خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ: ((لِلَّهِ دَرُّكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ: ((لِلَّهِ دَرُّكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ بِتَارِيخِ: ١٥ مِنَ المُحَرَّمِ ١٤٤٧هـ – ١١ يُولْيُو ٢٠٢٥م

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ word : ((لِلَّهِ دَرُّكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ 

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ pdf : ((لِلَّهِ دَرُّكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لَنَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُدْوَةً وَمَثَلًا، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَحَبِيبَنَا وَعَظِيمَنَا وَقَائِدَنَا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا، فَقَالَ: “يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ”).أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي، أَيُّهَا الأَخْيَارُ، بِتَقْوَى العَزِيزِ الغَفَّارِ، قَالَ اللَّهُ جل وعلا:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]. عِبَادَ اللهِ: ((لِلَّهِ دَرُّكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ)) عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا، وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا
عَناصِرُ اللِّقَاءِ
أَوَّلًا: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَما أَدْراكَ ما ابْنُ عَبَّاسٍ؟
ثانيًا: حبرُ الأُمَّةِ وتَرجُمانُ القُرآنِ معْ الخوارجِ!!
ثالِثًا وَأَخيرًا: الجِهازُ الرِّقابِيُّ لِلإِنْسانِ؛ الضَّمِيرُ.
أيهَا السَّادَةُ: ما أَحْوَجَنَا في هذِهِ الدَّقائِقِ الْمَعْدُودَةِ إِلى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنا عَن شابٍّ عَطَّرَتْ سِيرَتُهُ الكُتُبَ وَالْمَكْتَبَاتِ، وَمَلأَتْ أَخْبارُهُ مَجالِسَ العِلْمِ وَالذِّكْرِ وَالأَدَبِ. هُوَ شابٌّ اسْتَثْمَرَ شَبابَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ، فَعَادَ نَفْعُهُ عَلَيْهِ بِالذِّكْرِ الطَّيِّبِ، وَالرِّفْعَةِ وَالْمَجْدِ، وَعادَ عَلَى أُمَّتِهِ بِعِلْمٍ غَزِيرٍ تَنْهَلُ الأُمَّةُ مِنْهُ مُنْذُ قُرُونٍ وَلَمْ يَنْفَدْ. حَدِيثُنا عَنْ حَبْرِ الأُمَّةِ، وَتَرْجُمانِ القُرآنِ، وَفَقِيهِ العَصْرِ، وَإِمامِ المُفَسِّرِينَ؛ حَدِيثُنا عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ الأَمِينِ. وَعَلِّمُوا أَوْلادَكُمْ أَسْماءَ أَصْحابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا التَّافِهِينَ وَالتَّافِهاتِ، وَلَا المُغَنِّينَ وَالمُغَنِّياتِ، لِتَسْعَدُوا وَلِتَفْرَحُوا بِهِمْ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ. حَدِيثُنا عَنْ جَبَلٍ مِن جِبالِ الفَهْمِ، وَهَضْبَةٍ مِن هِضابِ الوَعْيِ، وَسِلاحٍ مِن أَسْلِحَةِ العِلْمِ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ زَمَنٍ سِلاحًا، وَسِلاحَ هذَا الزَّمانِ العِلْمَ النَّافِعَ. قَدِيمًا كانَتِ الحُروبُ العَسْكَرِيَّةُ وَجْهًا لِوَجْهٍ، فيَنْتَصِرُ فيها أَثْبَتُهُم في اللِّقاءِ، وَأَصْبَرُهُم في البَقاءِ؛ أَمَّا اليَوْم، فَلُغَةُ الحَرْبِ مُعَقَّدَةٌ، وَالأَسْلِحَةُ مُدَمِّرَةٌ، وَكُلُّ شَيءٍ تَغَيَّرَ—إِلَّا سِلاحَ العِلْمِ؛ فَالأَقْوَى حُجَّةً هُوَ المُنْتَصِرُ في مَيادِينِهِ، قَدِيمًا وَحَدِيثًا. حَدِيثُنا عَنْ صَحَابِيٍّ ضَمَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى صَدْرِهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ، عَلِّمْهُ الكِتابَ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ.» ذٰلِكُم هو: عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ بنِ هاشمٍ القُرَشِيُّ، وكُنْيَتُه أبو العبَّاسِ رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاهُ.. قال الطَّحَاوِيُّ رحمهُ الله: ونُحِبُّ أَصْحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ولا نُفْرِطُ في حُبِّ أَحدٍ منهم، ولا نَتَبَرَّأُ من أَحدٍ منهم، ونُبْغِضُ من يُبْغِضُهُم، وبغيرِ الخيرِ يَذْكُرُهُم، ولا نَذْكُرُهُم إِلَّا بِخَيْرٍ؛ فَحُبُّهُم دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ”.
هٰذَا الحَبِيبُ الَّذِي فِي مَدْحِهِ شَرَفِي***وَذِكْرُهُ طَيِّبٌ فِي مَسْمَعِي وَفَمِي
هٰذَا أَبُو القَاسِمِ المُخْتَارُ مِنْ مُضَرٍ***هٰذَا أَجَلُّ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمِ
هٰذَا هُوَ المُصْطَفَى أَزْكَى الوَرَى خُلُقًا***سُبْحَانَ مَنْ خَصَّهُ بِالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ
أوَّلًا: ابنُ عبَّاسٍ، وما أَدْرَاكَ ما ابنُ عبَّاسٍ؟
أيُّها السَّادَةُ: عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ الهاشِمِيُّ، صَحابيٌّ جليلٌ، ومُحدِّثٌ بليغٌ، وفَقيهٌ عالِمٌ، وحافِظٌ مُتقِنٌ، ومُفَسِّرٌ عظيمٌ، وهو ابنُ عمِّ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وأحدُ المُكْثِرينَ في روايةِ الحديثِ النبويِّ، حيثُ روى ١٦٦٠ حديثًا عن الرَّسولِ الأمينِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وله في الصحيحينِ خمسٌ وسبعونَ حديثًا مُتَّفَقٌ عليها. وتفرَّد البُخاريُّ لهُ بِـ١٢٠ حديثًا، وتفرَّد مسلمُ بنُ الحَجَّاجِ بِـ ٩ أحاديث. وُلِدَ في شِعْبِ أبي طالب أثناء حصارِ قريشٍ لبني هاشم، قبلَ الهجرةِ بثلاثِ سنوات، ولم يُهاجر هو وأمُّهُ إلى المدينةِ إلَّا بعد فتحِ مكَّة، وكان عُمُرُه عشرَ سنواتٍ. قال: كنتُ أنا وأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ، أنا منَ الوِلدَانِ، وأُمِّي منَ النِّساءِ. وفي حَجَّةِ الوَدَاعِ كان قريبًا من البُلوغ، وتُوفِّي النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وعُمُرُ ابنِ عبَّاسٍ ثلاثَ عشرةَ سنةً فقط
كان -رضيَ اللهُ عنه- شابًّا وَسيمًا جَميلًا، طويلَ القامَةِ، مَهِيبًا، كامِلَ العَقلِ، زَكِيَّ النَّفْسِ، مِن خِيرةِ الرِّجالِ. دَعَا لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فَقَالَ:(اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ). فكان يُفَسِّرُ القرآنَ بعدَ موتِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-، حتى لُقِّبَ بـ حَبْرِ الأُمَّةِ وتَرجُمانِ القُرآنِ، والحَبْرِ والبَحرِ.
ابنُ عبَّاسٍ، وما أَدْرَاكَ ما ابنُ عبَّاسٍ؟ هذا الغُلامُ كان لهُ شأنٌ عظيمٌ في أُمَّةِ محمدٍ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وعلاماتُ النُّبُوغِ والنَّجَابةِ بَدَت عليهِ منذُ صِغَرِه، في سرعةِ بديهتِهِ، وحُضورِ ذهنِهِ، معَ قُوَّةٍ في المُناقشةِ والمُناظرةِ، يُزيِّنُ ذلك أدبٌ جمٌّ يأسرُ القلوبَ، ويَستولي على النُّفوسِ. وها هو يَحكي موقفًا حَدَثَ لهُ، فيقول: أتيتُ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- من آخرِ الليلِ، فصلَّيتُ خلفَهُ، فأخذَ بيدي، فجرَّني، فجعلَني حِذاءَه، فلمَّا أقبلَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- على صلاتِه، خنستُ (أي: تأخَّرتُ عنه)، فصلَّى رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فلمَّا فرغَ من صلاتِه، قالَ لي: (ما شأني أَجعلكَ حِذائي فتَخنِسُ؟)، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أويَنبغي لأحدٍ أن يُصَلِّيَ حِذاءَكَ، وأنتَ رسولُ اللهِ؟، قال: فأعجبتْهُ، فدعا اللهَ لي أن يَزيدني علمًا وفَهمًا.) لكَ أن تتخيَّلَ أنَّ هذا الجوابَ خَرَجَ من غُلامٍ ابنِ ثلاثَ عشرةَ سنةٍ أو أقلَّ!
فأيُّ حكمةٍ؟ وأيُّ ذكاءٍ؟ وأيُّ أدبٍ هذا؟! وفي هذا السنِّ الصغير، كان من أحرصِ الناسِ على الخيرِ، ومِن أسبقِهِم إليه، فكان يَبيتُ عندَ خالتِهِ ميمونةَ بنتِ الحارث -رضيَ اللهُ عنها-، ليتشرَّفَ بالقيامِ من الليلِ مع النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وليتعلَّمَ سُنَنَ النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- التي يفعلُها في بيتِه، ولا يراها إلا مَن معه في البيت ومع صِغَرِ سِنِّهِ كان يُجالِسُ الكِبارَ لِيَتعلَّمَ منهم، ويُنافِسَهُم في الخيرِ، ومن عادةِ الشبابِ غفلتُهُم عن المستقبلِ، ورُؤيتُهُم للحاضِرِ، ومحبَّتُهُم للهوِ مع أقرانِهم، وشِعارُهم: “عِش وقتَكَ، ولا تنظُر أمامَكَ!”… يا ربَّ سَلِّم.
ابنُ عبَّاسٍ، وما أدراكَ ما ابنُ عبَّاسٍ؟ كان ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- ناظرًا لمُستقبلِهِ، ولم يَغترَّ بواقعِه، فصانَ نفسَه عن البطالةِ والعبثِ، وأقبَلَ على الجِدِّ في الطَّلبِ، بنفْسٍ لا تعرفُ السأمَ، وهمَّةٍ لا يُخالِطُها المللُ. قال -رضي اللهُ عنه- يَحكِي قصَّةً طريفةً له: لمَّا تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قلتُ لِرَجُلٍ من الأنصارِ: يا فُلانُ، هَلُمَّ فلنَسألْ أصحابَ النبيِّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فإنَّهُم اليومَ كثيرٌ، فقال: واعَجَبًا لكَ يا ابنَ عبَّاسٍ! أتَرى الناسَ يحتاجونَ إليكَ؟! وفي الناسِ مِن أصحابِ النبيِّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم- مَن تَرى؟! فتركَ ذلك، وأقبلتُ على المسألةِ، فلقد كان يَبلغُني الحديثُ عن الرَّجلِ، فآتيهِ وهو قائِلٌ (أي نائمٌ وقتَ القيلولةِ)، فأتوسَّدُ رِدائي على بابِه، فتَسْفِي الرِّيحُ على وجهي التُّرابَ، فيخرُجُ، فيَراني، فيقول: يا ابنَ عمِّ رسولِ اللهِ، ما جاء بك؟ ألا أرسلْتَ إليَّ فآتيَك؟ فأقول: أنا أحقُّ أن آتيكَ، فأسألُه عن الحديثِ. قال: فبَقِيَ الرَّجلُ حتى رآني، وقد اجتمعَ الناسُ عليَّ، فقال: كان هذا الفتى أعقلَ مني. قيل له: كيف أصبتَ هذا العلمَ؟ قال: “بلِسانٍ سَؤُولٍ، وقلبٍ عَقولٍ.” وقال: “كنتُ ألزَمُ الأكابِرَ من أصحابِ رسولِ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم- من المُهاجِرينَ والأنصارِ.” وهنا فائدةٌ عظيمةٌ: المرءُ بِأقرانِهِ، والصاحبُ ساحبٌ.
عَنِ المَرْءِ لا تَسْأَلْ وسَلْ عَنْ قَرِينِهِ***فكُلُّ قَرِينٍ بالمُقَارَنِ يَقْتَدِي
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا ابْنُ عَبَّاسٍ؟! كَبِرَ الغُلَامُ، وَكَبِرَ مَعَهُ عَقْلُهُ، وَاتَّسَعَ عِلْمُهُ، حَتَّى أَدْرَكَ فِي العِلْمِ مَن سَبَقُوهُ مِن كِبَارِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَعَجِبُوا مِنْ عِلْمِهِ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِهِ، وَهُوَ شَابٌّ فِي العِشْرِينَ أَوْ دُونَهَا، حَتَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَقَدْ عَلِمْتَ عِلْمًا مَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَوْ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا، مَا عَشَرَهُ مِنَّا أَحَدٌ. أَيْ: مَا لَحِقَهُ فِي العِلْمِ أَحَدٌ.
وَكَانَ مِن سِيَاسَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي إِدَارَةِ الدَّوْلَةِ، اهْتِمَامُهُ بِذَوِي العِلْمِ وَالرَّأْيِ دُونَ السِّنِّ وَالنَّسَبِ، فَيُوَلِّي الأَكْفَاءَ، وَيُقَرِّبُهُمْ، وَيُدْنِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَى كَمَالَ عَقْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَدَادَ رَأْيِهِ، وَغَزَارَةَ عِلْمِهِ؛ جَعَلَهُ مِن خَاصَّتِهِ، وَاتَّخَذَهُ بِطَانَةً لَهُ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الشُّيُوخِ الكِبَارِ فِي الرَّأْيِ وَالمَشُورَةِ، وَهُوَ شَابٌّ صَغِيرٌ، حَتَّى اعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ كِبَارِ الصَّحَابَةِ. يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ (يَعْنِي: غَضِبَ وَحَزِنَ)، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟! فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ (يَعْنِي: عَلِمْتُمْ مَكَانَتَهُ فِي العِلْمِ). فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ.قَالَ عُمَرُ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَعْلَمَهُ لَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ. وَقَالَ المُهَاجِرُونَ لِعُمَرَ: أَلَا تَدْعُو أَبْنَاءَنَا كَمَا تَدْعُو ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: ذَاكُمْ فَتَى الكُهُولِ؛ إِنَّ لَهُ لِسَانًا سَئُولًا، وَقَلْبًا عَقُولًا.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ عُمَرُ يَسْتَشِيرُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الأَمْرِ إِذَا أَهَمَّهُ، وَيَقُولُ لَهُ: غُصْ يَا غَوَّاصُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا ابْنُ عَبَّاسٍ؟!ما حازَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- هَذَا العِلْمَ الغَزِيرَ، وَلَا نَالَ هَذِهِ الحَظْوَةَ الكَبِيرَةَ عِندَ سَادَةِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، إِلَّا لِأَنَّهُ حَفِظَ وَقْتَهُ مِنَ الضَّيَاعِ، وَصَانَ شَبَابَهُ عَنِ اللَّهْوِ وَالغَفْلَةِ، وَاسْتَثْمَرَ مَا أَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى مِن قُدُرَاتٍ عَقْلِيَّةٍ فِيمَا يَنْفَعُهُ، فَعَادَ نَفْعُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِعِلْمٍ هُوَ أَنفَسُ عِلْمٍ وَأَجَلُّهُ، وَهُوَ العِلْمُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَبِسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَوْرَثَهُ خَشْيَةً وَخُشُوعًا، وَرِقَّةً لِقَلْبِهِ وَصَلَاحًا. حَتَّى قَالَ أَبُو رَجَاءٍ العَطَّارِدِيُّ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَسْفَلَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ البَالِي مِنَ البُكَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِن مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ، وَقَرَأَ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]، فَجَعَلَ يُرَتِّلُ، وَيُكْثِرُ فِي ذَلِكَ البُكَاءَ. وَنَفَعَ اللهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ الأُمَّةَ، فَهِيَ -مِنْ عَصْرِهِ إِلَى يَوْمِنَا- تَقْتَاتُ عَلَى عِلْمِهِ، وَتَسْتَنِيرُ بِفِقْهِهِ، فَهُوَ قُدْوَةٌ لِكُلِّ شَابٍّ مُسْلِمٍ، وَنِعْمَ القُدْوَةُ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.فَمَا أَحْوَجَ شَبَابَ الإِسْلَامِ إِلَى اسْتِحْضَارِ سِيَرِ العُظَمَاءِ مِنَ الشَّبَابِ، وَمَحْوِ سِيَرِ العَابِثِينَ مِنْ حَيَاتِهِم؛ فَإِنَّ مِنْ أَسْبَابِ تَأَخُّرِ المُسْلِمِينَ: إِهْدَارُ طَاقَاتِ الشَّبَابِ، وَإِفْسَادُهَا بِالشَّهَوَاتِ، وَإِبْرَازُ القُدْوَاتِ السَّيِّئَةِ لِلشَّبَابِ عَبْرَ الإِعْلَامِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. وَمَاتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِالطَّائِفِ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَعَاشَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمْلَأُ دُنْيَاهُ عِلْمًا وَحِكْمَةً، وَيَنْشُرُ بَيْنَ النَّاسِ عَبِيرَهُ وَتَقْوَاهُ، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
يَا آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ حُبُّكُمُ ***فَرْضٌ مِنَ اللهِ فِي القُرْآنِ أَنْزَلَهُ
يَكْفِيكُمُ مِنْ عَظِيمِ الفَخْرِ أَنَّكُمُ***مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُم لَا صَلَاةَ لَهُ
ثانيًا: حَبرُ الأُمَّةِ وتَرجُمانُ القُرآنِ معْ الخوارجِ!!
أيُّهَا السَّادَةُ: ومِن مَلامِحِ شَخصِيَّتِهِ ذَكَاءُ ابنِ عَبَّاسٍ الفَذُّ وسُرعةُ بَدِيهَتِهِ؛ بعثَ الإمامُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ابنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذاتَ يَومٍ إلى طائِفَةٍ مِنَ الخَوارِجِ، فَدَارَ بَينَهُ وَبَينَهُمْ حِوارٌ طَوِيلٌ، سَاقَ فِيهِ الحُجَّةَ بِشَكلٍ يُبْهِرُ الأَلْبَابَ. فَقَدْ سَأَلَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: “مَاذَا تَنْقِمُونَ مِنْ عَلِيٍّ؟” قَالُوا: نَنْقِمُ مِنْهُ ثَلَاثًا:
أُولاهُنَّ: أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللهِ، وَاللهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57].
والثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَاتَلَ، ثُمَّ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مُقَاتِلِيهِ سَبْيًا وَلَا غَنَائِمَ، فَلَئِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَهُ أَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ.
والثَّالِثَةُ: أَنَّهُ رَضِيَ عِندَ التَّحْكِيمِ أَنْ يَخْلَعَ عَنْ نَفْسِهِ صِفَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ اسْتِجَابَةً لِأَعْدَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَهُوَ أَمِيرُ الكَافِرِينَ! ”فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُفَنِّدُ أَهْوَاءَهُمْ، فَقَالَ: “أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللهِ، فَأَيُّ بَأْسٍ؟! إِنَّ اللهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، فَنَبِّئُونِي بِاللهِ، أَتَحْكِيمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَاءِ المُسْلِمِينَ أَحَقٌّ وَأَوْلَى، أَمْ تَحْكِيمُهُمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا دِرْهَمٌ؟!” “وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَهَلْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذَ عَائِشَةَ زَوْجَ الرَّسُولِ وَأُمَّ المُؤْمِنِينَ سَبْيًا، وَيَأْخُذَ أَسْلَابَهَا غَنَائِمَ؟!” “وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَخْلَعَ عَنْ نَفْسِهِ صِفَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ حَتَّى يَتِمَّ التَّحْكِيمُ، فَاسْمَعُوا مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ؛ إِذْ رَاحَ يُمْلِي الكِتَابَ الَّذِي يَقُومُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)، فَقَالَ مَبْعُوثُ قُرَيْشٍ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، فَاكْتُبْ: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ). فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ: «وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُم» ثُمَّ قَالَ لِكَاتِبِ الصَّحِيفَةِ: «اكْتُبْ مَا شَاءُوا، اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ» وَاسْتَمَرَّ الحِوَارُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالخَوَارِجِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ البَاهِرِ، وَمَا كَادَ يَنْتَهِي النِّقَاشُ، حَتَّى نَهَضَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا مُعْلِنِينَ اقْتِنَاعَهُمْ، وَخُرُوجَهُمْ مِنْ خُصُومَةِ الإِمَامِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. فَلْنُعَلِّمِ الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَلْنُعَلِّمْ أَوْلَادَنَا سِيرَةَ البَطَلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، الَّذِي تَصَدَّى لِلتَّطَرُّفِ وَالفِكْرِ المُنْحَرِفِ بِالفَهْمِ وَالعَقْلِ وَالعِلْمِ، خَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا فَسَدَتْ فِيهِ العُقُولُ، وَانْحَرَفَتْ بِسَبَبِ بُعْدِهَا عَنْ مَنْهَجِ رَبِّهَا، وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا ﷺ، وَخَاصَّةً سُوءَ فَهْمِ النُّصُوصِ فَهْمًا صَحِيحًا؛ أَدَّى إِلَى انْتِشَارِ الفِرَقِ التَّكْفِيرِيَّةِ الضَّالَّةِ وَالمُنْحَرِفَةِ، وَالأَفْكَارِ الطَّائِشَةِ، وَالآرَاءِ الهَزِيلَةِ، الَّتِي تُشَوِّهُ صُورَةَ الإِسْلَامِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا انْتَشَرَ فِيهِ التَّكْفِيرُ، وَالتَّبْدِيعُ، وَالتَّفْسِيقُ، بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ، خَاصَّةً مَعَ انْتِشَارِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ. فَكَمْ مِنْ بِلَادٍ تَدَمَّرَتْ بِسَبَبِ انْتِشَارِ فِكْرِ التَّكْفِيرِ وَالتَّكْفِيرِيِّينَ؟! وَكَمْ مِنْ بِلَادٍ تَأَخَّرَتْ بِسَبَبِ تِلْكَ الجَمَاعَاتِ المُنْحَرِفَةِ؟! وَكَمْ مِنْ مُجْتَمَعَاتٍ تَشَتَّتَتْ بِسَبَبِ الأَفْكَارِ الهَدَّامَةِ؟! وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. فَالإِسْلَامُ دِينُ السَّلَامِ، دِينُ الوَسَطِيَّةِ، دِينُ الاعْتِدَالِ؛ لَيْسَ دِينَ التَّطَرُّفِ وَالإِرْهَابِ، لَيْسَ دِينَ التَّكْفِيرِ وَالغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ، وَلَيْسَ دِينَ التَّسَاهُلِ، إِنَّمَا دِينُ الوَسَطِيَّةِ وَالاعْتِدَالِ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا تَقْصِيرَ، وَلَا مُبَالَغَةً وَلَا مِيُوعَةً. قَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي حَقِّ أُمَّةِ الإِسْلَامِ: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. لِذَا قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: “سُوءُ الفَهْمِ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَصْلُ كُلِّ بِدْعَةٍ وَضَلَالَةٍ نَشَأَتْ فِي الإِسْلَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَصْلُ كُلِّ خِلَافٍ فِي الأُصُولِ وَالفُرُوعِ”. ثُمَّ قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: “وَهَلْ أَوْقَعَ القَدَرِيَّةَ – النُّفَاةَ مِنْهُمْ وَالجَبْرِيَّةَ – وَالمُرْجِئَةَ، وَالخَوَارِجَ، وَالمُعْتَزِلَةَ، وَالرَّوَافِضَ، وَسَائِرَ طَوَائِفِ أَهْلِ البِدَعِ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، إِلَّا سُوءُ الفَهْمِ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ؟!
إِلَهِي لَسْتُ لِلْفِرْدَوْسِ أَهْلًا***وَلَا أَقْوَى عَلَى النَّارِ الْجَحِيمِ
فَهَبْ لِي تَوْبَةً وَاغْفِرْ ذُنُوبِي***فَإِنَّكَ غَافِرُ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ. الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ، وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِسْمِ اللهِ، وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ… أَمَّا بَعْدُ،
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: الجِهَازُ الرَّقَابِيُّ لِلْإِنْسَانِ: الضَّمِيرُ
أيُّهَا السَّادَةُ: الإسلامُ دِينٌ يَقُومُ عَلَى تَربِيَةِ الضَّمِيرِ فِي نَفْسِ المُسلِمِ، وَكَيْفَ لَا؟! وَضَمِيرُ الإِنسَانِ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُهُ إِلَى القِيَامِ بِوَاجِبَاتِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛وأَزْمَتُنَا أَيُّهَا الْأَخْيَارُ أَزْمَةُ ضَمِيرٍ، مَاتَتِ الضَّمَائِرُ عِندَ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، فَكَثُرَ الْغِشُّ فِي الِامْتِحَانَاتِ، وَانْتَشَرَ الْجَشَعُ وَالطَّمَعُ عِندَ الْكَثِيرِينَ مِنَ التُّجَّارِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. إِنَّ الضَّمِيرَ هُوَ مُسْتَوْدَعُ السِّرِّ الَّذِي يَكْتُمُهُ الْقَلْبُ، وَالْخَاطِرُ الَّذِي يَسْكُنُ النَّفْسَ؛ فَيُضِيءُ ظُلْمَتَهَا، وَيُنِيرُ جَوَانِبَهَا، وَهُوَ الْقُوَّةُ الَّتِي تَدْفَعُ نَحْوَ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبِّ الصَّالِحَاتِ، وَهُوَ سَبَبُ تَسْمِيَةِ النَّفْسِ بِاللَّوَّامَةِ، كَمَا قَالَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾. وَالضَّمِيرُ هُوَ الرَّادِعُ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، الَّذِي يُجَنِّبُكَ مُقَارَبَتَهَا، وَيُثْنِيكَ عَنْ تِكْرَارِهَا؛ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ فَقَالَ:﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾. لِذَا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِذَلِكَ بِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَمَا حَجَزَهُ ضَمِيرُهُ عَنِ الِانْجِرَافِ وَرَاءَ الْهَوَى، وَقَالَ: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾.
إنَّ الضَّمِيرَ يُنْجِي صَاحِبَهُ مِنَ الْمَهَالِكِ، وَيُبْعِدُهُ عَنْ شَرِّ الْمَسَالِكِ، وَمِنْ صِفَاتِ الضَّمِيرِ الْمُؤْمِنِ أَنَّ صَاحِبَهُ دَائِمُ التَّذَكُّرِ، فَإِذَا هَمَّ بِأَمْرِ سُوءٍ ارْتَدَعَ وَانْزَجَرَ، وَابْتَعَدَ عَنِ الْمَعَاصِي وَأَدْبَرَ، قال جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾.
وَنُمُوُّ الضَّمِيرِ أيُّهَا السَّادَةُ: يَكُونُ بِالدَّوَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَحَرِّي صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ، وَالْبَحْثِ عَنْ جَوَانِبِ الْخَيْرِ فِي نَفْسِكَ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.
وَيَنْمُو الضَّمِيرُ وَيَتَرَبَّى مِنْ خِلَالِ تَرْطِيبِ اللِّسَانِ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ، حَتَّى تَكُونَ النَّفْسُ مُطْمَئِنَّةً فِي كُلِّ حِينٍ، وَالضَّمِيرُ يَقِظًا فِي كُلِّ حَالٍ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.
وَيَنْمُو الضَّمِيرُ وَيَتَرَبَّى إِذَا اسْتَشْعَرَ: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: ٨٠]، وَاسْتَشْعَرَ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]، وَاسْتَشْعَرَ: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: ١٠–١٢].
يَا أَصْحَابَ الضَّمَائِرِ الْمَيْتَةِ، وَيَا أَصْحَابَ الصَّفَحَاتِ الْوَهْمِيَّةِ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ، رَاقِبُوا اللهَ جَلَّ وَعَلَا، الْقَائِلُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]، الْقَائِلُ: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: ١٤]، الْقَائِلُ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: ٤]، الْقَائِلُ: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: ٤٦].لِذَا يَجِبُ أَنْ نُرَبِّيَ أَنْفُسَنَا وَأَوْلَادَنَا عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِ حَيَاتِنَا، وَأَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْنَا، وَيَرَانَا، وَعَلَى إِحْيَاءِ الضَّمَائِرِ فِي نُفُوسِنَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ الَّذِي أَرْشَدَ وَلَدَهُ إِلَى هَذِهِ الْمُرَاقَبَةِ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ١٦].وَقُلْ لَهُ يَا وَلَدِي:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا * تَقُلْ: خَلَوْتُ، وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً * وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
وَالنَّفْسُ تَدْعُوكَ لِإِطْلَاقِ الْعِنَانِ لِعَيْنَيْكَ؛ لِتَرَى فِي الْحَرَامِ، وَتَرْتَعِ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَاسْتَشْعِرْ أَنَّ نَظَرَ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَيْكَ أَسْبَقُ وَأَسْرَعُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ
تذكَّرْ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غَافِر: 19]. وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ * وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَانِ
فَاسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا * إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي
فَعَلَى هَذَا الْمَبْدَأ مَبْدَأُ يَقَظَةِ الضَّمِيرِ، وَمَبْدَأُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» رَبَّى الرَّسُولُ الْكَرِيمُ صَحَابَتَهُ الْكِرَامَ حَتَّى سَارُوا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي صَحْوَةِ ضَمِيرٍ لا مَثِيلَ لَهُ؛ كَالْمَلَائِكَةِ أَطْهَارًا، رَفْعَةً وَكَرَامَةً وَفَضْلًا وَنُبْلًا.
أَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَصْبَحَ الضَّمِيرُ فِينَا لا يَرَاعِي حُرْمَةً وَلَا دِينًا وَلَا أَمَانَةً وَلَا صِدقًا وَلَا أَخْلاقًا، فَحُرُمَاتٌ تُنْتَهَكُ، وُحُدُودُ اللَّهِ تُتَجَاوَزُ، وَنَظْرَاتٌ زَائِغَةٌ،
وَأَمْوَالٌ تُسْلَبُ بِالْحَرَامِ دُونَ وَجْهٍ حَقٍّ، وَأُخْرَى تُؤْخَذُ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ رِبًا أَوْ رَشْوَةٍ أَوْ قِمَارٍ، أَوْ احْتِيَالٍ، وَنَسِينَا رِقَابَةَ الرَّقِيبِ الْأَعْلَى.
أَيْنَ نَحْنُ يَا كِرَامٌ مِنْ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ، ذَلِكَ الْوَفِيِّ الْأَمِينِ الَّذِي تَرَبَّى فِي الْجَامِعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. ذَلِكَ الْجُنْدِيُّ الصَّادِقُ الَّذِي تَحَرَّكَ الضَّمِيرُ فِي مَمْلَكَةِ قَلْبِهِ، وَنَادَى مِنْ مَنْطِقِ فُؤَادِهِ. خَاضَ هَذَا الْجُنْدِيُّ مَعْرَكَةَ الْقَادِسِيَّةِ مَعَ الْقَائِدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَاتَلَ قِتَالَ الأَبْطَالِ. ونَازَلَ فِيهَا نِزَالَ الأُسُودِ حَتَّى انْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ، وَتَكَلَّلَتْ بِفَوْزٍ سَاحِقٍ وَنَصْرٍ مَبِينٍ وَمُظْفَرٍ وَمُؤَزَّرٍ لِلْمُسْلِمِينَ. وَبَعْدَ الْمَعْرَكَةِ جَاءَ هَذَا الْجُنْدِيُّ وَهُوَ مُلَثَّمٌ لا يُعْرَفُ، يَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيْهِ عُلْبَةً مَلِيئَةً بِمَاذَا؟ هَلْ مَلِيئَةٌ بِالْحَلْوَى أَمْ بِالْمُكَسَّرَاتِ؟!لَا، لَا، إِنَّمَا كَانَتِ الْعُلْبَةُ مَلِيئَةً بِالْجَوَاهِرِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَ بِهَا إِلَى الْقَائِدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ لَهُ: «لَقَدْ عَثَرْتُ عَلَى هَذِهِ الْجَوَاهِرِ! إِنَّهَا مَدْرَسَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. إِنَّهَا مَدْرَسَةُ النَّزَاهَةِ وَالْأَمَانَةِ! إِنَّهَا مَدْرَسَةُ الصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ! إِنَّهَا مَدْرَسَةُ الطَّهْرِ وَالْوَفَاءِ! إِنَّهَا مَدْرَسَةُ الرِّقَابَةِ الْعُلْيَا!» مَدْرَسَةٌ كُتِبَ عَلَى بَابِهَا: «أَن تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». فَنَظَرَ إِلَيْهِ الْقَائِدُ سَعْدٌ وَقَالَ لَهُ: «وَهَلْ أَخَذْتَ مِنْهَا شَيْئًا؟» وَهَلْ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ جِيلُ ذَلِكَ الْزَّمَانِ مِنْ خَائِنِي الْأَمَانَةِ؟ هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجِيلُ الْفَرِيدُ الَّذِي أَوْصَلَ الْإِسْلاَمَ إلى كُلِّ أَسْقَاعِ الْأَرْضِ وَأَرْجَائِهَا، وَشَهِدَتْ لَهُمْ قُبُورُهُمْ بِهَذَا مِمَّنْ يَسْرِقُونَ أَوْ يَنْهَبُونَ! فَقَالَ الْجُنْدِيُّ الْأَمِينُ بِثِبَاتٍ وَإِيمَانٍ: «وَاللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ اللَّهِ مَا جِئْتُكُمْ بِهَا، وَلَوْ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مَا أَحْضَرْتُهَا لَكُمْ». إِنَّهُ الضَّمِيرُ الْحَيُّ، الضَّمِيرُ اليَقِظُ، الضَّمِيرُ الصَّاحِي! إِنَّهُ الضَّمِيرُ الَّذِي يَجْعَلُ صَاحِبَهُ يَخَافُ اللَّهَ وَيَخْشَى عِقَابَهُ ، وَكَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ يُخْفِيهَا أَوْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا، بَعِيدًا عَنْ عُيُونِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى أَهْلِهَا هُوَ الخوفُ من اللَّهِ، أُعْجِبَ سَعْدٌ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِنَقَاءِ هَذَا الْجُنْدِيِّ، وَبِصِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ، وَوَفَائِهِ وَأَمَانَتِهِ وَنَزَاهَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ يَا هَذَا؟ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ اسْمَهُ لِيُضِيفَهُ فِي سِجِلِّ التَّشْرِيفَاتِ الْعَامَّةِ، وَيَضَعَهُ فِي قَائِمَةِ الشَّرَفِ الْأَعْلَى عَلَى قَصْرِ كُسْرَى، وَحَتَّى يَعْرِفَهُ الْجَمِيعُ! وَمَا أَكْثَرَ مُحِبِّي الشُّهْرَةِ!! مَا أَكْثَرَ مُحِبِّي الْظُّهُورِ!! مَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تُذَاعَ أَسْمَاؤُهُمْ وَتُعْلَنَ عَلَى الأَرْجَاءِ بِسَبَبِ عَمَلٍ قَدَّمُوهُ أَوْ بِخِدْمَةٍ أَنْجَزُوهَا. نَعَمْ، يَقُولُ سَعْدٌ: «مَا اسْمُكَ يَا هَذَا؟» فَقَالَ ذَلِكَ الْجُنْدِيُّ النَّبِيلُ الصَّادِقُ الْوَفِيُّ: «وَاللَّهِ لَا أَقُولُ لَكُمْ اسْمِي لِتُشْكَرُونِي، وَلَا لِغَيْرِكُمْ لِيَقْتَرِبُونِي أَوْ يُحَمِّدُونِي، وَلَكِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ وَأَرْضَى بِثَوَابِهِ». فَاتَّقُوا اللَّهَ، عِبَادَ اللَّهِ: وَزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، وَهَذِّبُوا أَخْلَاقَكُمْ، وَأَحْيُوا ضَمَائِرَكُمْ، وَرَبُّوها عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّرِّ، تَسْعَدُونَ فِي حَيَاتِكُمْ، وَتَنَالُونَ رِضَا رَبِّكُمْ، وَتَقْوَى أُخُوَّتُكُمْ، وَتَحْفَظُوا حُقُوقَكُمْ، وَيَنْتَشِرَ الْخَيْرُ فِي مُجْتَمَعِكُمْ. وَاحْذَرُوا مِنَ التَمَادِي وَالْغَفْلَةِ، وَأَقْبِلُوا عَلَى اللَّهِ بِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ وَنِيَّاتٍ خَالِصَةٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البَقَرَة: 281]
حَفِظَ اللَّهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَشَرِّ الْفَاسِدِينَ، وَحَقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.
كتبَهُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ د/ مُحَمَّدَ حِرْزٍ إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الْأَوْقَافِ

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى