباد الرحمن كما في القرآن الكريم: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74) وها هو الرجل الصالح الذي أنعم الله عليه بنعمه يتذكر نعم الله عليه، ويقول شاكرا لنعم الله، وأفضاله: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15).
– ومن اهتمام الإسلام بالأطفال اجتماعيا ونفسيا: التسوية بينهم: فحذر الآباء من إثارة الغيرة بين الأبناء بتفضيل بعضهم على بعض بأي صورة من صور التفضيل المادي أو المعنوي لما في ذلك من أثر غير محمود على الطفل؛ فحينما أراد أحد الصحابة أن يشهد رسول الله (صَلى الله عليه وسلم) على هبة لأحد أولاده، فترى كيف كان رد الرسول (صَلى الله عليه وسلم)؛ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنه) قَالَ : انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ : أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ : ” فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ” ثُمَّ قَالَ : “أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً ” قَالَ: بَلَى . قَالَ: ” فَلا إِذًا ” ( رواه مسلم).
– ومنه أيضا عدم التفريق بين الذكور والإناث في المعاملة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “مَنْ وُلِدَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا، أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ” (مستدرك الحاكم) وعن أَنس (رضي اللَّه عنه) عن النَّبيّ (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم) قَالَ: “مَنْ عَالَ جَارِيتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَومَ القِيامَةِ أَنَا وَهُو كَهَاتَيْنِ” وَضَمَّ أَصَابِعَهُ (رواه مسلم).
– كذلك اهتم الإسلام بهم دينيا وسلوكيا وأخلاقيا؛ فأمر الوالدين بغرس المثُل الطيبة والقيم النبيلة في نفوس الأبناء، وتأصيل الأخلاق الحميدة التي جاء بها ديننا الحنيف، فالله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).
وإن الناظر في سنة المصطفى (صلى الله عليه وسلمَ) يرى مدى اهتمامه بتوجيه الأطفال وتربيتهم على الدين الصحيح والأخلاق والقيم، وتعليمهم الآداب، وهذا يظهر جليا في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسَلم، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَوْمًا، فَقَالَ: “يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”.
– كذلك من وصاياه في تربية الصغار تعويدهم الصلاة لتتعلق قلوبهم بفرائض الله تعالى وليحرصوا على طهارة القلب والبدن، وفي ذلك يقول الرّسول (صلى الله عليه وسلمَ): “مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ سِنِينَ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ” (رواه أبو داود )،
– وفي الأخلاق :عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلَم)” وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ ؟”. قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلَم): “أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ “( أبو داود).
– كما كان (صلى الله عليه وسلمَ) لا يترك فرصة أو موقفا، تهيأ الصغير فيه إلى بيان أو تعليم أو تأديب، إلا وجهه برفق وحب، فعن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “يَا غُلَامُ: سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ” فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ. (رواه البخاري)
– كذلك اهتم الإسلام بهم من الناحية العلمية والثقافية: فَكَان أَول ما نزل من القرآن الكريم قول الحقِ (سبحانه وتعالى): (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، ولم نر في القرآن الكريم أمرا للنبي (صَلى الله عليه وسلم) فيه الحرص على الاستزادة من شيء كما رأيناه في العلم، فقد قال تعالى: ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا). فبالعلم تتفاضل الناس، كما تتفاضلُ الأمم؛ قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9)، وبالعلم تتطور الأمم وتنهض وتتقدم؛ فلا يمكن أن تبنى حضارة دون أن يكون أَحد أركانها العلم؛ ولله در القائل:
بِالعِلمِ وَالمالِ يَبني الناسُ مُلكَهُمُ *** لمَ يُبنَ مُلكٌ عَلى جَهلٍ وَإِقلالِ.
ولقد كان من اهتمام النبي (صلى الله عليه وسلمَ) بتعليمهم أن جعل فداء بعض أسرى بدر من المشركين أن يقوموا بتعليم عشرة من غلمان المدينة القراءة والكتابة. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِي (رحِمَهُ اللَّهُ): “يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُكْرِهَ وَلَدَهُ عَلَى الْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ مَسْؤُولٌ عَنْهُ”(سير أعلام الأنبياء).
– كما أن من صور الاهتمام بهم فكريا وثقافيا وعقليا واجتماعيا: الوقوف على أفكارهم فنؤكد على صحيحها، وننزع منها فاسدها، نؤكد على الوسطية والتيسير بعيدا عن التشدد والانغلاق والتحجر والتطرف؛ فالنبي (صَلى الله عليه وسلم) يقول: “كفى بالمرءِ إثمًا أن يُضَيِّعَ من يقوتُ”، والإضاعة في التربية والأخلاق والفكر أشد شرا من الإضاعة في المال والإنفاق.
– كذلك غرس حب الوطن والوفاء له في قلوبهم ونفوسهم منذ الصغر حتى يكونوا معاول بناء وسواعد إنتاج وحفاظ ودفاع عن وطنهم.
إن من أخطر ما ابتليت به الأسر في هذا العصر: انغماس الأطفال في عالم السوشيال ميديا والألعاب الإلكترونية حتى غدى ضوء الشاشات أنيسهم، والهواتف صديقهم الأقرب، فلا يكاد أحدهم يفارق جهازه لحظة إلا شعر بالوحشة والفراغ، ولم تعد المسألة – كما يظن البعض- مجرد ترفيه عابر أو تسلية بريئة، بل صارت إدمانا للسوشيال ميديا وللألعاب الإلكترونية، يستهلك الوقت والعقل والعاطفة، مما يؤثر على الأطفال من كل الجوانب.
لا شك أن الإسلام يقر الترويح عن الأطفال؛ فإذا كانت هذه الألعاب تساهم في تنمية قدراتهم وتوسيع ملكاتهم العقلية، وهي مع ذلك منضبطة بضوابط الشرع فلا يدخلها محرم كالقمار أو غيره فلا جرم في ذلك، وإن كان الأمر يستوجب متابعة دقيقة من ولي الأمر لضمان عدم تأثيرها سلبًا على نفسية الطفل أو سلوكه، واختيار الألعاب بما يتناسب مع عمره وحالته، ويعود بالنفع على بنائه عقليًا وذهنيًا وأخلاقيًا، مع تحديد أوقات اللعب بحيث لا تشغله عن واجباته أو تؤثر على صحته، وقد أقر النبي (صَلى الله عليه وسلم) هذا النوع من الألعاب؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَلِي أَخٌ صَغِيرٌ يُكْنَى أَبَا عُمَيْرٍ وَكَانَ لَهُ نُغَرٌ يَلْعَبُ بِهِ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَاتَ يَوْمٍ فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ: “مَا شَأْنُهُ؟” قَالُوا: مَاتَ نُغَرُهُ، فَقَالَ: “يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟” (متفق عليه).
أما إذا كانت هذه الألعاب فيها ضرر على عقولهم أو أبدانهم، أو تحتوي على محظورات ومخالفات منهي عنها كالمقامرة أو تُشجِّع على ارتكاب الرذيلة، أو تروج لأمور مُخلَّة بالقيم والأعراف، أو تنشر مفاهيم مخالفة للإسلام ومبادئه السمحة؛ فلا خلاف على حرمتها ومنعها، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: ٦).
إن الأبناء أمانة واختبار ومسئولية معلقة في عنق العبد فحافظوا عليها وقوموا على حقها بالرعاية، واعلموا أنكم مسئولون عنهم يوم القيامة، إمام الله (عز وجل)، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، يقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): “ إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ : أَحَفَظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ” (رواه ابن حبان).
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما
واحفظ اللهم مصـــر مـن كل مكروه وسـوء
=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن








