خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ — بِتَارِيخِ: 27 صَفَر ١٤٤٧هـ / 22أُغُسْطُس ٢٠٢٥م
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ word ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ pdf ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنَارَ بِالفِكْرِ العُقُولَ، وَأَيْقَظَ بِالنَّظَرِ النُّفُوسَ، وَنَبَّهَ بِالتَّأَمُّلِ القُلُوبَ ،الحَمْدُ لِلَّهِ القَائِلِ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِى ٱلْأَبْصَٰرِ﴾ [النور: 44]، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، القَائِلُ – كَمَا فِي حَدِيثِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: ( كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)). فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ المُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطْهَارِ الأَخْيَارِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ ….. فَأُوصِيكُم وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى العَزِيزِ الغَفَّارِ، قَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آلُ عِمْرَانَ: 102).
يَا آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ حُبُّكُمُ **** فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ فِي القُرْآنِ أَنْزَلَهُ
يَكْفِيكُمُ مِنْ عَظِيمِ الفَخْرِ أَنَّكُمُ *** مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُم لَا صَلَاةَ لَهُ
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ: ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا)) عُنْوَانُ وِزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:
• أَوَّلًا: تَصْحِيحُ المَفَاهِيمِ هَدْيٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ.
• ثَانِيًا: الفِكْرُ خُلُقٌ عَظِيمٌ مِنْ أَخْلَاقِ الإِسْلَامِ. .
• ثَالِثًا: نَفْسُكَ أَمَانَةٌ فَاحْرِصْ عَلَيْهَا.
أَيُّهَا السَّادَةُ: بِدَايَةً، مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ المَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ إِعْمَالِ الفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ، خَاصَّةً فِي زَمَنٍ انْتَشَرَتْ فِيهِ الشُّبُهَاتُ كَانْتِشَارِ النَّارِ فِي الهَشِيمِ بِسَبَبِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، فَانْتَشَرَتْ مَوَاقِعُ الشُّبُهَاتِ وَمَوَاقِعُ الشَّهَوَاتِ، وَوَقَعَ الكَثِيرُ مِنْ أَبْنَائِنَا فِي فِتَنِ الشُّبُهَاتِ وَمَوَاقِعِ الإِلْحَادِ، وَضَلَّ الكَثِيرُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ قِلَّةِ الوَعْيِ وَقِلَّةِ الفَهْمِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَخَاصَّةً وسُوءُ فَهْمِ النُّصُوصِ فَهْمًا صَحِيحًا أَدَّى إِلَى انْتِشَارِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ وَالمُنْحَرِفَةِ وَالأَفْكَارِ الطَّائِشَةِ، وَالآرَاءِ الهَزِيلَةِ، الَّتِي تُشَوِّهُ صُورَةَ الإِسْلَامِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَخَاصَّةً وَإِنَّ الانْحِرَافَ الفِكْرِيَّ يُهَدِّدُ الأُمَّةَ أَفْرَادًا وَأُسَرًا وَكِيَانًا وَمُجْتَمَعَاتٍ وَثَقَافَةَ دَوْلَةٍ، وَانْتِشَارُهُ فِي المُجْتَمَعِ نَذِيرُ دَمَارِهِ وَعَلَامَةُ انْحِطَاطِهِ وَتَخَلُّفِهِ. لِذَلِكَ لَا يَقْتَصِرُ مَوْضُوعُ مُوَاجَهَتِهِ عَلَى مَا تَبْذُلُهُ السُّلُطَاتُ وَالأَجْهِزَةُ الحُكُومِيَّةُ فِي مُحَارَبَتِهِ فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ مَسْؤُولِيَّةُ الأُمَّةِ كُلِّهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي مُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخُرَافَةِ وَالأَوْهَامِ وَالأَسَاطِيرِ، وَذَلِكَ عَبْرَ اسْتِغْلَالِ الحَدَثِ المُنَاسِبِ، فَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا». وَخَاصَّةً وإِنَّ الْحَازِمَ الْعَاقِلَ لَا يَتْرُكُ مَوَاقِفَ الْحَيَاةِ تَمُرُّ بِغَيْرِ اعْتِبَارٍ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ ادِّكَارٍ. فَنَهَارٌ يَحُولُ، وَلَيْلٌ يَزُولُ، وَشَمْسٌ تَجْرِي، وَقَمَرٌ يَسْرِي، وَأُنَاسٌ يَحْيَوْنَ، وَآخَرُونَ يَمُوتُونَ فكُلُّ تَفَكُّرٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. وَخَاصَّةً وَقُرْآنُنَا وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَانَا إِلَى إِعْمَاقِ الفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ قَبْلَ النُّطْقِ وَقَبْلَ الكَلَامِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [الرَّعْد: 19]. وَلِلَّهِ دَرُّ القَائِلِ:
وَزِنِ الكَلَامَ إِذَا نَطَقْتَ وَلَا تَكُنْ **** ثَرْثَارَةً فِي كُلِّ نَادٍ تَخْطُبُ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ **** فَالمَرْءُ يَسْلَمُ بِاللِّسَانِ وَيُعْطَبُ
وَخَاصَّةَ والكَلَامُ بِلا فِكْرٍ وَبِلا وَعْيٍ مُهْلِكَةٌ وَخَسَارَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَالشَّخْصُ الحَكِيمُ يَزِنُ كَلِمَاتِهِ وَيَخْتَارُهَا بِعِنَايَةٍ، بَيْنَمَا الشَّخْصُ قَلِيلُ الفَهْمِ وَالفِكْرِ وَالوَعْيِ قَدْ يَقَعُ فِي أَخْطَاءٍ مَنْطِقِيَّةٍ عِنْدَ الكَلَامِ. وَلِلَّهِ دَرُّ القَائِلِ: وَزِنِ الكَلامِ إِذَا نَطَقْتَ فَإِنَّمَا * يُبْدِي عُقُولَ ذَوِي العُقُولِ المَنْطِقُ
• أَوَّلًا: تَصْحِيحُ المَفَاهِيمِ هَدْيٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: كَانَ مِنْ هَدْيِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَطْرَحُ السُّؤَالَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَيَنْتَظِرُ الجَوَابَ – بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِيُصَحِّحَ المَفَاهِيمَ، وَلِيُغَيِّرَ الأُمُورَ، وَلِيُوَضِّحَ الفِكْرَ السَّلِيمَ وَالفَهْمَ العَمِيقَ، وَالأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَعَدِيدَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ النَّخْلَةِ: فَأَرَادَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَلِّمَ الصَّحَابَةَ الأَخْيَارَ، بَلْ إِنْ شِئْتَ فَقُلْ: يُعَلِّمُ الأُمَّةَ الإِسْلَامِيَّةَ جَمْعَاءَ أَنَّ المُؤْمِنَ كَالغَيْثِ أَيْنَمَا حَلَّ نَفَعَ، وَأَنَّ المُؤْمِنَ الحَقِيقِيَّ يَعْمَلُ لِدُنْيَاهُ كَأَنَّهُ يَعِيشُ أَبَدًا، وَيَعْمَلُ لآخِرَتِهِ كَأَنَّهُ يَمُوتُ غَدًا. طَرَحَ يَوْمًا سُؤَالًا عَلَى أَصْحَابِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَادِيَةِ، [أَيْ: ذَهَبَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي أَشْجَارِ البَادِيَةِ، فَجَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُفَسِّرُهَا بِنَوْعٍ مِنَ الأَنْوَاعِ، وَذَهَلُوا عَنِ النَّخْلَةِ) وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هِيَ النَّخْلَةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا.» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ)
وكَيْفَ لَا؟ وَالنَّخْلَةُ لَهَا عُرُوقٌ، وَسَاقٌ، وَفُرُوعٌ، وَوَرَقٌ، وَثَمَرٌ. وَكَذَلِكَ المُسْلِمُ لَهُ أَصْلٌ، وَفَرْعٌ، وَثَمَرٌ. • فَالأَصْلُ: هُوَ أُصُولُ الإِيمَانِ السِّتَّةِ. • وَالفَرْعُ: الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَالطَّاعَاتُ المُتَنَوِّعَةُ. • وَالثَّمَرُ: كُلُّ خَيْرٍ يُحَصِّلُهُ المُسْلِمُ، وَكُلُّ سَعَادَةٍ يَجْنِيهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَكَيْفَ لَا؟ وَالنَّخْلَةُ لَا تَحْيَا وَلَا تَنْمُو إِلَّا إِذَا سُقِيَتْ بِالمَاءِ، فَإِذَا حُبِسَ عَنْهَا المَاءُ ذَبُلَتْ، وَإِذَا قُطِعَ عَنْهَا تَمَامًا مَاتَتْ. وَالمُسْلِمُ كَذَلِكَ لَا يَحْيَا الحَيَاةَ الحَقِيقِيَّةَ إِلَّا بِسَقْيِ قَلْبِهِ بِالوَحْيِ، مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَيْفَ لَا؟ وَالنَّخْلَةُ شَدِيدَةُ الثُّبُوتِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾. وَالمُسْلِمُ – إِذَا رَسَخَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ – يَكُونُ ثَبَاتُهُ كَثَبَاتِ الجِبَالِ الرَّوَاسِي. وَكَيْفَ لَا؟ وَالنَّخْلَةُ مُبَارَكَةٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، فَلَيْسَ فِيهَا جُزْءٌ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ. وَالمُسْلِمُ كَذَلِكَ مُبَارَكٌ أَيْنَمَا كَانَ؛ لِذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ). وَالنَّخْلَةُ مُبَارَكَةٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا؛ فَمِنْ حِينَ تَطْلُعُ إِلَى أَنْ تَيْبَسَ، تُؤْكَلُ أَنْوَاعًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْتَفَعُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا؛ حَتَّى النَّوَى فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، وَاللِّيفُ فِي الحِبَالِ. وَكَذَلِكَ بَرَكَةُ المُسْلِمِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، وَنَفْعُهُ مُسْتَمِرٌّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ تَصْحِيحِ الْمَفَاهِيمِ وَتَغْيِيرِ الْفِكْرِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ، حَدِيثُ الْمُفْلِسِ. اللَّهُ أَكْبَرُ! فَالْإِفْلَاسُ الْحَقِيقِيُّ الْمُهْلِكُ هُوَ: أَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْلِسًا مِنَ الْحَسَنَاتِ، لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ. يُبَيِّنُ لَنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ النَّبِيُّ ﷺ، إِذْ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَمِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ الْقَوِيمُ: تَصْحِيحُ التَّصَوُّرَاتِ وَالْمَفَاهِيمِ وَالْأَفْكَارِ. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الْحُجُرَاتِ: 13]. بَيَانٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَمَآثِرِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِالْمَفْهُومِ الصَّحِيحِ لِلْكَرَامَةِ؛ فَالتَّفَاضُلُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّقْوَى، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى. فَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُحَقِّقًا لِلتَّقْوَى، كَانَ ذَلِكَ كَمَالًا فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْكَرِيمُ حَقًّا. وَفِي بَيَانٍ نَبَوِيٍّ صَرِيحٍ، يُقَرِّرُ ﷺ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِقَوْلِهِ: «الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى» (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ). أَيْ: الشَّرَفُ بَيْنَ النَّاسِ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ عِنْدَ اللهِ هُوَ التَّقْوَى. فَانْظُرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَفْهُومِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا وَحَقِيقَتِهِ عِنْدَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا. وَأَهْلُ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ هُمْ أَوْلِيَاءُ النَّبِيِّ ﷺ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ ذِي رَحِمٍ أَمْ لَا. قَالَ ﷺ: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِيَ الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا» (رَوَاهُ أَحْمَدُ). وَقَالَ ﷺ: «أَلَا إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا وَلِيِّي مَنْ كَانَ صَالِحًا، وَإِنْ بَعُدَ نَسَبُهُ مِنِّي، وَلَيْسَ وَلِيِّي مَنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ، وَإِنْ كَانَ نَسَبُهُ قَرِيبًا مِنِّي…. اللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَا أَحْوَجَنَا أَيُّهَا الأَخْيَارُ فِي زَمَنِ الإِنْتَرْنِتِ، وَزَمَنِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ، وَزَمَنٍ تَبَدَّلَتْ فِيهِ المَعَايِيرُ وَتَغَيَّرَتْ فِيهِ المَفَاهِيمُ، إِلَى العَوْدَةِ إِلَى المَفَاهِيمِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي كَلَامِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
• ثَانِيًا: الفِكْرُ من أعظم العبادات والطاعات .
أَيُّهَا السَّادَةُ: الفِكْرُ مُحَرِّكُ الشُّعُوبِ، فَإِذَا كَانَ الفِكْرُ سَلِيمًا تَحَرَّكَتِ الأُمَمُ رُقِيًّا وَصُعُودًا، فَانْتُشِلَتْ مِنْ بَرَاثِنِ الانْحِطَاطِ إِلَى الدَّرَجَاتِ العُلَا بَيْنَ الشُّعُوبِ، وَإِذَا كَانَ الفِكْرُ سَقِيمًا انْحَدَرَتْ فِي ظُلُمَاتِ التَّخَلُّفِ وَالفَقْرِ. لِذَا وَجَدَ أَعْدَاءُ الأُمَّةِ فِي تَشْوِيهِ الحَقَائِقِ الفِكْرِيَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الوَسَطِ المُسْلِمِ وَاسْتِبْدَالِهَا بِالسَّقِيمِ، وَتَدْمِيرِ القِيَمِ الثَّقَافِيَّةِ العَامَّةِ الجَامِعَةِ لِلأُمَّةِ خَيْرَ سَبِيلٍ لِلقَضَاءِ عَلَى الإِسْلَامِ وَحَضَارَتِهِ وَمَجْدِهِ. لِذَا فَإِنَّ الخَطَأَ فِي المَفَاهِيمِ الفِكْرِيَّةِ وَمِنْ وَرَائِهَا بَقِيَّةُ المَفَاهِيمِ يَنْطَوِي عَلَى مَخَاطِرَ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ عَدُّهَا، عَلَى وَاقِعِ وَمُسْتَقْبَلِ بَلْ وَلَرُبَّمَا تَارِيخِ الأُمَّةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. لِذَا أَمَرَنَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا بِالفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَاسْتِثْمَارِ العَقْلِ وَإِعْمَالِهِ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ فَهْمًا صَحِيحًا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ (آلُ عِمْرَانَ: 190). وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ (الحَجُّ: 46). وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ (ق: 37). قَالَ المُفَسِّرُونَ: “لِمَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ)). قَالَ جَلَّ وَعَلَا: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الرَّعْد: 3]. وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يُونُس: 24] وَكَيْفَ لَا؟ وإِنَّ مِنْ أَهَمِّ وَأَحَقِّ مَا أَصْلَحَ العَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ: فِكْرَهُ وَخَوَاطِرَهُ وَهَمَّهُ وَإِرَادَتَهُ.. فَعِبَادَةُ التَّفَكُّرِ مِنْ أَعْمَالِ القُلُوبِ العَظِيمَةِ، فالفكرُ مِفْتَاحُ الأَنْوَارِ، وَمَبْدَأُ الاسْتِبْصَارِ، وَشَبَكَةُ العُلُومِ، وَمَصِيدَةُ المَعَارِفِ وَالفُهُومِ، وَهِيَ عِبَادَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَدَرْبُ الأَتْقِيَاءِ، نُورٌ لِمَنْ تَفَكَّرَ، وَطَرِيقٌ مُوصِلَةٌ لِلْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. مَنْ تَبَحَّرَ فِيهَا وَجَدَ الآيَاتِ البَاهِرَاتِ، وَجَمِيلَ المُعْجِزَاتِ، وَكُلَّمَا كَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ تَفَكُّرًا وَتَأَمُّلًا فِي خَلْقِ اللهِ، وَأَكْثَرَ عِلْمًا بِاللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، كَانَ أَعْظَمَ خَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فَاطِر: 28] قَالَ جَلَّ وَعَلَا: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [البَقَرَة: 269]. قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: الحِكْمَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللهِ وَالِاتِّبَاعُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: الأَوَّلُ: رَجُلٌ قَلْبُهُ مَيِّتٌ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ، فَهَذَا لَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ ذِكْرَى فِي حَقِّهِ. الثَّانِي: رَجُلٌ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ مُسْتَعِدٌّ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَمِعٍ لِلْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ، وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَهُوَ غَائِبُ القَلْبِ، لَيْسَ حَاضِرًا، فَهَذَا أَيْضًا لَا تَحْصُلُ لَهُ الذِّكْرَى مَعَ اسْتِعْدَادِهِ وَوُجُودِ قَلْبِهِ. الثَّالِثُ: رَجُلٌ حَيُّ القَلْبِ مُسْتَعِدٌّ، تُلِيَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ، فَأَصْغَى بِسَمْعِهِ، وَأَلْقَى السَّمْعَ، وَأَحْضَرَ قَلْبَهُ، وَلَمْ يُشْغِلْهُ بِغَيْرِ فَهْمِ مَا يَسْمَعُهُ، فَهُوَ شَاهِدُ القَلْبِ، مُلْقِي السَّمْعِ، فَهَذَا القِسْمُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالآيَاتِ المَتْلُوَّةِ وَالمَشْهُودَةِ. فمَا أَقْبَحَ الإِنْسَانَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مِنَ الحَيَاةِ إِلَّا أَنْ يَجُوعَ فَيَأْكُلَ، وَيَنْعُسَ فَيَنَامَ، وَيَشْتَهِيَ فَيُجَامِعَ، وَيَغْضَبَ فَيُخَاصِمَ. ثُمَّ لَا يَتَعَدَّى هَذِهِ السُّلُوكِيَّاتِ إِلَى مَا يَكُونُ بِهِ إِنْسَانًا، وَإِنَّمَا يَقْبَعُ فِي مَسَالِكٍ تُشْبِهُ مَسَالِكَ الحَيَوَانِ، فَلَا يَتَخَطَّاهَا إِلَّا إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالمُتَعِ الحِسِّيَّةِ الَّتِي تَحْصُرُهُ فِي دَائِرَةِ المَادِّيَّاتِ. فَإِنْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يُفَكِّرَ، فَلَا يُفَكِّرُ إِلَّا فِي الشَّهْوَةِ، فَإِنْ نَظَرَ فَإِنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَّا لِلمُتْعَةِ، وَإِنْ عَمِلَ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا لِلَّذَّةِ. حَتَّى تَسْتَحْوِذَ عَلَيْهِ الشَّهَوَاتُ، وَتَمْلِكَ زِمَامَهُ المَلَذَّاتُ. فَلَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ إِلَّا فِيهَا، وَلَا فِكْرٌ إِلَّا لَهَا، وَلَا عَمَلٌ إِلَّا مِنْ أَجْلِهَا. فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ يَتَنَقَّلُ مِنْ شَهْوَةٍ إِلَى شَهْوَةٍ، وَمِنْ لَذَّةٍ إِلَى لَذَّةٍ، فَمَا يَسْتَفِيقُ إِلَّا بِدَاعِي المَوْتِ، يَهْدِمُ لَذَّاتِهِ، وَيُبَدِّدُ آمالَهُ. حِينَ تَكُونُ التَّسْبِيحَةُ أَغْلَى عِنْدَهُ مِنْ كُنُوزِ الأَرْضِ، وَتَكُونُ الرَّكْعَتَانِ فِي حِسِّهِ أَجَلَّ مَا فِي الوُجُودِ. وَعِنْدَهَا يُدْرِكُ حَقَارَةَ نَفْسِهِ، وَسَفَاهَةَ رَأْيِهِ، وَضَعْفَ نَظَرِهِ. حِينَ لَا يَنْفَعُهُ نَظَرٌ صَحِيحٌ، وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى }سَلِّمْ يَا رَبِّ سَلِّمْ. و كَيْفَ لَا؟ وَلَقَدْ أَدْرَكَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَهَمِّيَّةَ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ، فَنَبَّهُوا عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ـ يَقُولُ: «التَّفَكُّرُ فِي الْخَيْرِ يَدْعُو إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى الشَّرِّ يَدْعُو إِلَى تَرْكِهِ». وَيَقُولُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ: «الْفِكْرَةُ فِي نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ». وَيَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ». وَقَالَ «مَنْ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ حِكْمَةً فَهُوَ لَغْوٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ تَفَكُّرًا فَهُوَ سَهْوٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ نَظَرُهُ اعْتِبَارًا فَهُوَ لَهْوٌ». وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ: «مَا طَالَتْ فِكْرَةُ امْرِئٍ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ، وَمَا عَلِمَ امْرُؤٌ قَطُّ إِلَّا عَمِلَ». وَقَالَ بَشْرُ الْحَافِي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ: «لَوْ تَفَكَّرَ النَّاسُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ مَا عَصَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ)). وَكَيْفَ لَا؟ ومِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ نِعْمَةُ التَّفْكِيرِ؛ فَبِهَا يَسْتَنْتِجُ الْإِنْسَانُ وَيَخْتَرِعُ وَيَسْتَنْبِطُ، وَيُخَطِّطُ لِمَصَالِحِ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَلَا خَطَرَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَشَدُّ مِنْ أَنْ تُصَرَفَ فِي الْفُضُولِ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ وَلَا يَنْفَعُهُ. وَكَيْفَ لَا؟ وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَوْجِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى التَّفْكِيرِ الْمُفِيدِ؛ كَالتَّفْكِيرِ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَمِنْهَا آيَاتُهُ فِي الْكَوْنِ، وَكَذَلِكَ التَّفْكِيرُ فِي آيَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِلِامْتِثَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الْبَقَرَةِ:219]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الْأَعْرَافِ:176]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الْحَشْرِ:21]، وَكَذَلِكَ التَّفْكِيرُ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَآلَائِهِ عَلَى عِبَادِهِ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالرِّضَا، وَتَسْخِيرِ النِّعَمِ فِي مَرْضَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الْجَاثِيَةِ:13]. وَكَذَلِكَ التَّفْكِيرُ فِي الْمَوْتِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ؛ لِيَعْمَلَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ أَعْمَالًا صَالِحَةً تُنْجِيهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ التَّفْكِيرُ فِي الْجَنَّةِ لِيَشْتَاقَ إِلَيْهَا، وَيَنْشَطَ فِي الْعَمَلِ لَهَا، وَالتَّفْكِيرُ فِي النَّارِ؛ لِيَخَافَ أَنْ يُقْذَفَ فِيهَا؛ فَيَأْتِيَ الطَّاعَاتِ، وَيُجَانِبَ الْمُحَرَّمَاتِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ، آكُلُ ثِمَارَهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا، وَأُعَانِقُ أَبْكَارَهَا. ثُمَّ مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ، آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ صَدِيدِهَا، وَأُعَالِجُ سَلَاسِلَهَا وَأَغْلَالَهَا؛ فَقُلْتُ لِنَفْسِي: أَيْ نَفْسِي، أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا فَأَعْمَلَ صَالِحًا، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتِ فِي الْأُمْنِيَةِ فَاعْمَلِي».
وإِيَّاكَم وَسُوءَ الفَهْمِ ، وَكَيْفَ لَا؟ وَسُوءُ الفَهْمِ دَاءٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ، وَوَبَاءٌ خُلُقِيٌّ كَبِيرٌ، مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلَّا كَانَ نَذِيرًا لِهَلَاكِهَا، وَمَا دَبَّ فِي أُسْرَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبًا لِفَنَائِهَا، فَهُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ عَدَاءٍ، وَيَنْبُوعٌ لِكُلِّ شَرٍّ وَتَعَاسَةٍ. وَسُوءُ الفَهْمِ آفَةٌ مِنْ آفَاتِ الإِنْسَانِ، مَدْخَلٌ كَبِيرٌ لِلشَّيْطَانِ، مُدَمِّرٌ لِلْقَلْبِ وَالأَرْكَانِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الأَحِبَّةِ وَالإِخْوَةِ، يَحْرِمُ صَاحِبَهُ الأَمْنَ وَالأَمَانَ، وَيُدْخِلُهُ النِّيرَانَ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ الجِنَانِ، فَالبُعْدُ عَنْهُ خَيْرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. وَكَيْفَ لَا؟ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ – قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: أَي يَفْهَمْهُ. وَحَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الفِقْهِ وَالفَهْمِ، وَاسْتِخْدَامِ العَقْلِ فِيمَا خُلِقَ لَهُ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)). وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)). وَلَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ)). قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: سُوءُ الفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَصْلُ كُلِّ بِدْعَةٍ وَضَلَالَةٍ نَشَأَتْ فِي الإِسْلَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَصْلُ كُلِّ خِلَافٍ فِي الأُصُولِ وَالفُرُوعِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَهَلْ أَوْقَعَ القَدَرِيَّةَ – النُّفَاةَ مِنْهُمْ وَالجَبْرِيَّةَ – وَالمُرْجِئَةَ وَالخَوَارِجَ وَالمُعْتَزِلَةَ وَالرَّوَافِضَ وَسَائِرَ طَوَائِفِ أَهْلِ البِدَعِ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ إِلَّا سُوءَ الفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟! مَرَّ عَلَى الخَوَارِجِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَسَأَلَ الخَوَارِجُ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ الخَوَارِجُ قَدْ كَفَّرُوا عَلِيًّا بِدَعْوَى أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ (الأَنْعَامُ: 57). فَانْظُرْ كَيْفَ يَسْتَشْهِدُ هَؤُلَاءِ بِالآيَاتِ! فَلَمَّا سَأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ عَنْ عَلِيٍّ أَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، فَلَمَّا أَثْنَى عَبْدُ اللَّهِ عَلَى عَلِيٍّ قَتَلَهُ الخَوَارِجُ وَذَبَحُوهُ كَمَا تُذْبَحُ النَّعْجَةُ، ثُمَّ سَأَلُوا امْرَأَتَهُ عَنْ عَلِيٍّ فَأَثْنَتْ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، فَذَبَحُوهَا كَمَا تُذْبَحُ النَّعْجَةُ، وَبَقَرُوا بَطْنَهَا، وَاسْتَخْرَجُوا جَنِينَهَا مِنْ بَيْنِ أَحْشَائِهَا. وَمَرَّ هَؤُلَاءِ المُجْرِمُونَ وَأَيْدِيهِمْ مُلَطَّخَةٌ بِدِمَاءِ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَتِهِ عَلَى حَائِطٍ لِلنَّخِيلِ سَقَطَتْ بَعْضُ تَمَرَاتِهِ خَارِجَ أَسْوَارِهِ، فَانْحَنَى أَحَدُهُمْ لِيَلْتَقِطَ تَمْرَةً لِيَأْكُلَهَا، فَقَالُوا: مَهْ مَهْ! مَاذَا تَصْنَعُ يَا رَجُلُ؟! كَيْفَ تَسْتَحِلُّ لِنَفْسِكَ تَمْرَةً لَمْ يَأْذَنْ لَكَ صَاحِبُهَا؟! وَأَيْدِيهِمْ مُلَطَّخَةٌ بِدِمَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ وَامْرَأَتِهِ. فَسُوءَ الفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَضِيَّةٌ مِنْ أَخْطَرِ القَضَايَا. لِذَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأَنْفَالُ: 22-23].
لِلَّهِ فِي الآفَاقِ آيَاتٌ لَعَـ *** ـلَّ أَقَلَّهَا هُوَ مَا إِلَيْهِ هَدَاكَا
وَلَعَلَّ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ آيَاتِهِ ***عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
وَالْكَوْنُ مَشْحُونٌ بِأَسْرَارٍ إِذَا **** حَاوَلْتَ تَفْسِيرًا لَهَا أَعْيَاكَا
وَأُرْجِئُ بَقِيَّةَ الحَدِيثِ إِلَى مَا بَعْدَ جَلْسَةِ الاسْتِرَاحَةِ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِاسْمِ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ……………….. أَمَّا بَعْدُ
• ثَالِثًا: نَفْسُكَ أَمَانَةٌ فَاحْرِصْ عَلَيْهَا.
أيُّهَا السَّادَةُ: لَقَدْ حَدَّدَتْ وِزَارَةُ الأَوْقَافِ أَنْ تَكُونَ الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ المُحَافَظَةِ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الانْتِحَارِ وَمِنَ التَّهَوُّرِ فِي قِيَادَةِ السَّيَّارَاتِ وَالدَّرَّاجَاتِ الَّتِي تُزْهِقُ الأَرْوَاحَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، وَمِنَ السِّبَاحَةِ فِي المَصِيفِ وَالدُّخُولِ إِلَى المَنَاطِقِ المُحَظَّرِ السِّبَاحَةُ فِيهَا فَيَمُوتُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَمِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الإِسْلَامَ العَظِيمَ حَرِيصٌ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى صِحَّةِ الإِنْسَانِ، وَعَلَى جَسَدِهِ، وَكَيْفَ لا؟ وَالصِّحَّةُ وَالجَسَدُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي سَيُسْأَلُ عَنْهَا الإِنْسَانُ أَمَامَ مَلِكِ المُلُوكِ وَجَبَّارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ فِيمَا أَنْفَقَهُ وَمِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟». لِذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ». فنَفْسُكَ لَيْسَتْ مِلْكًا لَكَ، فَأَنْتَ لَمْ تَخْلُقْهَا وَلَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِكَ، وَلَا خَلِيَّةً مِنْ خَلَايَاكَ، وَإِنَّمَا نَفْسُكَ وَدِيعَةٌ وَأَمَانَةٌ اسْتَوْدَعَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُفَرِّطَ فِيهَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾. وَقَالَ رَبُّنَا: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا». وَالاِنْتِحَارُ أَيُّهَا الأَخْيَارُ لَيْسَ عِلَاجًا لِلْمُشْكِلَاتِ، وَلَا حَلًّا لِلْمُعْضِلَاتِ، وَلَيْسَ دَوَاءً لِمَا يَحِلُّ بِنَا مِنَ النَّكَبَاتِ، بَلْ هُوَ دَاءٌ يُسَبِّبُ الاِنْتِكَاسَةَ وَالحِرْمَانَ مِنَ الجَنَّةِ، وَيَجْلِبُ سَخَطَ الرَّبِّ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى–، وَيُوجِبُ العُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ فِي الآخِرَةِ كَمَا سَمِعْتُمْ مِنْ أَحَادِيثِ نَبِيِّكُمْ ﷺ فلقد تَزَايَدَتْ حَالَاتُ الاِنْتِحَارِ بَيْنَ الشَّبَابِ فِي السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةِ بِصُورَةٍ تُثِيرُ القَلَقَ، وَتَبْعَثُ عَلَى الأَسَى أَنْ يُنْهِيَ مُسْلِمٌ حَيَاتَهُ شَنْقًا، أَوْ بِتَنَاوُلِ السُّمِّ،أو حَبَّةِ الغُلَّةِ أَوْ بِقَطْعِ شَرَايِينِهِ، أَوْ بِإِطْلَاقِ رَصَاصَةٍ عَلَى رَأْسِهِ. حَيْثُ تُطَالِعُنَا الأَخْبَارُ عَنْ حَالَاتِ انْتِحَارٍ مُتَزَايِدَةٍ لِأَسْبَابٍ وَاهِيَةٍ، يُقْدِمُ فِيهَا الإِنْسَانُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الإِيمَانِ وَغِيَابِ التَّسْلِيمِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ
بَلْ إِنَّ الإِسْلَامَ – فِي أَمْرِهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ – يَذْهَبُ إِلَى أَدَقَّ مِنْ ذَلِكَ؛ فَنَهَى حَتَّى عَنْ تَمَنِّي المَوْتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الأَدْنَى مِنْ بَابِ التَّرَقِّي فِي النَّهْيِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جُرْمِ وَعِظَمِ الجَرِيمَةِ العُلْيَا وَهِيَ إِزْهَاقُ النَّفْسِ بِأَيِّ صُورَةٍ. فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ ﷺ نَهَى أَنْ يَتَمَنَّى الإِنْسَانُ المَوْتَ لِلضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الضُّرُّ؟ فَالمُحَافَظَةُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ إِحْدَى الضَّرُورَاتِ الخَمْسِ الَّتِي أَوْجَبَ الشَّارِعُ حِفْظَهَا؛ يَقُولُ الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ فِي «المُوَافَقَاتِ»: «وَمَجْمُوعُ الضَّرُورَاتِ خَمْسٌ، هِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالمَالِ، وَالعَقْلِ. هَذِهِ الضَّرُورَاتُ إِنْ فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَلْ عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ، وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الآخِرَةِ فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالرُّجُوعُ بِالخُسْرَانِ المُبِينِ». وَإِنَّ عَلَى المُؤْمِنِ إِذَا ضَاقَتْ بِهِ الأُمُورُ، وَتَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ المُشْكِلَاتُ، وَضَاقَتْ نَفْسُهُ بِمَا فِيهَا؛ عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ رَحْمَةَ اللهِ فَتَذْهَبَ هُمُومُهُ، وَتَزُولَ غُمُومُهُ، وَيَنْزَاحَ اليَأْسُ وَالقُنُوطُ عَنْ نَفْسِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا ذَاكِرًا للهِ مُقَدِّرًا لَهُ حَقَّ قَدْرِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَغَلَبَهُ اليَأْسُ فَـ﴿إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56]. إِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ هَارِبٌ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ مَهْمَا بَلَغَ، لِيَقَعَ فِي عَذَابِ الآخِرَةِ الَّذِي لا يَنْتَهِي. وتَذَكَّرْ قَوْلَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ – رَحِمَهُ اللهُ –:
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ لَهَا الفَتَى **** ذَرْعًا وَعِندَ اللهِ مِنْهَا المَخْرَجُ
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا **** فُرِجَتْ وَكُنْتُ أَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ
حَفِظَ اللهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَشَرِّ الْفَاسِدِينَ، وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.
كتبه العبدُ الفقيرُ إلى عفو ربِّه د/ مُحَمَّد حِرْز