خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة القادمة للدكتور مسعد الشايب (هلا شققت عن قلبه) (أول مرة)

خطبة الجمعة القادمة للدكتور مسعد الشايب (هلا شققت عن قلبه) (أول مرة) من حق الإنسان على أخيه الإنسان الجمعة الموافقة 23من جماد أول 1447هـ الموافق 14/11/2025م
==========================================

خطبة الجمعة القادمة word للدكتور مسعد الشايب (هلا شققت عن قلبه) (أول مرة)

خطبة الجمعة القادمة pdf للدكتور مسعد الشايب (هلا شققت عن قلبه) (أول مرة)

أولا: العناصر:
1. لنا الظاهر والله يتولى السرائر.
2. حقوق متعلقة بالقلب الإنساني.
3. الخطبة الثانية: (خطورة الرشوة).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وحنيفيته، ووهب لنا الأزهر، ووسطيته، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صادق الوعد الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
==========================================
(1) ((لنا الظاهر، والله يتولى السرائر))
==========================================
أيها الأحبة الكرام: من عقيدة أهل السنة والجماعة الحكم بالظاهر وترك السرائر والبواطن لله (عزّ وجل)، والأصل في ذلك ما رواه سيدنا أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ﭭ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ الله ﷺ فِي سَرِيَّةٍ. فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ( ) مِنْ جُهَيْنَةَ. فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا. فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ. فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: (أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟). قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ. قَالَ: (أَفَلَا ‌شَقَقْتَ ‌عَنْ ‌قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا). فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ. (رواه مسلم).
==
_ النبيُّ ﷺ يعلمنا فِي هذا الحديث أنَّ الحكم على الناس إنما يكون بحسب الظاهر الجلي منهم فيحمل أمرهم عليه، والله يتولى بواطنهم وسرائرهم الخفية، فالبواطن لا يُوصَل إليها، ولا يعلم ما فيها إلا علام السرائر، وعبّرَ النبيُّ ﷺ بـ (شق القلب) هنا تنبيهًا على ذلك الأمر، وكنايةً عن امتناع الاطلاع على البواطن الخفية، إذ لا يوصل إلى ذلك وإن شققنا عن قلوبهم.
_ وقصةُ سيّدِنا أسامة بن زيد ﭭ هذه وقعت في شهر رمضان سنةَ سبعٍ من الهجرة، حيث بعث سيدنا رسول الله ﷺ سريةً بإمارة سيّدِنا غالب بن عبد الله الليثي ﭬ لتأديب بطنٍ مِنْ بطون قبيلة جهينة، وَكَانَ فِي هذه السرية سيّدُنا أسامة بن زيد ﭭ.
_ ففاجأت السرية القومَ صباحًا فقاتلتهم، وأعملَ القتلَ فِي المسلمين رجلٌ مِنْ المُشركين، اسمُه: مِرْداسُ بنُ عمرو الفِدْكيّ، وقيل: مِرْدَاس بن نهيك الفزاري، ولكن الدائرة سرعان ما دارت عليه، وعلي المشركين فانهزموا وفروا.
_ فتَعقبَ هذا المشركَ سيّدُنا أسامةُ ﭬ، ورجلٌ مِنْ الأنصار حتى أدركاه وأحاطا به، فقال المشرك: لا إله إلا الله لينجوَ مِنْ القتلِ، فكفّ الأنصاري عنه، لكن سيّدَنا أسامة ﭬ اعتقد أنه يخادع بها لينجو من القتل، كما أنه قتل عددًا مِنْ الصحابة ﭫ، فقاتله سيّدُنا أسامةُ ﭬ بالسيف فاحتمى منه، فطعنه سيدنا أسامة برمحه حتى قضى عليه.
_ وذهب البشير بخبر السرية إلى سيّدِنَا رسولِ الله ﷺ وحدثه حديثَ سيّدِنا أسامة وقتيله، فلمّا وَصَلَ سيّدُنا أسامةُ إلى المدينة سأله رسولُ الله ﷺ: (أقتلته يا أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله؟).
فقال سيّدُنّا أسامة: إنه قالها خوفًا من السلاح.
قال له: (هل شققت عن حقيقة قلبه ودخيلة نفسه لتعلم أقالها مِنْ قلبه أَوْ خِدَاعًا؟).
قال: يا رسول الله. إنه أوجع في القتل، وقتل فلانًا وفلانًا مِنْ المسلمين.
فقال رسول الله ﷺ: (وقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟).
_ قال سيّدُنَا أسامة: يا رسولَ الله استغفر لي.
قال: (وبم تجيب يوم القيامة إذا جاءت لا إله إلا الله تطالبك بحقها في حقن الدم والمال؟).
قال: استغفر لي يا رسول الله.
قال: (وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟).
أعاد سيّدُنَا أسامة وكرر طلب الاستغفار، لكن رسول الله ﷺ لم يزد على قوله له: (كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟).
_ وحلف سيّدُنا أسامة ﭬ ألا يقاتل مُسْلمًا بعد يومه هذا، ولذا لما قامت الحرب بين سيّدِنَا علي ﭬ ومعارضيه من المسلمين في موقعتي: الجمل، وصفين، واستنفر سيّدُنَا علي ﭬ أصحابه، رفض سيّدُنَا أسامة، الانضمام إلى سيّدِنَا علي ﭬ ومناصرته، من أجل هذا الموقف، وعتب سيّدُنَا رسول الله ﷺ عليه.
==
_ فالحديثُ صريحٌ فِي وجوبِ الكفِّ والإمساك عَمَنْ قال: لا إله إلا الله، ويحذرُنا مِنْ تكفيره، وما يترتب على هذا التكفير من استباحة الأنفس، والأعراض، والأموال كما يفعل أصحاب الفكر المتطرف.
_ وبالرغم مِنْ تأولِ سيّدُنَا أسامة ﭬ فِي قتل الرجل، وثأرِهِ منه لمَنْ قَتَلَهم مِنْ الصحابة، وبالرغم من طلبِهِ للاستغفار من سيدنا رسول الله ﷺ، إلا أن سيّدَنا رسول الله ﷺ لم يستغفر له مبالغة في التحذير من هذا الأمر الشنيع. وإذا كنا نتحدث أن البواطن والسرائر لا يعلمها إلا الله، وليس لنا إلا الظاهر، فمن حق المسلم على أخيه المسلم.
==========================================
(2) ((حقوق متعلقة بالقلب الإنساني))
==========================================
1ـ عدم التسرع في رميه بالكفر، فعن ابن عمر ﭭ، أن رسول الله ﷺ، قَالَ: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ)(متفق عليه)، وعن أنس بن مالك ﭬ، قَالَ رسول الله ﷺ: (‌ثَلَاثٌ ‌مِنْ ‌أَصْلِ ‌الْإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ…)(رواه أبو داود).
_ فتكفير المسلم لمجرد الذنب، أو لمجرد المخالفة في الرأي، أو التوجه والتحيز أمرٌ مخالفٌ لما تقرر مِنْ وسطية أهل السنة والجماعة: إن الذنب ما لم يكن كفرًا بالله (عزّ وجلّ) وشركًا به، ومات عليه صاحبه؛ فهو في مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه بعدله، وإن شاء عفا عنه برحمته وفضله، قال تعالي: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:48ـ 116].
_ والقرآنُ الكريمُ لمْ يرفع عَنْ المتقاتلين (أعم من رفع السلاح) مِنْ المؤمنين وصفَ الإيمان، ولا اتهمهم بالكفر، بل أمر بالإصلاح بينهم، فقال تعالى:﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾[الحجرات:9].
_ وها هو الإمام الأشعري (رحمه الله) يؤلف كتابًا عظيمًا، يسميه: (مقالات الإسلاميين) يتحدث فيه عن عقائد الفرق الإسلامية، ويصفهم بالإسلام بدونِ تكفيرٍ لأحدٍ بالرغم مِنْ مخالفاته المتعددة لهم في هذا الكتاب.
_ وقد قَرَّرَ علماءُ الأمة: إن الكلمة إذا احتملت الكفرَ مِنْ تسعةٍ وتسعينَ وَجْهًا، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد، حملت على أحسن المحامل، وهو الإيمان.
==
_ فمنهج أهل السنة والجماعة الوسطي، منهجٌ احتوائي، يجمع ولا يفرق، منهجٌ مبني على حُسْنِ الظنِّ بالمسلمين، ولعلَ هذا مستفادٌ مِنْ تقديم السؤال عن الإسلام على السؤال عن الإيمان فِي الحديث المشهور، بحديث: جبريل ڠ، مع أن الإيمان هو الأصل، وهو الأساس، وكأن سيدنا جبريل ڠ يعلمنا أن الإسلام والوصف به يسعنا جميعًا، وأنّ أساسَ التعامل بيننا ينبغي أن يكون بحسب الظاهر، أمّا الباطنُ فَلَا يعلمُه إلا اللهُ (عزّ وجلّ)، وهو الذي يتولى المحاسبة عليه، ومن حقوق المسلم على أخيه المسلم بل على أخيه الإنسان.
==========
2ـ إحسان الظن، وحسن الظّنّ يعني: ترجيح جانب الخير في الآخرين على جانب الشّرّ، ونفسر أفعالهم وأقوالهم على أحسن وجه، ما لم يكن هناك دليل قاطع على خلاف ذلك. وخصوصًا إذا كان ظاهرهم الاستقامة، وتجنب مواطن التهم والشبهات.
قال تعالى: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا ‌مِّنَ ‌ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞﵞ[الخجرات:12].
وقد حذرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) من سوء الظن لما يؤدي إليه من التدنس بالأخلاق الذميمة، فقال: «‌إِيَّاكُمْ ‌وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا»(متفق عليه).
==
وانظروا إلى سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وهو يعلمنا حسن الظن بالآخرين، فقد شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: (يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي؟). قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: (أَمَّا أَنَا، وَاللهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَا أَخْرِمُ (أنقص عنها) عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ (أطول) فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ). قَالَ: ‌(ذَاكَ ‌الظَّنُّ ‌بِكَ ‌يَا ‌أَبَا ‌إِسْحَاقَ)(رواه البخاري)، ومن حقوق المسلم على أخيه المسلم.
==========
3ـ التماس الأعذار، يعني: البحث عن الحجج ، والمخارج، والتبريرات للناس عندما يخطئون أو يقومون بأفعال قد تبدو غير مقبولة. هذا المفهوم مرتبط بحسن الظن بالآخرين ويهدف إلى تعزيز التسامح والتفاهم بين الناس، وهو من الأخلاق الحميدة التي حث عليها النبي (صلى الله عليه وسلم)، حينما قال: (مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا عَثْرَتَهُ (رفعها وأزالها)، أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يوم القيامة)(صحيح ابن حبان).
==
ومن أروع القصص في التماس الأعذار قصة الصحابي الذي أخطأ في صلاته، فلم يكن يعرف كيفية الصلاة بشكل صحيح. فعندما سلم؛ قال له النبي (صلى الله عليه وسلم): «ارْجِعْ فَصَلِّ ‌فَإِنَّكَ ‌لَمْ ‌تُصَلِّ». حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا عَلِّمْنِي. قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا»(متفق عليه).
==
فهذه القصة تُظهر كيف أن النبي (صلى الله عليه وسلم) التمس العذر للصحابي ولم يكن قاسيًا معه، بل علّمه وهداه إلى الصواب.
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له.
==========================================
(الخطبة الثانية)
((خطورة الرشوة))
==========================================
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
==
أيها الأحبة الكرام: من المفاهيم التي تحتاج إلى تصحيح في عصرنا مفهوم (الرشوة)، فمن عجيب أمر الناس في هذا الزمان أنهم يسمون الرشوة بغير اسمها تحايلا على أخذها، فيسمونها هدية أو إكرامية، أو الشاي…إلخ، والأسماء لا تغير من الحقائق شيئًا، والعبرة بالمضامين والمعاني لا بالألفاظ والمباني، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}[الأحزاب:4].
==
وأول من تحايل على أمر الرشوة وسمّاها بغير اسمها هي بلقيس ملكة سبأ فقد سمتها هدية كما جاء في القرآن الكريم، قال تعالى على لسانها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ*وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل:35،34]، لذا كان ردّ سيدنا سليمان (عليه السلام) مستنكرا ذلك كما جاء في القرآن الكريم على لسانه، قال تعالى:{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}[النمل:36].
==
والرشوة لغة: اسم مأخوذ من مادّة (ر ش و) الّتي تدلّ على التّسبّب للشّيء برفق وملاينة، أو المحاباة والمظاهرة، تقول: ترشّيت الرّجل إذا لاينته، وراشيته إذا ظاهرته.
والرشوة اصطلاحًا: هي ما يعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل، أو هي: بذل المال فيما هو غير مستحقّ على الشّخص، وقيل: هي ما يعطيه رجل شخصا حاكما أو غير حاكم ليحكم له أو يحمله على ما يريده.
==========
1ـ الرشوة توجب اللَّعنة لكل مشارك فيها، فعن ثوبان (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ، وَالْمُرْتَشِيَ، وَالرَّائِشَ، الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا)(مستدرك الحاكم).
==========
2ـ الرشوة سبب لعدم قبول الدعاء والطاعة والعبادة، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (أيُّهَا النَّاسُ: إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وإنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فقالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}[المؤمنون:51]، وقال تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[البقرة:172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، ومَلبسُهُ حرامٌ، وَغُذِّيَ بالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) (رواه مسلم).
==========
3ـ الرشوة سبب لذهاب البركة، وهلاك الصحة، وضياع الأسرة والأولاد، فالشريعة الإسلامية قد بيَّنت لنا الطريق الصحيح لتأمين مستقبل الأسرة والأولاد، فقال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[النساء:9]، ومن تقوى الله (عزّ وجلّ) اجتناب الرشوة، وعن ابن مسعود (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (…وَلا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالاً مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ…)(رواه أحمد)، فأكل الحرام بأنواعه ومنه الرشوة سبب لزوال النعم، ومنها نعمة الصحة، والولد، والأسرة.
==========
4ـ الرشوة سببٌ، من أهم أسباب موت الضمير الإنساني، فالإنسان المرتشي يعتاد أكل الحرام، فلا يبالي بعد ذلك بمصدر ماله بعد ذلك، وهذا ما حذر منه الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فقال: ( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ)(رواه البخاري).
==========
5ـ الرشوة سببٌ من أهم أسباب نشر الفوضى، والظلم، وغياب العدل…الخ، فقد يأخذ الراشي حق غيره بالرشوة، وهذا يدفع للفوضى في كل الأمور، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:188].
كما أن الرشوة سببٌ في إسناد الأمور إلى غير أهلها، الأمر الذي يدل على فقد الثقة وضياع الأمانة، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ). قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟. قال: (إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ)(رواه البخاري).
====
والرشوة إذا تفشت في مجتمع أو دولة من الدول كان انذارًا بالفساد والهلاك؛ لأنها تتسبب في خلق فتنٍ ومشاحنات وخصومات بين أفراد المجتمع، فهي تقضي بهذا على تماسك أفراد المجتمع، كما أنها تكون سبباً في التخلف الأخلاقي والاقتصادي والفكري، والتعليمي، والثقافي، كما أنها تساعد على اهدار المال العام.
====
الرشوة سبب انهيار العلاقات بين الأفراد والمجتمعات، داخليًا وخارجيًا، كما أنها سبب في خراب الذمم، وإذا خربت الذمم عم الفساد سائر المجتمعات والدول، ولا يتم إزالة هذه الأثار والأضرار إلا بالعودة إلى أكل الحلال والتعاون على البر والتقوى، فالرشوة سبب للتدني الأخلاقي عمومًا.
==========
6ـ الرشوة سبب لدخول النار؛ لأنها من صور أكل المال بالحرام، ورسول الله (صلي الله عليه وسلم) يقول: (إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ)(رواه الترمذي).
وعن زيد بن أرقم (رضي الله عنه) قال: كنا عند أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، فأتاه غلامه بطعام، فأهوى إلى لقمة فأكلها، فقال له الغلام: لم تسألني عنه: من أين اكتسبته! فأخبره، فأدخل أصبعه في حلقه، فلم يزل يتقيأ حتى ظننا أن نفسه ستخرج، ثم قال: سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يقول: (أَيُّمَا لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (شعب الإيمان).
==========================================
اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى