خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة ، حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محمد داود

خطبة الجمعة القادمة ، حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محمد داود ، (18 ذو القعدة ١٤٤٦هـ – 16 مايو ٢٠٢٥م )

خطبة الجمعة القادمة word حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محمد داود

خطبة الجمعة القادمة pdf حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط ، للدكتور محمد داود

حب التناهي شطط.. خير الأمور الوسط
للدكتــــــور/ محمد حســــــن داود
(18 ذو القعدة ١٤٤٦هـ – 16 مايو ٢٠٢٥م )

العناصـــــر :   
– الإسلام دين الوسطية والاعتدال.
– مظاهر ومعالم للوسطية والاعتدال في الإسلام.
– فضائل الوسطية والاعتدال وعواقب التشدد والغلو والانغلاق.
– دعوة إلى تحقيق معاني الوسطية والاعتدال.

الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي جعل الوسطية في الدين أمرا معلوما، ومنهجا مرسوما، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

 

فإن من عظيم أمر الإسلام أنه دين الوسطية والاعتدال، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143).

 ومن يتأمل الشريعة الإسلامية يجد أن كل ما فيها يدعونا إلى تحقيق هذه القيمة النبيلة والمنهج العظيم، إذ يقول المولى (عز وجل) في حق النبي (صلى اللهُ عليه وسلم): (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4): ويقول النبي (صلى اللهُ عليه وسلم): بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ”.

ودعوة وسبيل إلى تحقيق الوسطية والاعتدال في حياة الإنسان تجد قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) بعد قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32).

وتجد في قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود: 112) أمر من الله (عز وجل) بالاستقامة وتحقيق الوسطية والاعتدال، كما عقب سبحانه بالنهي عن الطغيان، مما يعني أن الغلو والتشدد في الدين طغيان منهي عنه، فالمطلوب من المسلم هو ما أمر به الله (عز وجل) ورسوله (صلى الله عليه وسلمَ) بدون غلو ولا مبالغة ولا تشديد يحيل هذا الدين من يسر إلى عسر؛ حيث إن الطغيان هو مجاوزة الحد. ولقد سألَ رجلٌ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ فقال: إِنَّكَ تُخْرِجُ أَمْثَالَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مِنَ الْقُرْآنِ فَهَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ: “خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا”؟ قَالَ: نَعَمْ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)، وقولُهُ تعالَى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (َلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)” (الإتقان في علوم القرآن، للإمام السيوطي).

إن الوسطية والاعتدال سمة عالية وصفة قيمة، في ظلها يسلم الإنسان من الانحراف والشطط، فلا شك أن الفكر الوسطي والرأي المعتدل والشخص المتوازن، دائما يذكر في مقام التقدير والإعجاب والقدوة الحسنة وما ذلك إلا لأن الوسطية قد وضعته على سبيل سوي وطريقة مستقيمة، والفرق واضح جلي بين متزن في قصده، مستقيم في مسلكه، وبين متشدد منغلق متعثر يعاني من المشقة والأمر العضال بتشدده، فالأول مهتد سعيد بما أقره الإسلام من وسطية واعتدال ويسر وسماحة، والثاني عن الهداية والسعادة ناء وبعيد بما اختلقه بفكره من تشدد وانغلاق وتطرف، والله (تعالى) يقول: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك: 22).

إن من فضل الله (عز وجل) على هذه الأمة أن جعلها وسطٌا بين طرفي الإفراط والتفريط، لا غلو ولا تقصير، ولهذه الوسطية معالمها ومظاهرها التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة؛ وإن من معالمها ومظاهرها: الجمع بين التوكُّل على الله وبين الأخذ بالأسباب فقد قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51)، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا”

كما تجد في أمر السلوك والتصرفات قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67) ، وقوله سبحانه: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا*إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (الإسراء : 29-30) وقوله عز وجل:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31). وعِنْدَمَا أَرَادَ سيدنا سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ (َرضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، قَالَ لَهُ الرَّسُولُ (صَلى الله عليه وسلم): ” لاَ “، قَالَ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: ” لاَ “، قَالَ: فَالثَّلْثُ؟ قَالَ: “الثُّلْثُ، والثُّلْثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَدَع وَرثَتَكَ أَغْنِياءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ”.

وفى العبادة تجد قوله صلى الله عليه وسلمَ: “عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا” (رواه البخاري) ولما جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ‏يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ، ‏فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ ‏تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ ‏‏ ‏قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا؛ فَجَاءَ رسول الله (صَلى الله عليه وسلم)‏َ‏ ‏إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ‏”أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ: كَذَا وَكَذَا، أَمَا والله إِنِّي ‏لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي” (رواه البخاري ومسلم). وعن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أم المؤمنين عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، مَرَّتْ بِهَا، وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقُلْتُ هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) “لَا تَنَامُ اللَّيْلَ خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا” (رواه مسلم). ولما رأى حبلاً ممدودًا بين ساريتين، قَالَ: “مَا هَذَا؟”، قَالُوا: لِزَيْنَبَ، تُصلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ. فأمر (صَلى الله عليه وسلم) بإزالته. وقال: “حُلُّوه” ثُمَّ قَالَ: “لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ”(متفق عليه). وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: “رَأَى النَّبِيُّ (صَلى الله عليه وسلم) رَجُلًا يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ قَالَ: “إِنَّ اللهَ ‌غَنِيٌّ ‌عَنْ ‌تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، مُرْهُ فَلْيَرْكَبْ” (رواه النسائي). وعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: آخَى النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “صَدَقَ سَلْمَانُ”(رواه البخاري) . ولما رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ : مَا بَالُ هَذَا؟، قَالُوا: نَذَرَ أَلَّا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَجْلِسْ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ”.

– نعم، إن الاسلام دين الوسطية والاعتدال، ومن أعظم ما دل على ذلك، دعوته إلى التوزان بين العمل والعبادة، بين ما ينفع الناس في معاشهم ومعادهم، وفي ذلك يقول الله (عز وجل): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الجمعة: 9- 10) فكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” إذا فالإسلام دين يدعو الناس ويحثهم على عمارة دنياهم وأخراهم على السواء، ففي الاهتمام بواحدة وإغفال الأخرى بُعد عن التوازن، ولقد كان رسول الله (صَلى الله عليه وسلم) يسأل ربه أن يعمر دنياه وأخراه، فما أكثر ما كان يدعو بهذا الدعاء القرآني الكريم: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201)  وكان من دعائه أيضا: “وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي” (رواه مسلم) وحين صرف قارون همه إلى الدنيا وانصرف عن الآخرة، كانت النصيحة كما حكي لنا القرآن الكريم: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77).

على الجانب الآخر فلقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلمَ) عن التشدد والانغلاق والغلو في الدين؛ لما تصل به حقيقته من الخروج عن حد الاعتدال، لما يكمن في بواطنه من مجاوزة الحد المشروع إلى التكلف والغلو الغير مشروع، لما يغيب عن جوانبه من معاني الرحمة والتيسير، لما يحويه من معاني التشدد؛ ولا شك أن التشدد هو أول طريق التطرف، وأن الإرهاب يبدأ بنظرة العبد إلى نفسه بالكبر والعجب في العبادة وأنه هو على الطريق المستقيم دون غيره، وأن عبادته في لباس التشدد هي الطريق الصحيح دون غيره، كقول إبليس عن آدم (عليه السلام): (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (الأعراف : 12)، مما يصل بالعبد إلى احتقار الناس واستصغارهم والتعامل معهم بالغلظة وإلقائهم بضعف الدين والكفر والتطاول عليهم باللسان بل وباليد أيضا.

وهذا مما يفسر لنا  قول النبي (صَلى الله عليه وسلم) :”يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ” (النسائي)، فهو يريد أن يحمي أمته ويصونها ويقيها خطر التشدد والغلو، يريد أن يحمي كل مسلم أن يتخذ طريقا ينتهي به إلى الهلاك، فعَنْ ابنِ مسعودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى اللهُ عليه وسلمَ): “هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا” (مسلم).

يريد أن يغلق كل باب يصل بالعبد إلى التطرف والإرهاب؛ ولعلي استشهد بموقف يشرح لنا ويفصل إلى أي مدى قد يصل التشدد في أمور الدين بالعبد؛ فعن جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أُخبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ:” قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ” (رواه أبو داود).

فما أحوجنا إلى أن نتمسك بقيم ديننا وهدى نبينا فنحقق الوسطية والاعتدال في أسمى صورها، وننبذ الغلو والتشدد من أخلاقنا وسلوكنا، فالله (عز وجل) قال في حق حبيبنا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الانبياء107)، ويقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): “إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ”. ويقول: “إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا” (رواه البخاري).

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، واصرف عنا سيئها، واحفظ مصر من كل مكروه وسوء، واجعلها اللهم أمنا أمانا سخاء رخاء يا رب العالمين.

=== كتبه ===
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى