خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ: (التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّديِّنِ فَقَطْ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ: (التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّديِّنِ فَقَطْ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ بِتَارِيخِ 20 جُمَادَى الأُخْرَى 1447هـ – 12دِيسَمْبَرَ 2025م
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ word : (التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّديِّنِ فَقَطْ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ pdf : (التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّديِّنِ فَقَطْ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَجَعَلَنَا مِنْ أُمَّةٍ مُتَوَاصِلَةٍ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ.. جَعَلَ التَّقْوَى أَسَاسَ التَّكْرِيمِ، وَجَعَلَ الأُخُوَّةَ الإِيمَانِيَّةَ الرَّابِطَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَبَطَ بَيْنَ قُلُوبِ عِبَادِهِ بِحَبْلِ الأُلْفَةِ والْمَوَدَّةِ الْمَتِينِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ… أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَقُولُ جَلَّ وَعَلا: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
عِبَادَ اللَّهِ:(( التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّديِّنِ فَقَطْ)) بلْ إِنْ شِئْتَ فَقُلْ ((الْعَصَبِيَّةُ دَاءٌ عُضَالٌ)) عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:
❖ أَوَّلًا: التَّعَصُّبُ الأَعْمَى دَاءٌ عُضَالٌ وَخَطَرٌ دَاهِمٌ.
❖ ثَانِيًا: التَّعَصُّبُ الْكُرَوِيُّ مِنْ أَخْطَرِ أَنْوَاعِ الْعَصَبِيَّةِ الْبَغِيْضَةِ!!
❖ ثَالِثًا وَأَخِيرًا: أَيُّهَا الْمُتَعَصِّبُ أَفِقْ مِنْ عَصَبَتَيْكَ قَبْلَ فَوَاتِ الْأوَانِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ التَّطَرُّفِ لَيْسَ فِي التَّدِينِ فَقَطْ بَلْ إِنْ شِئْتَ فَقُلْ الْعَصَبِيَّةُ دَاءٌ عُضَالٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ وَخِزْيٌ وَعَارٌ وَهَلاكٌ وَدِمَارٌ ، وَخَاصَّةً وَنَعِيشُ زَمَانًا زَادَتْ فِيهِ الْعَصَبِيَّةُ بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ عَصَبِيَّةٌ أَشَدُّ مِنْ عَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ، تَطَرُّفٌ وَعَصَبِيَّةٌ فِي التَّدِينِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَتَطَرُّفٌ وَتَعَصُّبٌ فِي حُبِّ الْأَشِيَاخِ وَالدُّعَاةِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ بِصُورَةٍ مُمِيتَةٍ وَكَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَأِ، وَتَطَرُّفٌ وَتَعَصُّبٌ فِي حُبِّ الْكُرَةِ وَتَشْجِيعِهَا ، وَخَاصَّةً وَمِنْ أَخْطَرِ صُورِ التَّعَصُّبِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ التَّطَرُّفُ وَالتَّعَصُّبُ فِي السَّاحَاتِ الْخَضْرَاءِ فِي مَلَاعِبِ الْكُرَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وَخَاصَّةً وَالْعَصَبِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ دِينِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ بَلْ دَعُوهَا أَيُّهَا الْأَخْيَارُ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ، فَلَا عَصَبِيَّةَ فِي الدِّينِ فَالدِّينُ دِينُ الْوَسِطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ ، لَا عَصَبِيَّةَ فِي الرِّيَاضَةِ فِي النِّهَايَةِ تَسْلِيَةٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْأَوْقَاتِ، وَخَاصَّةً وَأَنَّ لِلْتَّعَصُّبِ و لِلْغَضَبِ أَضْرَاراً وَآثَاراً خَطِيرَةً عَلَى الأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ فَفِيهِ إِغْضَابٌ لِلرَّحْمَنِ وَإِرْضَاءٌ لِلشَّيْطَانِ وفيه يُسَبِّبُ التَّقَاطُعَ وَإِفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ، ويَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَهَذَا نَقْصٌ فِي عَقْلِ الْمَرْءِ وَدِينِهِ، ولَا يَسْتَفِيدُ صَاحِبُهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّوْجِيه و يُؤَثِّرُ عَلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَقَدْ يَصِلُ بِهِ إِلَى أَنْ يُعْمِيَ بَصَرَهُ وَيُصُمَّ أُذُنَهُ وَيُخْرِسَ لِسَانَهُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمُوتُ بِسَبَبِهِ و يُنَفِّرُ النَّاسَ عَمَّنْ كَثُرَ غَضَبُهُ وتَعصبُه وَيَبْتَعِدُونَ عَنْهُ لِمَا يَنَالُهُمْ مِنْهُ مِنَ الْأَذَى الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
يُخَاطِبُنِي السَّفِيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ ****فَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبًا
يَزِيدُ سَفَاهَةً وَأَزِيدُ حِلْمًا *****كَعودٍ زَادَهُ الإِحْرَاقُ طِيبا
❖ أَوَّلًا: التَّعَصُّبُ الأَعْمَى دَاءٌ عُضَالٌ وَخَطَرٌ دَاهِمٌ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: بِدايةً الإِسلامُ دينُ السَّلامِ، دينُ الوَسطِيَّةِ، دينُ الاِعتِدالِ، لَيْسَ دينَ التَّطرُفِ والإِرهابِ، لَيْسَ دينَ التَّعصُّبِ والغَضَبِ، لَيْسَ دينَ التَّكفيرِ والغُلُوِّ والتَّشَدُّدِ، لَيْسَ دينَ التَّساهُلِ إِنَّما دينُ الوَسطِيَّةِ والاِعتِدالِ فَلا إِفراطَ ولا تَفريطَ، ولا غُلُوَّ ولا تَقْصيرَ، ولا مُبالَغَةً ولا مِيُوعةً، قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: 67]، ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: 110]، ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: 29]. قَالَ جلَّ وعَلا في حَقِّ أُمَّةِ الإِسلامِ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وَالتَّعَصُّبُ نَوْعَانِ : تَعَصُّبٌ مَحْمُودٌ ، وَتَعَصُّبٌ مَذْمُومٌ .
التَّعَصُّبُ الْمَحْمُودُ : مَا كَانَ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدِّينِ بِلَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ فَلَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ قَطُّ وَلَكِنْ يَغْضَبُ إِذَا مَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ تَقُولُ أُمِّنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْحِصَانُ الرَّزَانُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وعَنْ عَائِشَةَ ’ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))وَهَذَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَشْتَدُّ غَضَبُهُ عَلَى قَوْمِهُ لَمَّا عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجَلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150]
التَّعَصُّبُ المَذْمُومُ: وَهُوَ مَا كَانَ فِي سَبِيلِ الْبَاطِلِ وَالشَّيْطَانِ كَالْغَضَبِ لِلنَّفْسِ أَوْ الغَضَبِ لِلْعَصَبِيَّةِ أَوْ الغَضَبِ لِلْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ الغَضَبِ لِلْعَاطِفَةِ الْغَيْرِ مُنْضَبِطَةٍ بِالشَّرْعِ أَوْ الغَضَبِ لِلْدِّينِ بِدُونِ ضَوَابِطَ شَرْعِيَّةٍ فَرُبَّمَا يُفْسِدُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِصْلَاحَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا تَعَدُّونَ فِيكُمُ الصُّرْعَةَ؟ قُلْنَا: الَّذِي لَا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: قَالَ لَا وَلَكِنِ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِندَ الْغَضَبِ ))وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَٰلِكَ: حديث أبي ذَرّ الغفاري -رضي الله عنه- أنه قَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ). ومن ذلك حديث جُنْدَب بن عبد الله -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ).
فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْوَسَطِيَّةِ وَالْتَّسَامُحِ، يَدْعُو إِلَى الْحِوَارِ وَالْعَدْلِ، لَكِنَّ الْتَّعَصُّبَ الْأَعْمَى يُعْمِي الْبَصِيرَةَ وَيُفْسِدُ الْقُلُوبَ. الْتَّعَصُّبُ الْأَعْمَى؟ إِنَّهُ التَّشَدُّدُ الْأَحْمَقُ فِي نَصْرَةِ الْرَّأْيِ أَوِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْمَذْهَبِ ، حَتَّى يَرْفُضَ الْحَقَّ وَيُفْضِي إِلَى الْعُنْفِ وَالْفِتْنَةِ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: “التَّعَصُّبُ هُوَ الْغُلُوُّ فِي التَّعَلُّقِ بِفِكْرَةٍ أَوْ عَقِيدَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ مَجَالًا لِلتَّسَامُحِ“.
التَّعَصُّبُ الأَعْمَى: مَرَضٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَبِيثٌ، وَفَيرُوسٌ وَبَائِيٌّ فَتَّاكٌ، وَسَرَطَانٌ مُدَمِّرٌ لِلشُّعُوبِ، حَارَبَهُ الْإِسْلامُ حَرْبًا لَا هَوَادَةَ فِيهَا؛ ذَلِكُمْ لِأَنَّ عَوَاقِبَهُ وَخِيمَةٌ، وَنَتَائِجَهُ خَطِيرَةٌ، إِنَّهُ الْعَصَبِيَّةُ، وَالْقَبَلِيَّةُ، والْعُنْصُرِيَّةُ، والطَّبَقِيَّةُ، وَالْإِقْلِيمِيَّةُ، وَالْحِزْبِيَّةُ، وَالنَّعْرَةُ الْجَاهِلِيَّةُ، إِنَّهُ الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَصَدَقَ الْمَعْصُومُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(( أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والنِّياحَةُ. وقالَ: النَّائِحَةُ إذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها، تُقامُ يَومَ القِيامَةِ وعليها سِرْبالٌ مِن قَطِرانٍ، ودِرْعٌ مِن جَرَبٍ((
التَّعَصُّبُ الأَعْمَى : حَارِبُه الْإِسْلَامُ وأَبْطَلَه، وَبَيَّنَ أَنَّ مِيزَانَ الرِّجَالِ الْحَقِيقِيِّ هِيَ التَّقْوَى قَالَ جَلَّ وَعَلَا [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13). وَعَن أَبِي نَضْرَةَ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى))
وَكَيْفَ لَا ؟ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلا ذَمَّ التَّعَصُّبَ وَالْحَمِيَّةَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْهَوَى وَالْبَاطِلِ فِي قُرْآنِهِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلا (( فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء: 135] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : (أَيْ: فَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةُ وَبِغْضَةُ النَّاسِ إِلَيْكُمُ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي أُمُورِكُمْ وَشُؤُونِكُمْ، بَلِ الزَمُوا الْعَدْلَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: “مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا ذَمَّهُ، وَكَذَٰلِكَ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَجِئْ إِلَّا مَذْمُومًا، إِلَّا مَا جَاءَ مِنْهُ مُقَيَّدًا؛ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِه»” [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى]. وَقَالَ جَلَّ وَعَلا (مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: 20-21] . وَقَالَ جَلَّ وَعَلا وَهُوَ يَذُمُّ هَذَا الْمَنْطِقَ الْبَلِيدَ: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] . (إِنَّهُ لَا مَنْطِقَ وَلَا عَقَلَ، وَلَا دَلِيلَ وَلَا بُرْهَانَ، وَإِنَّمَا هِيَ عَصَبِيَّةٌ عَمْيَاءُ) . وَقَالَ جَلَّ وَعَلا فِي ذَمِّ مُعْتَقَدِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْبَاطِلَةِ(( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح: 26] . قيل: (حميَّةُ الجاهليَّةِ: العَصَبيَّةُ لآلهتِهم التي كانوا يَعبُدونَها من دونِ اللهِ، والأَنَفةُ من أن يَعبُدوا غَيرَها)
وَكَيْفَ لَا ؟ ولقدَ َحَذَّرَنَا النَّبِيُّ الأَمِينُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّعَصُّبِ الْأَعْمَى فَقَالَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةِ عُمِيَّةٍ يَدْعُو بِهَا عِرْقًا أَوْ قَوْمًا أَوْ يَقُولُ: يَا رَجُلَ اللَّهِ، فَقَدْ كَذَبَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ” (رواه البخاري). أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد أذهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهِليَّةِ، وفَخْرَها بالآباءِ؛ مُؤمِنٌ تَقِيٌّ، وفاجِرٌ شَقِيٌّ)) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: ((كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوْهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ!)) “دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ”، نَعَمْ واللهِ، إِنَّهَا لَمُنْتِنَةٌ وَخَبِيثَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَجْعَلُهُمْ طَبَقَاتٍ، فَتَثُورُ الْأَحْقَادُ فِي النُّفُوسِ، وَتَتَحَرَّكُ الضَّغَائِنُ فِي الصُّدُورِ، ثُمَّ يَكِيدُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَأَيُّ أُمَّةٍ تَتَقَدَّمُ، وَأَيُّ إِنْجَازٍ يَتِمُّ، وَالنَّاسُ يَكْرَهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْحِقْدُ يَحْرِقُ الْقُلُوبَ وَالْأَفْئِدَةَ؟!. فَالْتَّعَصُّبُ الْأَعْمَى يُفْسِدُ الْوَحْدَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَيُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ الطَّائِفِيَّةِ
وَالْعُنْفِ، كَمَا نَرَى فِي بَعْضِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْيَوْمَ. وَكَيْفَ لَا؟ وَالتَّشَدُّدُ وَالتَّنَطُّعُ التَّعَصُّبُ الأَعْمَى دَاءٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ، وَوَبَاءٌ خُلْقِيٌّ كَبِيرٌ، مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلَّا كَانَ نَذِيرًا لِهَلاَكِهَا، وَمَا دَبَّ فِي أُسْرَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبًا لِفَنَائِهَا، فَهُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ عَدَاءٍ وَيَنْبُوعُ كُلِّ شَرٍّ وَتَعَاسَةٍ، وَالتَّنَطُّعُ وَالْغُلُوُّ وَالتَّعَصُّبُ الأَعْمَى آفَةٌ مِنْ آفَاتِ الإِنْسَانِ، مَدْخَلٌ كَبِيرٌ لِلشَّيْطَانِ، مُدَمِّرٌ لِلْقَلْبِ وَالأَرْكَانِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الأَحِبَّةِ وَالْإِخْوَةِ، يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ: الأَمْنَ وَالأَمَانَ، وَيَدْخُلُهُ النَّيْرَانَ، وَيَبْعُدُهُ عَنْ الْجَنَّانِ، فَالْبُعْدُ عَنْهُ خَيْرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
التَّعَصُّبُ الأَعْمَى: دَاءٌ عُضَالٌ ، وَخَطَرٌ دَاهِمٌ ، يَقْضِي عَلَى مَعَانِي الإِنْسَانِيَّةِ ، دَاءٌ يُصِيبُ الفَرْدَ ، وَالأُمَّةَ ، وَالمُجْتَمَعَ ، دَاءٌ حِينَمَا يَسْتَفْحِلُ وَيَتَفَشَّى ، فَإِنَّهُ يَفْتُكُ فِي النَّاسِ فَتْكًا .فَلِنَتَعَلَّمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلْنَدْعُ إِلَى الْحَقِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِالْوَحْدَةِ وَيَنْهَى عَنِ التَّفْرِيقِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاجْتَهِدُوا فِي نَبْذِ الْتَّعَصُّبِ لِتَكُونُوا مِنْ أُمَّةِ الْوَسَطِ، فَالتَّعَصُّبُ غُلُوٌّ وَتَطَرُّفٌ ، وَكَرَاهِيَةٌ وَفُرْقَةٌ ، وَضَلاَلٌ ، وَشَحْنَاءُ، وَ لتِّعصُّبُ -عِبَادَ اللَّهِ- دَاءٌ فَتَّاكٌ، هُوَ عِلَّةُ كُلِّ بَلَاءٍ، جُمُودٌ فِي الْعَقْلِ، وَانْغِلاَقٌ فِي الْفِكْرِ، يُعْمِي عَنْ الْحَقِّ، وَيَصُدُّ عَنْ الْهُدَى، وَيُثِيرُ النَّعْرَاتِ، وَيَقُودُ إِلَى الْحُرُوبِ، وَيُغَذِّي النِّزَاعَاتِ، وَيُطِيلُ أَمَدَ الْخِلافِ. عَافَانَا اللَّهُ وَإِلَيْكُمْ مِنْهُ.
❖ ثَانِيًا: التَّعَصُّبُ الْكُرَوِيُّ مِنْ أَخْطَرِ أَنْوَاعِ الْعَصَبِيَّةِ الْبَغِيْضَةِ!!
أَيُّهَا السَّادَةُ: مُمارَسَةُ الرِّيَاضَةِ مِنَ الأُمُورِ المُبَاحَةِ شَرْعًا إِذَا كَانَتْ فِي ظِلِّ الضَّوَابِطِ المُسْمَوحِ بِهَا، وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ الْمَقْصِدِ الَّذِي أُنشِئَتْ مِنْ أَجْلِهِ، مِثْلَهَا فِي ذَلِكَ مِثْلُ “الرَّمْيِ” الَّذِي شَجَّعَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ» قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟، قَالَ: «ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
وَكَيْفَ لَا؟ وَالرِّيَاضَةُ تُسْهِمُ فِي تَنْمِيَةِ الْعُقُولِ، وَصَقْلِ مَهَارَاتِ التَّفْكِيرِ، كَمَا تَحْفَظُ لِلْأَبْدَانِ قُوَّتَهَا وَسَلَامَتَهَا، وَهِيَ كَذَلِكَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّرْوِيحِ الْمَشْرُوعِ، تُذْهِبُ عَنْ النُّفُوسِ مَا يَعْتَرِيَهَا مِنْ مَلَلٍ وَكَسَلٍ، وَتُعِيدُ إِلَيْهَا نَشَاطَهَا وَهَمَّتَهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ، إِذْ وَجَّهَ إِلَى كُلِّ مَا يُقَوِّي الجَسَدَ، وَيُشْرِحُ الصَّدْرَ، وَيُعِينُ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً بِسَاعَةٍ»
وَكَيْفَ لَا؟ وَالرِّيَاضَةُ تُسْهِمُ في تَقْوِيَةِ الْمُؤْمِنِ فَالْعَقْلُ السَّلِيمُ في الْجَسَدِ السَّلِيمِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ صِحَّةُ الْأَبْدَانِ مَعَ صِحَّةِ الْقُلُوبِ بِإِيمَانِهَا وَخَشْيَتِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا عَلَى عِلْمٍ وَاتِّبَاعٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ لِعَبْدِهِ قَالَ صلى الله عليه وسلّم (المؤمن القوي خير وأحب إلى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلِّ خَيْرٍ) أَي قَوِيُّ الْبَدَنِ قَوِيُّ الْإِيمَانِ قَوِيُّ الْعَزِيمَةِ في الْخَيْرِ.
وَكَيْفَ لَا ؟ وَدِينُنَا وَنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا مَا يُسَمَّى بِالرُّوحِ الرِّيَاضِيَّةِ ، حَيْثُ ضَرَبَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي التَّحَلِّي بِالرُّوحِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالْخُلُقِ الرِّيَاضِيِّ الْقَوِيمِ ، وَتَقَبُّلِ الْهَزِيمَةِ كَتَقَبُّلِ الْفَوْزِ ، وَالِاعْتِرافِ لِلْخَصْمِ بِالتَّفَوُّقِ ، وَعَدَمِ غَمْطِهِ حَقَّهُ لِأَنَّ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ نَوْعًا مِنَ الْكِبْرِ ، فَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ فَقَالَ لِلنَّاسِ تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ لِي تَعَالَى حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدَنتُ وَنَسِيتُ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَقَالَ لِلنَّاسِ تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ هَذِهِ بِتِلْكَ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَسْنَدِ
لَكِنَّ مَا نَرَاهُ وَنُشَاهِدُ فِي السَّاحَاتِ الْخَضْرَاءِ فِي مَلَاعِبِ الْكُرَةِ وَبَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُبَارَياتِ عَلَى مَوْقِعِ التَّوَاصُلِ الْاجْتِمَاعِيِّ مِنْ سَبٍّ وَقَذْفٍ وَانْتِهَاكَاتٍ لِلْحَرَمَاتِ وَأَخَذُوا الرِّيَاضَةَ مَجَالًا لِلصِّرَاعِ وَالتَّنَافُسِ غَيْرِ الشَّرِيفِ، بَلْ وَجَعَلُوهَا أَدَاةً لِلْتَّعَصُّبِ وَالْوَلَاءِ وَالْبَرَاءَةِ وَالتَّصْنِيفِ الْمَقِيتِ الْبَغِيضِ، وَلَكَمْ سَمِعْنَا عَنْ أُنَاسٍ أُصِيبُوا بِالْجَلَطَاتِ وَالسَّكَّاتِ بِسَبَبِ الْمُبَارَياتِ، بَلْ وَسَمِعْنَا عَنْ رِجَالٍ هَدَمُوا بُيُوتَهُمْ وَطَلَّقُوا زَوْجَاتِهِمْ بِسَبَبِ مُبَارَاةٍ.
بَلْ صَارَ أَهْلَ الْبَيْتِ الْواحِدِ يُنْقَسِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، هَذَا يَتْبَعُ فَرِيقًا، وَذَاكَ يَتْبَعُ فَرِيقًا آخَرَ، وَلَمْ يَقِفِ الأَمْرُ عِندَ حَدِّ التَّشْجِيعِ، بَلْ تَعَدَّاهُ إِلَى سُخْرِيَةِ أَتْبَاعِ الْفَرِيقِ الْمُنْتَصِرِ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَنْهَزِمِينَ، وَفِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ يَكُونُ هُنَاكَ الشِّجَارُ وَالْعِرَاكُ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَ مُشَجِّعِي الْفَرِيقَيْنِ، وَسُقُوطُ الْجُرْحَى وَالْقَتْلَى بِالْمِئَاتِ، مِنْ ضَحَايَا كُرَةِ الْقَدَمِ وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُرْضِي اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا!! !!وَالْحَقِيقَةَ الْمُرَّةَ هِيَ هَذَا الشُّعُورُ الْقَلْبِيُّ لِلِانْتِمَاءِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ فِي الْحُبِّ الَّذِي غَلَبَتْ قُوَّةَ أُخُوَّةِ الدِّين وَهَزَمَتْهَا، إِنَّهَا شُعُورٌ قَلْبِيٌّ دَفَعَ الْمُشَاهِدَ السَّبَّابَ وَالْلَّعَانَ، أَيُّ شُعُورٍ هَذَا؟ وَأَيُّ انْتِمَاءٍ هَذَا؟ كَيْفَ سَيْطَرَ هَذَا التَّعَصُّبُ عَلَى هَذَا الْمُشَجِّعِ وَالْمُشَاهِدِ؟ تَعَصُّبٌ جَرَّ النَّاسَ إِلَى ظُلْمِ النَّاسِ، وَجَرَّهُمْ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ، وَالْحُبِّ بِسَبَبِه، وَالْبُغْضِ لِأَجْلِهِ.
فَمِنْ أَخْطَرِ الظَّواهِرِ السَّيِّئَةِ: الَّتِي انْتَشَرَتْ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ خَاصَّةً بَيْنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ وَهُوَ التَّعَصُّبُ الرِّيَاضِيُّ لِنَادِيهِ الَّذِي يُشَجِّعُهُ أَوْ لِفَرِيقِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ، هَذَا التَّعَصُّبُ الْمَذْمُومُ أَوْرَثَ فِي النَّاسِ أَحْقَادًا، تَأْخُذُ عَلَىٰ ذَلِكَ سِنِينَ، قَبْلَ أَنْ تَزُولَ عَنْ صُدُورِهِمْ وَعَنْ قُلُوبِهِمْ. نَسْمَعُ كَثِيرًا أَنَّهُ يَحْدُثُ بِسَبَبِ الْمُبَارَياتِ الرِّيَاضِيَّةِ شِجَارٌ وَسَبَّابٌ، وَلَعْنٌ وَشَتْمٌ عِندَ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَبُغْضٌ لِإِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ انْتِمَائِهِمْ، وَلَا يُجَوِّزُ بُغْضَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ بِالتَّحَابُّبِ وَالتَّوَادِّ وَنَهَى عَنْ التَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ، بَلْ جَعَلَ السَّبَّابَ فِسْقًا، وَكَبِيرَةً مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَلَا يَخْفَى عَلَى مُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ حَقًّا، مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ تَحْذِيرٍ مِنْ ارْتِكَابِ مِثْلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ ، وَلَا مَا حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: ١١]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا … بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» [رواه مسلم]. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ» [رواه الترمذي، وأحمد]. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» [رواه الترمذي].
فَالتَّعَصُّبُ الكُرَوِيُّ: مَذْمُومٌ شَرْعًا وَعُرْفًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِثَارَةِ الفُرْقَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُحِيدُ بِالرِّيَاضَةِ عَنْ مَقْصِدِهَا السَّامِي مِنَ الْمُنَافَسَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالتَّقَارُبِ، وَإِسْعَادِ الْخَلْقِ؛ فَالتَّعَصُّبُ خُلُقٌ شَيْطَانِيٌّ بَغِيضٌ حَذَّرَنَا مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، ” وَقَدْ يُؤَدِّي التَّعَصُّبُ الكُرَوِيُّ إِلَى الاِحْتِقَانِ، وَتَوْظِيفِ حَمَاسَةِ الْجَمَاهِيرِ مِمَّا يَنْتُجُ عَنْهُ أَعْمَالُ شَغَبٍ قَدْ يَسْتَغِلُّهَا الْبَعْضُ فِي تَهْدِيدِ أَمْنِ وَسَلَامَةِ الْوَطَنِ.
إِنَّ القَضِيَّةَ لَيْسَتْ فِي مُتَابَعَةِ الرِّيَاضَةِ، أَوْ عَدَمِهَا، بَلِ القَضِيَّةُ الَّتِي عَلَى عُقَلَائِنَا، وَعَلَى التَّرْبَوِيِّينَ بِخَاصَّةٍ أَنْ يَعْتَنُوا بِهَا هِيَ التَّعَصُّبُ الرِّيَاضِيُّ، كَيْفَ يُسَيْطِرُ الْمُتَابِعُ عَلَى مَشَاعِرِهِ؟ وَكَيْفَ يَتَغَلَّبُ عَلَى نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَالْهَوَى؟ لِنُناقِشِ القَضِيَّةَ مَعَ أَبْنَائِنَا؛ لِنُحَاوِرْهُمْ عَنْ مَعْنَى الْهَزِيمَةِ فِي الرِّيَاضَةِ، وَمَعْنَى الْاِنْتِصَارِ، وَبِحَمْدِ اللَّهِ فَإنَّ النَّمَاذِجَ الَّتِي حَكَّمَتْ عَقْلَهَا وَنَظَرَهَا هِيَ الْغَالِبَةُ وَالطَّاغِيَةُ، وَلَكِنَّ النَّارَ تَبْدَأُ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَّرِ، فَكَمْ مِنْ مُشَجِّعٍ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ! وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَرِضَ! وَكَمْ مِنْ صَدِيقَيْنِ تَقَاطَعَا! وَكَمْ مِنْ زَوْجَيْنِ تَفَرَّقَا بِسَبَبِ مُبَارَاةٍ وَكَمْ مِنْ أَرْحَامٍ قُطِعَتْ بِسَبَبِ مُبَارَاةٍ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَصَدَقَ رَبُّنَا إِذْ يَقُولُ .﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣].
وَمَا أَحْلَى قَوْلَ الشَّاعِرِ عِنْدَمَا انْكَسَرَ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِلًا:
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا ****وَكِدْتُ بَأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي ****وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ…. الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ أَعَزَّ الطَّائِعِينَ بِرِضَاهُ، وَأَذَلَّ الْعَاصِينَ بِسَخَطِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
❖ ثَالِثًا وَأَخِيرًا: أَيُّهَا الْمُتَعَصِّبُ أَفِقْ مِنْ عَصَبَتَيْكَ قَبْلَ فَوَاتِ الْأوَانِ.
أَيُّهَا المُتَعَصِّبُ !! بِغَيْرِ حَقٍّ أَيُّهَا الْغَافِلُ أَيُّهَا السَّاهِي أَيُّهَا اللَّاعِبُ أَيَّهَا التَّائِهُ فِي دُنْيَا الْغُرُورِ أَفِقْ مِنْ غَفْلَتِكَ وَعَصَبَتَيْكَ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمَ وَلَا يَنفَعُ النَّدَمُ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ )) ((وَيَأْتِي الْجَوَابُ كَالصَّاعِقَةِ كُلَّا)) كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]. أَيُّهَا المُتَعَصِّبُ !! فَأَفِقْ مِن غَفْلَتِكَ، وَأَحْضِرْ قَلْبَكَ مِن بَيْتِكَ، وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ لَا نَوْمَ أَثْقَلُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَلَا نَذِيرٌ أَبْلَغُ مِنَ الشَّيْبِ، وَلَا رَقَّ أَمَلُكَ مِنَ الشَّهْوَةِ. أَفِقْ وَاغْتَنِمْ الْفُرْصَةَ وَاغْتَنِمْ حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقْمِكَ وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِطُولِ الصِّحَّةِ أَمَا رَأَيْتَ مَيْتًا مِنْ غَيْرِ سَقْمٍ!! أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِطُولِ الْمَهْلَةِ أَمَّا رَأَيْتَ مَيْتًا مِنْ غَيْرِ مَهْلَةٍ!! أَبِالصِّحَّةِ تَغْتَرُّونَ أَمْ بِطُولِ الْعَافِيَةِ تَمْرَحُونَ، رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا عَمِلَ لِسَاعَةِ الْمَوْتِ، رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا عَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَالحَيَاةُ كُلُّهَا لَحَظَاتٌ، قَالَ رَبُّنَا: ((قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ))(المؤمنون:112: 115)
يَا مَنْ بِدُنْيَاهُ اشتَغَلْ … وَغَرَّهُ طُولُ الأَمَلِ
المَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً … وَالْقَبْرُ صُنْدُوقُ الْعَمَلِ
أَيُّهَا المُتَعَصِّبُ !! اعلمْ كلَّما تَلاَشَتِ العَصَبِيَّةُ مِنَ الفَردِ وَالجَماعةِ، تَعَامَلَ النّاسُ بِحِكْمَةٍ، وَعَقْلٍ، وَعَدْلٍ، وَهُدُوءٍ، وَرَحْمَةٍ، وَديَانَةٍ صَحيحَةٍ.
أَيُّهَا المُتَعَصِّبُ !! بِنبْذِ العَصَبِيَّةِ سَوْفَ يَزُولُ كَثِيرٌ مِنْ أَسْبَابِ الخِلَافِ وَالنِّزَاعِ، وَيَعِيشُ المُجْتَمَعُ بِطُمَأْنِينَةٍ، وَمَحَبَّةٍ، وَأُخُوَّةٍ. وَالمُجْتَمَعَاتُ تَنْهَضُ عَلَى دَعَائِمِ الخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَالتَّقْوَى، لَا عَلَى مَزَاعِمِ الانْتِفَاخِ الأَجْوَفِ، وَالعَصَبِيَّةِ العَمِيَاءِ.
الا فَاتَّقُوا اللهَ – رَحِمَكُمُ اللهُ – وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا أَسْرَعَ مِنْ نَقْضِ المُجْتَمَعِ وَهَدْمِ كِيَانِهِ مِنْ آثَارِ العَصَبِيَّةِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ، عَصَبِيَّةِ نَسَبٍ، أَوْ مَنْطِقَةٍ، أَوْ مَذْهَبٍ، أَوْ حِزْبٍ، أَوْ جِنْسٍ.
لذا يَقُولُ الإِمامُ الشَّوكَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: “وَهُوَ يَذْكُرُ بَعْضَ صُورِ التَّعَصُّبِ: “هَاهُنَا تُسْكَبُ العَبَرَاتُ، وَيُنَاحُ عَلَى الإِسلامِ وَأَهْلِهِ بِمَا جَنَاهُ التَّعَصُّبُ عَلَى غَالِبِ المُسْلِمِينَ لَمَّا غَلَتْ مَرَاجِلُ العَصَبِيَّةِ، وَتَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ مِنْ تَفْرِيقِ كَلِمَةِ المُسْلِمِينَ لَقَّنَهُمُ الزَّامَاتِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالهَبَاءِ فِي الهَوَاءِ، وَالسَّرَابِ بِالْقَيْعَةِ، فَيَا للهِ هَذِهِ الفَاقِرَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَاقِرِ الدِّينِ وَالرَّزِيَّةِ.”
@إشارةفَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الغَضَبِ والتًعصبِ قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ أَيُّهَا الأَخْيَارُ
أَيُّهَا المُتَعَصِّبُ !! عِشْ ما شِئْتَ فَإنَّكَ مَيِّتٌ، وأحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإنَّكَ مُفَارِقٌ، واعْمَلْ ما شِئْتَ فَإنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ. أَيُّهَا المُتَعَصِّبُ !! نَفَسُكَ مَعْدُودٌ، وَعُمْرُكَ مَحْسُوبٌ، فَكَمْ أَمَلْتَ أَمَلًا وَانْقَضَى الزَّمَانُ وَفَاتَكَ، وَلَا أَرَاكَ تَفِيقُ حَتَّى تَلْقَى وَفَاتَكَ، فَاحْذَرْ ذَلَّلَ قَدَمِكَ وَخَفْ طُولَ نَدَمِكَ وَاغْتَنِمْ حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ فِي طَاعَةِ رَبِّكَ .
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقُ وَثَوَانٍ
فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا *** فَالذِّكْرُ لِلْإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانٍ
حَفِظَ اللَّهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَشَرِّ الْفَاسِدِينَ وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.
كَتَبَهُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ
د/ مُحَمَّدٌ حَرْزٌ إِمَامٌ بِوَزَارَةِ الْأَوقَاف









