خطبة الجمعة : فتراحموا للدكتور محمد داود

خطبة الجمعة : فتراحموا للدكتور محمد داود (25 ذو القعدة ١٤٤٦هـ – 23 مايو ٢٠٢٥م )
خطبة الجمعة word : فتراحموا للدكتور محمد داود
خطبة الجمعة pdf : فتراحموا للدكتور محمد داود
خطبة بعنـــــــوان:
” فتــــراحمـــــوا “
فضل التراحم بين الزوجين ومخاطر العنف الأسري
للدكتــــــور/ محمد حســــــن داود
(25 ذو القعدة ١٤٤٦هـ – 23 مايو ٢٠٢٥م )
العناصـــــر :
– عناية الإسلام بالأسرة.
– النبي (صلى الله عليه وسلمَ) مع أهل بيته.
– دعائم لتحقيق المودة والرحمة والمحبة بين الزوجين.
– مخاطر العنف الأسري.
– دعوة إلى تحقيق معاني المودة والرحمة بين الزوجين.
الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فان الأسرة هي نواة المجتمع الأولى، وأول لبناته، والركيزة الأساسية لبنائه، ومن ثم أولى الإسلام الأسرة اهتماما بالغا؛ حيث تكفل بتنظيم بنائها ورعاية أفرادها، وبيان العوامل والأسس التي تحافظ على استقرارها واستمرارها ونجاحها وسعادتها؛ فكانت في مقدمتها المودة والرحمة والألفة؛ قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)، وقد وصف الله (عز وجل) كلا من الزوجين للآخر بـ “اللباس”، فقال سبحانه وتعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّـهُنَّ) (البقرة: 187) وإن هذا من أبلغ الوصف لحقيقة الرابطة الزوجية، فاللباس من صفته أنه يقي صاحبه المكروه من برد وحر، ويستره عن أعين الناس… وما زال الإسلام يؤكد على مدى التماسك والتراحم والترابط والمودة والألفة بين الزوجين، ووجوب الحفاظ على هذا العقد الذي جمع بينهما حتى وصفه بالميثاق الغليظ، قال تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء:20-21)، هذا الوصف الذي وصف الله به الميثاق الذي أخذه من النبيين، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب: 7)، وفى ذلك إشارة إلى قوة ومتانة هذا العقد، مما يضفي عليه هيبة، وتقديرًا واحترامًا.
ولعلنا نقترب من بيت النبوة لنرى كيف كان حاله (صلى اللهُ عليه وسلم) مع أهله؛ إذ الهدي النبوي في معاملته لأهله مثالا يحتذى به؛ فهو صَلى الله عليه وسلم القائل: “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي” (رواه الترمذي).
– وإن من أول ما يُلتفت إليه هذه العواطف النبيلة، والمشاعر الغامرة، وحبه الشديد لزوجاته، فكان يقول عن أم المؤمنين خديجة (رضي الله عنها)” إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا” (رواه مسلم). ولما سأله عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ (رضي الله عنه): أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: “عَائِشَةُ” قال: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: “أَبُوهَا” ( رواه مسلم).
– وفى صورة من أجمل صور التعاون بين الأزواج ونشر المحبة والألفة تراه صَلى الله عليه وسلم، لا يأنف أن يقوم ببعض عمل البيت فيساعد أهله، فقد سئلت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)؛ مَا كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ:” كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ – تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ – فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ ” (رواه البخاري) وفى مسند الإمام أحمد؛ قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ “، وفى رواية قالت: “كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ “.
– وها هو صَلى الله عليه وسلم يملأ المكان والزمان مع أهل بيته فرحا وسرورا، يفرح لفرحهن ويحزن لحزنهن، يتلطف بهن ويشفق عليهن، فتراه “يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ وَتَضَعُ أم المؤمنين صَفِيَّةُ (رضي الله عنها) رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ” (رواه البخاري عن أنس) وتراه يسابق السيدة عائشة إذ تقول “سَابَقَنِي النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَسَبَقْتُهُ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إِذَا أَرْهَقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):”هَذِهِ بِتِلْكَ”(رواه ابن حبان ). ولما رأى أنجشة (الحادي) يسرع بهن في السير إذ به يقول له: “رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ”.
– وما أعظم وفائه صَلى الله عليه وسلم لزوجاته، إذ يقول عن أم المؤمنين خديجة (رضي الله عنها): “مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ” (رواه أحمد).
إن دعائم تحقيق المودة والرحمة والمحبة في القرآن الكريم وسنة الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ) كثيرة، ولا شك أن تحقيقها والاعتناء بوجودها بين لبنتي الأسرة يحقق نجاحها واستقرارها وسعادتها، وإن من ذلك:
– حسن العشرة ، فقد قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ) (النساء: 19) وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن النبي (صَلى الله عليه وسلم)، قال” خيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى” (رواه ابن ماجه) ويقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ) “اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا” (رواه البخاري).
– حفظ الزوجين ما بينهما من أسرار؛ فعَنْ أبى سعيد الخدري، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) :إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا” وعنه أيضا أن النبي (صَلى الله عليه وسلم) قال: “إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا” (رواه مسلم).
– فهم الزوجين طباع بعضهما البعض؛ فعندما جاء الوحي إلى النبي (صَلى الله عليه وسلم) في غار حراء، رجع النبي إلى السيدة خديجة (رضي الله عنها) وفؤاده يرجف وحكي لها ما حدث، فماذا قالت؟!!! قَالَتْ: “وَاللهِ لَنْ يُخْزِيكَ اللهُ أَبَداً، إِنَّكَ لِتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحَمِلُ الكَلَّ، وتُعِينُ عَلَى نَوائِبِ الدَّهْرِ”، فقد ذكرت رضي الله عنها صفات زوجها، وميزاته وهذا يعني أنها كانت ترقب زوجها، وتعلم طباعه جيدا، فقد عددت ما فيه من أمور لا يطلع عليها إلا من عاشر الإنسان وعرفه معرفة تامة، وتدبر قول النبي (صَلى الله عليه وسلم) لأم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): “إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى”، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: “أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ”، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَك (رواه البخاري) مما يشير إلى الأمر نفسه.
– ولاشك أن من حسن العشرة: التشاور بين الزوجين؛ إذ يشيع روح المحبة والمودة والتفاهم، ويبعث الثقة والطمأنينة في النفس، كما يشعر كل طرف أن الآخر يحترم عقله ويقدره؛ والتشاور بين الزوجين مبدأ إسلامي أصيل من أهدافه تحقيق استقرار الأسرة، كما أنه مدخل للتفاهم وتجديد الحب، والعون على تخطى المشكلات، واستمرار الحياة الزوجية، أما غيابه فهو باب لضياع الحب والتفاهم، كما أن غيابه يؤدى إلى كثرة الخلافات والصدامات، وفقدان الثقة بين الطرفين، ولقد قال تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍۢ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍۢ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوٓاْ أَوْلَٰدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 233) فإذا كان القرآن الكريم يذكر التراضي والتشاور بين الزوجين في أمور إرضاع الأطفال وفطامهم، فما بالنا بما هو أعظم من ذلك في شئون الحياة وأكثر دواماً وأجدر؟ ولعل الجميع يعلم ما كان من النبي (صلى الله عليه وسلمَ) يوم صلح الحديبية إذ شاور السيدة أم سلمة (رضي الله عنها) ورضي رأيها.
– الصبر على الهفوات وتحمل الزلات: فعَنِ النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَسَمِعَ عَائِشَةَ وَهِيَ رَافِعَةٌ صَوْتَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ أُمِّ رُومَانَ وَتَنَاوَلَهَا أَتَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: فَحَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ جَعَلَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ لَهَا يَتَرَضَّاهَا: “أَلَا تَرَيْنَ أَنِّي قَدْ حُلْتُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَكِ” قَالَ: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ يُضَاحِكُهَا، قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْرِكَانِي فِي سِلْمِكُمَا كَمَا أَشْرَكْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا” (رواه أحمد). فلا شك أن من أعظم ما تستقيم به الحياة الزوجية الصبر على الهفوات والتسامح والتغاضي عن الزلات؛ فمن الوارد في الحياة الزوجية حدوث الخلافات والمشادات، وأن يخرج أحد الزوجين عن هدوئه وحلمه، فعندئذ وجب على الزوج الآخر مراعاة اللحظة التي يعيشها زوجه من الضيق والغضب، وَقد رُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ لِزَوْجَتِهِ: “إِذَا رَأَيتِينِي غَضِبْتُ فَرَضِّينِي، وَإِذَا رَأَيْتُكِ غَضِبْتِ رَضَّيْتُكِ، وَإِلَّا لَمْ نَصْطَحِبْ”. ولا بجدر بنا أن ننسى هذا المعيار المهم بين الزوجين، وهو معيار تذكر الفضل، فهو أساس في التعامل بين الزوجين قال تعالى: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة: 237)، فليتذكر كلا من الطرفين أن زوجه الذي أكرمه الله به إن كان ساءه يوما، فقد سره أياما، وإن أحزنه عاما، فقد سره أعواما، وأنه أعطى من صحته وجهده الكثير، ومن ثم فلا ينبغي أن تكون هفوة أو زلة حاملة لأحد الزوجين على الشقاق، بل تُغفر السيئة للحسنة، ويتغاضى كل منهما عما يكره لما يحب، ويُغَلِّب النظر إلى المحاسن بقلبه وعقله، وما أروع ما قاله الحافظ العراقي، في تخريجه لأحاديث “الإحياء”: “واعلم أنه ليس حسنُ الخُلُقِ معها كفُّ الأذى عنها، بل احتمالُ الأذى منها، والحِلم عن طيشها وغضبها، اقتداءً برسول الله (صلى الله عليه وسلمَ)”.
إن الحياة لا تسير على الأسرة بوتيرة واحدة، ولا تمر الأيام على نسق واحد، ولا يهب النسيم عليلا داخل البيت على الدوام، فربما يَعصِف بالبيت السعيدِ عواصف وزعازع تحاول أن تذهب بالوفاق، أو تزرع الافتراقَ، وهنا لا ينبغي للزوجين إلا اللجوء إلى التفاهم للوصول إلى الوفاق، فالخير كله في الصلح والتوافق والتراضي والإحسان، قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 128)، ولقد جاء رجل إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وقال: إنني لا أحب زوجتي وأريد طلاقها، فظل عمر (رضي الله عنه) يناقش الرجل، وفي نهاية حواره معه قال له: “ويحك ألم تبن البيوت إلا على الحب؟!. فما أعظم قول الله (سبحانه وتعالى) علاجا لمثل هذا (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء19) وقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ” (لا يفرك: أي لا يبغض) ففي ذلك الحكمة البالغة والعظة النابغة؛ لعلاج الهفوات، وتدارك الزَلات بين الأزواج والزوجات، وفيه الموازنة العاقلة المنصفة بين الإيجابيات والسلبيات، والحسنات والسيئات، فمَن الذي ما ساء قطُّ، ومَنِ الذي له الحسنى فقط. ورضي الله عن “خولة بنت ثعلبة” فقد رأينا في كتب السنة مدى حرصها على بيتها وأولادها، وقد لجأت إلى الله (عز وجل) ورسوله، فنزلت الآيات في أمرها، قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ…الآيات).
لقد كان النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) حنونا ودودا، حسن العشرة، حياة زوجاته معه حياة كريمة مليئة بالمحبة والوئام، فكان يكرم ولا يهين، يوجه وينصح، ولا يعنف أو يجرح؛ فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ أنها قَالَتْ: “مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” (رواه مسلم)، وعَنْها أيضا أَنَّهَا سُئِلَتْ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا خَلا فِي بَيْتِهِ، قَالَتْ: “كَانَ أَلْيَنَ النَّاسِ وَأَكْرَمَ النَّاسِ وَكَانَ رَجُلا مِنْ رِجَالِكُمْ إِلا أَنَّهُ كَانَ ضَحَّاكًا بَسَّامًا “.وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المسلم؛ فالعنف الأسري ليس بابا لاستقامة الحياة الزوجية ولا حلا لمشكلاتها بل هو في حد ذاته من سوء المعاملة وسوء العشرة، ينتج عنه ضعف الثقة بين الزوجين بل وذهابها بالكلية، كما يخلف اضطرابا في الحياة الزوجية وقلقا وتوترا وما أعظم قول النبي (صَلى الله عليه وسلم) يقول: “إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ” (رواه مسلم) ، وقوله أيضا: “إذَا أَرَادَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ الرِّفْقَ ” (رواه أحمد). ولندرك جميعا أن أحب الأعمال إلى الشيطان هو هدم البيوت، فعن جَابِرِ بن عبد الله (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ” (رواه مسلم).
فتراحموا، وتعاونوا على المودة والوئام، وابتعدوا عن كل ما يؤدي للتباغض، وغضوا الطرف عن الهفوات والزلات، ولا تنسوا الفضل بينكم؛ تهنأ أسركم وتسعد أولادكم. فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا”. ويقول: “أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا” (رواه الترمذي).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، واصرف عنا سيئها، واحفظ مصر من كل مكروه وسوء، واجعلها اللهم أمنا أمانا سخاء رخاء يا رب العالمين.
=== كتبه ===
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن