خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.. فَإِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.. فَإِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ((د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ — بِتَارِيخِ: ١٥ صَفَر ١٤٤٧هـ / ٨ أُغُسْطُس ٢٠٢٥م
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ word لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.. فَإِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ pdf لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.. فَإِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْأَخْلَاقَ مِنَ الدِّينِ، وَأَعْلَى بِهَا شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَرَفَعَ بِمَكَارِمِهَا أَقْوَامًا فَكَانُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ القائلِ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) – البقرة: ١٨٥، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، القائلُ كما في حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: (الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ) – رواه أحمد، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْأَعْلَامِ، مَصَابِيحِ الظَّلَامِ، خَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالْتِزَامٍ. أَمَّا بَعْدُ … فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الْأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} – آل عمران: ١٠٢( .
عِبَادَ اللهِ:(( لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.. فَإِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ)) بَلْ، إِنْ شِئْتَ، فَقُلْ: الرِّفْقَ الرِّفْقَ، عِبَادَ اللهِ عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا، وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
أَوَّلًا: الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَةِ.
ثَانِيًا: الْغُلُوُّ وَالتَّشَدُّدُ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللهِ فِي شَيْءٍ.
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: الصَّدَاقَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الصَّدَاقَةُ؟
أَيُّهَا السَّادَةُ، مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ خَطَرِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَخَاصَّةً مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ فِي زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ مَظَاهِرُ الْعُنْفِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ، فِي الْبُيُوتِ وَالشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ وَالْمَلَاعِبِ وَالْأَنْدِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا انْتَشَرَ فِيهِ التَّشَدُّدُ وَالْغُلُوُّ وَالتَّنَطُّعُ بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ، وَانْعَدَمَ الرِّفْقُ وَاللِّينُ وَالْيُسْرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. وَخَاصَّةً وَالتَّشَدُّدُ وَالْغُلُوُّ مَرَضٌ عُضَالٌ، وَشَرٌّ وَوَبَالٌ، دَاءٌ يُفَرِّقُ الْقُلُوبَ، وَيُوغِرُ الصُّدُورَ، وَيُذَكِّي نَارَ الْفِتَنِ. وَخَاصَّةً، وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ، مَرَضٌ خَطِيرٌ، وَشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ، لَا يَخْلُو مِنْهُ زَمَانٌ وَلَا مَكَانٌ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ شَرِّهِ أَفْرَادٌ وَلَا أُسَرٌ وَلَا مُجْتَمَعَاتٌ وَلَا مُقَدَّسَاتٌ، فَمَا أَحْوَجَ الْمُسْلِمَ إِلَى الرِّفْقِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فِي سُلُوكِهِ وَمُعَامَلَتِهِ، مَعَ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، مَعَ أَصْدِقَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ، مَعَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، مَعَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، مَعَ الْإِنْسَانِ وَمَعَ سَائِرِ الْكَائِنَاتِ. وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا انْتَشَرَ فِيهِ التَّكْفِيرُ وَالتَّبْدِيعُ وَالتَّفْسِيقُ بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ، خَاصَّةً بَيْنَ انْتِشَارِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِي، وَدَخَلَ التَّكْفِيرِيُّونَ إِلَى بُيُوتِنَا وَإِلَى أَوْلَادِنَا عَنْ طَرِيقِ الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الرِّفْقِ فِي لِينِهِ * أَخْرَجَ لِلْعَذْرَاءِ مِنْ خِدْرِهَا
مَنْ يَسْتَعِنْ بِالرِّفْقِ فِي أَمْرِهِ * قَدْ يُخْرِجِ الْحَيَّةَ مِنْ جُحْرِهَا
أَوَّلًا: الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَة.
أَيُّهَا السَّادَةُ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا وَضَعَ قَوَاعِدَ دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَجَعَلَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّيْسِيرِ وَالرِّفْقِ وَاللِّينِ، فَلَمْ يُرِدِ اللَّهُ بِالنَّاسِ إِلَّا الْخَيْرَ فِيمَا شَرَعَ وَأَمَرَ وَنَهَى وَزَجَرَ، حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَسْتَجِيبُوا لِأَمْرِ خَالِقِهِمْ سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا. قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحَجّ: ٧٨] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البَقَرَة: ٢٨٦]. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللهُ عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا» فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَنْ هِيَ؟ قَالَ ﷺ: «لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَصَلَّى للهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ))وَالرِّفْقُ – عِبَادَ اللهِ – خُلُقٌ عَظِيمٌ مِنْ أَخْلَاقِ الدِّينِ، وَمَبْدَأٌ كَرِيمٌ مِنْ مَبَادِئِ الإِسْلَامِ، وَشِيمَةُ الأَبْرَارِ الْمُحْسِنِينَ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهِيَ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ، وَسَهْلَةٌ وَمَيْسُورَةٌ، أَمَرَ بِهَا الدِّينُ، وَتَخَلَّقَ بِهَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ ﷺ. تَدُلُّ عَلَى سُمُوِّ النَّفْسِ، وَعَظَمَةِ الْقَلْبِ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ، وَوَعْيِ الرُّوحِ، وَنُبْلِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَأَصَالَةِ الْمَعْدِنِ. قَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ المُصْطَفَى ﷺ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأَعْرَاف: ١٩٩] وقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عِمْرَان: ١٥٩] وفِي صَحِيحِ مُسْلِم: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ» وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها، قَالَت: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ – عِبَادَ اللهِ – هَكَذَا كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ… وَكَيْفَ لَا؟! وَدُعَاءُ النَّبِيِّ ﷺ لِأُمَّتِهِ، وَبُكَاؤُهُ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَرِفْقًا بِهِمْ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ الآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي، أُمَّتِي، وَبَكَى. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: “يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ – وَرَبُّكَ أَعْلَمُ – فَسَلْهُ: مَا يُبْكِيكَ؟” فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: “يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوؤُكَ”. ذَلِكُم هُوَ المُصْطَفَى ﷺ، كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَخَلْقًا. اُنْظُرُوا إِلَى خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ. يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: “مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟” فَقَالَ: “عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.” فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: “مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟” قَالَ: “مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.” فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: “مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟” فَقَالَ: “عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.” فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ.” (أَيْ: لَا نُرِيدُ مِنْهُ مَالًا، وَلَا جَزَاءً، وَلَا شُكُورًا، وَلَا نُلْزِمُهُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَا نُكْرِهُهُ عَلَى الْإِيمَانِ، فُكُّوا قَيْدَهُ.) فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ (لِيَقِفَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ ﷺ بِعِزَّةٍ وَاسْتِعْلَاءٍ)، فَقَالَ: “أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا وَاللَّهِ، لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). اُنْظُرُوا إِلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ قَتْلَ الْمُصْطَفَى ﷺ، كَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَهُ؟ وَكَيْفَ حَوَّلَ حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَامَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِلَى الْإِيمَانِ؟ أَيُّهَا الْأَفَاضِلُ، اُنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ يَتَعَامَلُ مَعَ الْأَسْرَى؟ يُقَدِّمُ لَهُمُ اللَّبَنَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، لِيَشْرَبَ ثُمَامَةُ، وَلِيَأْكُلَ ثُمَامَةُ. بَلْ لَقَدْ حَوَّلَ الرِّفْقُ وَالْحِلْمُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ، حَوَّلَ الْبُغْضَ فِي قَلْبِ ثُمَامَةَ إِلَى حُبٍّ فَيَّاضٍ! تَدَبَّرْ مَعِي هَذَا الْكَلَامَ، كَلِمَاتٌ تُكْتَبُ بِمَاءِ الْعُيُونِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ. اللَّهُ أَكْبَرُ! إِنَّهُ الرِّفْقُ، إِنَّهُ الْحِلْمُ، إِنَّهُ اللِّينُ، إِنَّهُ حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ –: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَامَ فِي طَائِفَةٍ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ – أَي: فِي جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ – فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَبَالَ. فَقَالَ الصَّحَابَةُ: مَهْ مَهْ! وَقَالَ الْحَبِيبُ صَاحِبُ الْخُلُقِ: “دَعُوهُ، لَا تُزْرِمُوهُ، اُتْرُكُوهُ يُكْمِلْ بَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ.” وَكَمَّلَ الرَّجُلُ بَوْلَهُ، كَأَنَّهُ يَتَبَوَّلُ فِي خَلَاءِ بَيْتِهِ، وَكَأَنَّهُ ﷺ يَعْلَمُ أَنَّ فِي انْقِطَاعِ الْبَوْلِ دَاءً خَطِيرًا. فَبِاللَّهِ عَلَيْكَ، مَاذَا تَفْعَلُ لَوْ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ، وَوَجَدْتَ طِفْلًا صَغِيرًا يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ؟ أَوْ وَجَدْتَ سَفِيهًا لَا يَعْرِفُ شَيْئًا؟ نَحْنُ لَا نَدْعُو إِلَى التَّسَيُّبِ، وَلَكِنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ النَّاسِ بِـ حُسْنِ الْخُلُقِ. “دَعُوهُ، لَا تُزْرِمُوهُ، اُتْرُكُوهُ يُكْمِلْ بَوْلَهُ.” يَعْنِي: دَعُوهُ يُكْمِلْ بَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ. ثُمَّ نَادَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَقَالَ لَهُ: “إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ لِلصَّلَاةِ، وَلِذِكْرِ اللهِ، وَلِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.” (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “ائْتُونِي بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ.” فَأَخَذَ الْمَاءَ، وَصَبَّهُ عَلَى مَكَانِ الْبَوْلِ، فَطَهَّرَ الْمَكَانَ، وَأَنْهَى الْإِشْكَالَ كُلَّهُ. فَانْتَفَعَ الْأَعْرَابِيُّ بِهَذَا الْحِلْمِ، وَبِهَذَا الْخُلُقِ، وَبِهَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، ظَلَّ يَقُولُ: “اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا.” فَقَالَ لَهُ الْمُصْطَفَى ﷺ: “لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا.” قَالَ اللهُ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فَلِمَاذَا ضَيَّقْتَ مَا وَسَّعَ اللهُ؟ اللَّهُ أَكْبَرُ! إِنَّهُ الرِّفْقُ، إِنَّهُ الْحِلْمُ، إِنَّهُ اللِّينُ، إِنَّهُ حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺوَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ –: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ: “أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟” فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: “وَلَا أَجْمَلْتَ!” فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ “كُفُّوا.” ثُمَّ قَامَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ﷺ، وَزَادَهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: “أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟” قَالَ: “نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا.” فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: “إِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ، وَفِي نَفْسِ أَصْحَابِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ، فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ، حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِي صُدُورِهِمْ عَلَيْكَ.” قَالَ: “نَعَمْ.” فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوِ الْعَشِيُّ جَاءَ، فَقَالَ ﷺ: “إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قَالَ، فَزِدْنَاهُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ رَضِيَ. أَكَذَلِكَ؟” قَالَ: “نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعِشِيرَةٍ خَيْرًا.” فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “مَثَلِي وَمَثَلُ هَذَا، مَثَلُ رَجُلٍ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ، فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُهَا: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي، فَإِنِّي أَرْفَقُ بِهَا مِنْكُمْ، وَأَعْلَمُ، فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا، فَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ، فَرَدَّهَا، حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ، وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا، وَاسْتَوَى عَلَيْهَا، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَقَتَلْتُمُوهُ، دَخَلَ النَّارَ.” (رَوَاهُ الْبَزَّارُ اللهُ أكبرُ إنَّهُ الرفقُ، إنَّهُ الحلمُ، إنَّهُ اللينُ، إنَّهُ، حُسنُ خُلقِ النبيِّ المختارِ ﷺ. وفي صحيح مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: ” بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَ اللَّهِ: مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: ( إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ). اللهُ أكبرُ إنَّهُ الرفقُ، إنَّهُ الحلمُ، إنَّهُ اللينُ، إنَّهُ، حُسنُ خُلقِ النبيِّ المختارِ ﷺ.
وأَحسنُ مِنكَ لم ترَ قطُّ عيني ** وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خلقتَ مبرأً مِنْ كلّ عيبٍ ** كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ
ثَانِيًا: الْغُلُوُّ وَالتَّشَدُّدُ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللهِ فِي شَيْءٍ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: بِدَايَةً: الإِسْلَامُ دِينُ السَّلَامِ، دِينُ الوَسَطِيَّةِ، دِينُ الاِعْتِدَالِ، لَيْسَ دِينَ التَّطَرُّفِ وَالإِرْهَابِ، لَيْسَ دِينَ التَّكْفِيرِ وَالغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ، لَيْسَ دِينَ التَّسَاهُلِ، إِنَّمَا دِينُ الوَسَطِيَّةِ وَالاِعْتِدَالِ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا تَقْصِيرَ، وَلَا مُبَالَغَةَ وَلَا مِيَاعَةَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقْتِرُوا﴾ [الفُرْقَان: 67]، ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإِسْرَاء: 110]، ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإِسْرَاء: 29] وَكَيْفَ لَا؟والتَّشَدُّدُ وَالتَّنَطُّعُ دَاءٌ اِجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ، وَوَبَاءٌ خُلُقِيٌّ كَبِيرٌ، مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلَّا كَانَ نَذِيرًا لِهَلَاكِهَا، وَمَا دَبَّ فِي أُسْرَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبًا لِفَنَائِهَا، فَهُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ عَدَاءٍ، وَيَنْبُوعُ كُلِّ شَرٍّ وَتَعَاسَةٍ، وَالتَّنَطُّعُ وَالْغُلُوُّ آفَةٌ مِنْ آفَاتِ الإِنْسَانِ، مَدْخَلٌ كَبِيرٌ لِلشَّيْطَانِ، مُدَمِّرٌ لِلْقَلْبِ وَالأَرْكَانِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الأَحِبَّةِ وَالإِخْوَةِ، يَحْرِمُ صَاحِبَهُ: الأَمْنَ وَالأَمَانَ، وَيُدْخِلُهُ النِّيرَانَ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ الْجِنَانِ، فَالبُعْدُ عَنْهُ خَيْرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لذا حذَّرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن الغُلوِّ في الدِّينِ؛ لأنَّ ذلك يُؤدِّي إلى إفسادِ المجتمَعاتِ، وربَّما أدَّى التَّشدُّدُ مع عدَمِ الفِقهِ في الدِّينِ إلى تَبْديعِ وتكفيرِ المُجتمَعاتِ المسلِمةِ، والخروجِ على الحُكَّامِ بغيرِ وجهِ حقٍّ. ,فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ”. قَالَهَا ثَلَاثًا)) وَقَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ)) وَقَالَ إِمَامُ الْمُرَبِّينَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ». وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ». قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» في الصحيحين من حديث أمِّ المؤمنين عائشةَ رضى الله عنها قالت قال رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : ((ما خُيِّرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فإنْ كانَ إثْمًا كانَ أبْعَدَ النَّاسِ منه، وما انْتَقَمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِنَفْسِهِ في شيءٍ قَطُّ، إلَّا أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ بهَا لِلَّهِ)). لذَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الدُّنْيَا حَقَّهَا، وَالآخِرَةَ حَقَّهَا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِيَ الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ ا لْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» فَيَا هَذَا! نَفَسُكَ مَعْدُودٌ، وَعُمُرُكَ مَحْسُوبٌ، فَكَمْ أَمَّلْتَ أَمَلًا وَانْقَضَى الزَّمَانُ وَفَاتَكَ، وَلَا أَرَاكَ تُفِيقُ حَتَّى تُلَاقِيَ وَفَاتَكَ، فَاحْذَرْ ذَلَلَ قَدَمِكَ، وَخَفْ طُولَ نَدَمِكَ، وَاغْتَنِمْ حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ فِي طَاعَةِ رَبِّكَ.
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ ***إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي
فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا ****فَالذِّكْرُ لِلْإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَائِلِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ: ﴿الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزُّخْرُف: الآيَة 67)، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، الْقَائِلِ فِي سُنَّتِهِ الْغَرَّاءِ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ)، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: الصَّدَاقَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الصَّدَاقَةُ؟
أَيُّهَا السَّادَةُ: حَدَّدَتْ وِزَارَةُ الأَوْقَافِ أَنْ تَكُونَ الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَهَمِّيَّةِ الصَّدَاقَةِ، وَالصَّدَاقَةُ مُهِمَّةٌ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ مِنَّا، فَالصَّدِيقُ قَبْلَ الطَّرِيقِ، وَالصَّاحِبُ سَاحِبٌ إِماَّ أَنْ يَصْحَبُكَ إِلَى خَيْرٍ فَيُقَرِّبُكَ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْحَبُكَ إِلَى رَدَىً فَيُوقِعُكَ فَيهِ روى الشيخانِ عن أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ – يُعْطِيكَ مَجَّانًا – وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)) و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو بنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِه)) وجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» روى الترمذيُّ عن أبي سعيد الخدري أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ)) نعَمْ، لَا تُصَاحِبْ، وَلَا تُجَالِسْ، وَلَا تَسْتَضِفْ فِي بَيْتِكَ، إِلَّا الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ، الَّذِي يَحْفَظُ سِرَّكَ، وَيَصُونُ عِرْضَكَ، وَيَغُضُّ طَرْفَهُ عَنْ مَحَارِمِكَ، وَيَحْفَظُ وُدَّكَ، وَيَعْرِفُ قَدْرَكَ، وَيُقَرِّبُكَ مِنْ رَبِّكَ، فَهُوَ نَاصِحٌ لَا يَغُشُّ، أَمِينٌ لَا يَخُونُ، صَادِقٌ لَا يَكْذِبُ ، وَحَذَّرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَدَاقَةِ الأَشْرَارِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28) قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “أَصْلُ تَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ الْحِفْظُ مِنْ قُرَنَاءِ السوء” فَلَا تُصَاحِبْ كَذَّابًا؛ فَإِنَّهُ مِثْلُ السَّرَابِ، يُقَرِّبُ مِنْكَ الْبَعِيدَ، وَيُبْعِدُ مِنْكَ الْقَرِيبَ” قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119)وقَالَ الخليفةُ الراشدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الصِّدْقِ فَعِشْ فِي أَكْنَافِهِم؛ فَإِنَّهُمْ زَيْنٌ فِي الرَّخَاءِ وَعُدَّةٌ فِي الْبَلَاءِ” قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ –: “اسْتَكْثِرُوا مِنَ الأَصْدِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَشْفَعُ فِي قَرِيبِهِ وَصَدِيقِهِ، فَإِذَا رَأَى الْكُفَّارُ ذَلِكَ قَالُوا:** ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ (الشُّعَرَاء: 100 – 101) فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ صَدَاقَةِ السُّوءِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً](الفرقان: الآية 27).
عَن المرءِ لَا تَسْأَلْ وسَلْ عَنْ قَرِيِنهِ *** فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمـــُقَارَنِ يَقْتَدي
فَاحْرِصُوا عَلَى صُحْبَةِ الأَخْيارِ في أَنْفُسِكُمْ وَفي أَوْلادِكُمْ، نَبِّهُوهُمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ إِلَى البُعْدِ عَنْ كُلِّ مَنْ يُزَيِّنُ لَهُمُ الرَّدَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الشَّرَّ لا يَبْدَأُ كَبِيرًا، وَالنَّارُ تَبْدَأُ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ، وَالصَّاحِبُ قَدْ يَسْلُكُ في إِرْدائِكَ وَإِيقاعِكَ في الشَّرِّ خُطَواتٌ، وَاللهُ تَعالَى نَهانا عَنِ اتَّباعِ خُطواتِ الشَّيْطانِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (التوبة: الآية71). فَاللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّدَاقَةِ الْخَالِصَةِ، اللَّهَ اللَّهَ فِي صُحْبَةِ الأَخْيَارِ، الْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ صُحْبَةِ الأَشْرَارِ، الْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ
حَفِظَ اللهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَشَرِّ الْفَاسِدِينَ، وَحَقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.
كَتَبَهُ العَبْدُ الفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ د/ مُحَمَّدٌ حِرْزٌ إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الأَوْقَافِ