خطبة الحمعة القادمة ، إعلاء قيمة السعي والعمل – للدكتور مسعد الشايب

خطبة الحمعة القادمة ، إعلاء قيمة السعي والعمل – للدكتور مسعد الشايب، الجمعة الموافقة 21 من صفر 1447هـ الموافقة 15/8/2025م
===========================================
خطبة الحمعة القادمة word ، إعلاء قيمة السعي والعمل – للدكتور مسعد الشايب
خطبة الحمعة القادمة pdf ، إعلاء قيمة السعي والعمل – للدكتور مسعد الشايب
أولا: العناصر:
- مكانة العمل، وأهميته في الشريعة الإسلامية.
- ترغيب الشريعة الإسلامية في العمل النافع المثمر.
- الخطبة الثانية: (العمل التطوعي والدعوة إليه).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، تقدس في الأزل عن الشبيه والنظير، هو الغني عن خلقه، والعبد إليه فقير، هو الغني عن خلقه؛ فلا أمد يحصره، ولا أحد ينصره، ولا ضياء يظهره، ولا حجاب يخفيه، سبحانه، سبحانه واحدٌ أحدٌ فردٌ صمدٌ لا شك فيه، وأَشهدُ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأَشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عَبدُه ورسولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَيه وعلَى آلِهِ وصحبِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ، وبعد:
===========================================
(1) ((مكانة العمل، وأهميته في الشريعة الإسلامية))
===========================================
أيها الأحبة الكرام: سئل الإمام أحمد (رضي الله عنه) عن رجل جلس في بيته أو في مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال (رضي الله عنه): هذا رجل جهل العلم، أما سمع قوله صلى الله عليه وسلم: (جَعَلَ اللهُ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي)(رواه أحمد)، وقوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الطير: (تَغْدُوا خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا؟)(رواه الترمذي) ! فذكر أنها تغدو في طلب الرزق. وقال الله تبارك وتعالى: {وآخرون يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ}[المزمل:20]. وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم}[البقرة:198]. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم. (المجالسة وجواهر العلم)
فمن محاسن الشريعة الإسلامية: أنها دعت إلى العمل وأعلت قيمته ومكانته ومنزلته بين شرائعها وتعاليمها، فالإسلام لا يعرف بطالة ولا كسلا، ولا تقاعسًا وخمولًا عن العمل، فتعالوا بنا أحبتي في الله بإذن من الحق تبارك وتعالى في لقاء الجمعة الطيب المبارك؛ لنري قيمة العمل، ومكانته، ومنزلته في شريعتنا الإسلامية الغراء، وكيف رغبت الشريعة الإسلامية في العمل المثمر النافع، فأعيروني يا عباد الله القلوب واصغوا إليّ بالآذان والأسماع، فأقول وبالله التوفيق: من مكانة العمل وقيمته في الإسلام:
======
1ـ إنه أحد الوسائل التي تحقق إحدى الغايات التي خلقنا الحق تبارك وتعالى من أجلها؛ ألا وهي عمارة الأرض، واستخراج ثرواتها وخيراتها وكنوزها، قال تعالي على لسان صالح (عليه السلام): {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود:61]، أي: طلب منكم عمارتها، واستخراج كنوزها وخيراتها، وإحياء مواتها، وهذا لن يتحقق إلا بالعمل والإنتاج والبناء، فالعمل والإنتاج والبناء ضرورة من ضرورات البشرية، وهو قوام الحياة؛ لا تقوم الحياة، ولا تستقيم، ولا تستقر إلا به، فلا تتصور حياة بدون عمل وإنتاج وبناء عند جميع العوالم والمخلوقات والكائنات، عند عالم الحيوان، والطير والحشرات، وعند بني الإنسان، أيضا من مكانة العمل وقيمته في الإسلام:
======
2ـ إنه قرين الإيمان، فلو تأملنا في القرآن الكريم لوجدنا أن كلمة (عمل) ومشتقاتها؛ (يعملون)، (تعملون)، (عاملون) والمرادف لها؛ (صنع)، (يصنعون)، (تصنعون)، وردت في القرآن الكريم ما يقارب (330) مرة، منها: ما يزيد على المائة (100) مرة وردت مقرونة بالإيمان، مما يدل على أن العمل قرين الإيمان، فالمؤمن الحق هو الذي يعمل وينتج ويبني فينفع نفسه وينفع غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النساء:124]، ويقول سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10]، ويقول الحسن البصري (رحمه الله): (إنَّ الإيمانَ ليسَ بالتَحَلّي ولا بالتَّمَنِّي؛ إنَّما الإيمانُ ما وَقَرَ في القلبِ، وَصَدَّقَهُ العَمَلُ)(مصنف ابن أبي شيبة).
==
وهنا قد يعترض معترض ويقول: إن العمل الصالح الذي قرن بالإيمان في آيات القرآن هو العمل للأخرة!، وأقول له: هو العمل للدنيا كما هو العمل للأخرة بدليل قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، فالعمل كما يكون للأخرة يكون أيضا للدنيا بعماراتها، واستثمار خيراتها للوصول إلى مستوى أفضل من المعيشة، والتمدن والتحضر، وهذا أيضا من الإيمان، ولذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على العمل والإنتاج والبناء في أحرج اللحظات، وأضيق الأوقات، فعن أنس (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)(رواه أحمد)، بالله عليكم تأملوا في هذه الدعوة من النبي صلى الله عليه وسلم للعمل من أجل الدنيا في وقت الأخرة، دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم للعمل في أحرج اللحظات والأوقات مما يدل على أن العمل قرين الإيمان، أيضا من مكانة العمل وقيمته في الإسلام.
======
3ـ إنه من أعظم صفات الأنبياء والمرسلين، فما من نبي من الأنبياء إلا وكان له حرفة أو مهنة، أو صنعة، فقد كانوا صلوات ربي وسلاماته عليهم لا يأكلون إلا من عمل أيديهم، وكانوا لا يسألون الناس إلحافا، فآدم (عليه السلام) كان فلاَّحًا يحرُث الأرض ويزْرَعها بنفسِه، وإدريس (عليه السلام) كان خيَّاطًا، ونوحٌ (عليه السلام) كان نجَّارًا، حتى خاطبه ربنا قائلًا: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[هود:37]، وكان إبراهيم (عليه السلام) بنَّاءً، بنَى الكعبة (البيت الحرام) وعاونَه في بنائها ولدُه إسماعيل (عليه السلام)، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:127]، وكان إلياسُ (عليه السلام) نسَّاجًا، وكان داودُ (عليه السلام) حدادًا يصنَع الدروع، حتى قال ربنا عنه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ*وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}[الأنبياء:80،79]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)(رواه البخاري).
==
بالإضافة إلى أن كل نبيّ من الأنبياء، ومنهم نبينا صلى الله عليه وسلم ـ قام برعي الغنم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ). فقال الصحابة (رضي الله عنهم): وأنت يا رسول الله؟. فقال: (نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ)(رواه البخاري)، كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم اشتغل بالتجارة مع عمه أبي طالب، وفي مال السيدة خديجة قبل زواجه منها، وبعد زواجه منها، فالعمل من شيم الأنبياء والمرسلين، والمرء العامل هو إنسان تخلق واقتدى واهتدى بهدي الأنبياء والمرسلين، أيضا من مكانة العمل وقيمته في الإسلام:
======
4ـ أن العمل لكسب الرزق، وتحسين الأحوال المعيشية لك ولمن تعولهم؛ نوعٌ من أنواع السعي في سبيل الله، وبالتالي فهو عبادة من العبادات، فقد مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)(معاجم الطبراني الثلاثة).
==
وقد قدم الحق تبارك وتعالى العاملين على المجاهدين في سبيل الله في سورة المزمل عند الحديث عن نسخ قيام الليل في حق الأمة، قال تعالي: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ…}[المزمل:20]، فالعمل نوع من أنواع السعي في سبيل الله، وعبادة من العبادات، ويقدم على الجهاد التطوعي في سبيل الله.
===========================================
(2) ((ترغيب الشريعة الإسلامية في العمل النافع المثمر))
===========================================
لأجل هذه المكانة العالية والقيمة السامية للعمل؛ رغبتنا الشريعة الإسلامية في قرآنها الكريم وسنة نبيها العظيم في العمل، وحثتنا عليه، بالعديد من الطرق والأساليب، التالية:
======
فتارة تبين أن الحق تبارك وتعالى مطلعٌ عليه، ويجازي عليه، قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[هود:123]، وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}[الحشر:18]، وكما يطلع الحق تبارك وتعالى على العمل الديني، فهو مطلعٌ على العمل الدنيوي.
وعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، أن أعرابيًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة، فقال: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟). قال: نعم. قال: (فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ (ينقصك) مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا)(متفق عليه)، والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي ملازمة المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم وترك أهله ووطنه، فخاف عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقوى لها ولا يقوم بحقوقها وأن ينكص على عقبيه، فقال له إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد، ولكن اعمل بالخير في وطنك وحيث ما كنت فهو ينفعك ولا ينقصك الله منه شيئا والله أعلم.
======
وتارة تبين أن الرزق متوقفٌ على العمل والسعي، وأن العمل أهم أسبابه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك:15]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}[الإسراء:12]، أي: وجعلنا آية النهار منيرة، تبصركم الأشياء، لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار.
وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)(رواه الترمذي).
======
وتارة تبين أن العمل النافع، ولو كان حقيرًا في نظرنا خيرٌ من البطالة والتسول والكسل، قال صلى الله عليه وسلم: (لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)(رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو على المنبر يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ)(رواه مسلم)،فاليد العليا هي العاملة المنتجة المتصدقة المنفقة خير من اليد الكسلانة العاطلة التي لا تعمل ولا تنتج وتمد يدها لغيرها.
======
وتارة تبين أن العمل الدنيوي الصالح مكفرٌ للعمل الطالح (الذنوب والمعاصي والخطايا)، شأنه شأن العمل الديني، ففي شأن العمل الديني، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ)(رواه مسلم)، ويقول صلى الله عليه وسلم في شأن العمل الدنيوي: (مَنْ أَمْسَى كالًّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ)(الطبراني في الأوسط)، من دخل عليه المساء مجهدًا ومتعبًا من عمل يده….، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ ذَنُوبًا لَا تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَلَا الصِّيَامُ وَلَا الْحَجُّ وَلَا الْعُمْرَةُ). قَالُوا: فَمَا يُكَفِّرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْهُمُومُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ)(الطبراني في الأوسط).
======
وتارة تبين أن العمل الدنيوي النافع للغير بأي نوعٍ من أنواع النفع؛ نوعٌ من أنواع الصدقة؛ لقول النبي (صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ)(رواه مسلم)، (ولا يرزؤه) أي: لا ينقصه ويأخذ منه.
======
أحبتي في الله: إذا كان العمل الدنيوي النافع المثمر بهذه المكانة، وتلك المنزلة، ورغبت فيه الشريعة الإسلامية هذا الترغيب بتلك الطرق والأساليب المتعددة؛ فلا شك أنه طاعةٌ لله ولرسوله، ولا شك أنه طريق موصلٌ للجنة بإذن الله (عزّ وجلّ)، ويكفي للدلالة على ذلك؛ أن الله (عزّ وجلّ) يطلع عليه، وأنه يحقق عمارة الكون، وأنه تشبهٌ بالأنبياء والمرسلين، وأنه نوعٌ من أنواع الجهاد في سبيل الله، ونوع من أنواع الصدقة، وأنه يحقق الامتثال والعمل بالعديد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، فلا شك أنه طريقٌ موصلٌ للجنة، بإذن الحق تبارك وتعالى.
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له
===========================================
(الخطبة الثانية)
((العمل التطوعي والدعوة إليه))
===========================================
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
======
أيها الأحبة الكرام: رأينا مكانة العمل وأهميته في الشريعة الإسلامية، ورأينا ترغيبها فيه والدعوة إليه، وهناك نوعٌ أخر من العمل ليس بواجب على الإنسان ينفع به الانسان نفسه ومحيطه ومجتمعه، ألا وهو العمل التطوعي، وبيان ذلك كالتالي، فأقول:
======
إن من أعظم ما دعت إليه الشريعة الإسلامية، ومن أعظم ما تميزت به: أنها دعت إلى فعل الخير بدون مقابل ألا وهو العمل التطوعي، وبيّنت أنه طريق الفلاح، وقرنت الدعوة إليه بالدعوة إلى عبادة الله (عزّ وجلّ) وطاعته، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77].
======
وكما قرن القرآن الكريم الدعوة إلى العمل التطوعي بالدعوة إلى العبادة والطاعة؛ جاءت السنة النبوية وقرنته بالدعوة إلى توحيد الله (عزّ وجلّ)، فعن عن أبي تميمة الهجيمي، عن رجل من قومه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أو قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ـ فقال أنت رسول الله؟ ـ أو قال: أنت محمد ـ؟ فقال: (نَعَمْ). قال: فإلام تدعو؟. قال: (أَدْعُو إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، مَنْ إِذَا كَانَ بِكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ، وَمَنْ إِذَا أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَ لَكَ، وَمَنْ إِذَا كُنْتَ فِي أَرْضٍ قَفْرٍ فَأَضْلَلْتَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّ عَلَيْكَ). قال: فأسلم الرجل، ثم قال: أوصني يا رسول الله؟ فقال له: (لَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا)… (وَلَا تَزْهَدْ فِي الْمَعْرُوفِ، وَلَوْ بِبَسْطِ وَجْهِكَ إِلَى أَخِيكَ وَأَنْتَ تُكَلِّمُهُ، وَأَفْرِغْ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي…)(مسند أحمد).
======
_ كما أن العمل التطوعي، وفعل الخير يجلبان محبة الله عزّ وجلّ للعبد، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195].
======
_ كما أن فعل الخير والعمل التطوعي من أعظم أخلاق الأنبياء والمرسلين (صلوات ربي وتسليماته عليهم)، فالله عزّ وجلّ وصف سبعة عشر نبيًا من أنبيائه بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
==
وهذا موسى (عليه السلام) يسقي لامرأتين بدون سابق معرفة لهما، بعد أن سار على قدميه ثمانية أيام، وبعد أن أنهكه الجوع والتعب، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ*فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:24،23].
==
وها هي السيدة خديجة (رضي الله عنها) تشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالعمل التطوعي، وخدمة المجتمع؛ فحينما رجع إليها صلى الله عليه وسلم يرتجف فؤاده ويقول: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)، فزملوه صلى الله عليه وسلم حتى ذهب عنه الروع، فقصّ على السيدة خديجة (رضي الله عنها) وأخبرها خبر الوحي وقال لها: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي). فقالت له: (كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) (متفق عليه).
======
_ والعمل التطوعي، وفعل الخير لهما مجالات متعددة، فبابهما واسع يشمل جميع ميادين الحياة التربوية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية…الخ، فكل عمل يجلب النفع للناس، ولا يُطالب به أحدٌ على وجه التعيين، فهو عمل تطوعي، وقد دعانا القرآن الكريم إلى العمل التطوعي في كافة مجالات الخير، فقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة:2].
======
_ والعمل التطوعي فرض من فروض الكفايات يجب ألا يخلو منه مجتمع أو وطن، ولو تأملنا في الشريعة الإسلامية لوجدنا أن فروض الكفايات في الأعمال البدنية أغلبها ـ إن لم تكن كلها ـ أعمال تطوعية. حيث أن فرض الكفاية هو العمل الشرعي المطلوب إقامته، فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي.
======
_ والعمل التطوعي، وفعل الخير فيهما تلبية للكثير من الحاجات الاجتماعية الملحة، فهما يساهمان في بناء الكثير من المرافق العامة التي تخدم المجتمع، وتسدُّ حاجاته كبناء المستشفيات، والمدارس، والمساجد، والمصانع، وإجراء الأنهار، وزرع الحدائق والأشجار، وهذه الأشياء يجري ثوابها للعبد بعد موته، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى (أجرى) نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)(مسند البزّار).
==
وها هو ذو القرنين في رحلته إلى شمال الكرة الأرضية يتطوع ببناء سد لمن يعيشون بين السدين ليقيهم من مفاسد يأجوج ومأجوج‘ قال تعالي: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا*حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا*قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا*قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا*آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا*فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[الكهف:92ـ97].
===========================================
فاللهمّ إنّا نسألك رضاك والْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَما مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ سخطك ومن النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَما مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب