خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (( سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ)) د . مُحَمَّد حِرْز

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ(( سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ)) د . مُحَمَّد حِرْز 6 رَبِيعِ الأَوَّلِ 1447هـ – 29 أُغُسْطُس 2025م

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ word (( سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ)) د . مُحَمَّد حِرْز

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ pdf (( سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ)) د . مُحَمَّد حِرْز

الحَمْدُ لِلَّهِ القَائِلِ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، القَائِلُ كَمَا فِي حَدِيثِ جاء عن أبي أُمامةَ – رضي الله عنه – أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلاَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» (رواه أحمد). فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ المُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَعْلَامِ، مَصَابِيحِ الظَّلَامِ، خَيْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالْتِزَامٍ.

أَمَّا بَعْدُ … فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى العَزِيزِ الغَفَّارِ، قَالَ تَعَالَى: (﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾) [آل عمران: 102). عِبَادَ اللهِ: «سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ» عُنْوَانُ وِزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.

عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:

أَوَّلًا: دِينُنَا دِينُ السَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ.

ثَانِيًا: فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ نَبِيُّنَا ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا السَّمَاحَةَ وَالتَّسَامُحَ.

ثَالِثًا: مَرْحَبًا بِرَبِيعِ الأَنْوَارِ

أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ المَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ سَمَاحَةِ الإِسْلَامِ، وَخَاصَّةً وَالإِسْلَامُ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ دِينُ الإِرْهَابِ وَالتَّطَرُّفِ وَالتَّشَدُّدِ وَالغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ، وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، فَالإِسْلَامُ دِينُ السَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ وَاليُسْرِ وَالسُّهُولَةِ وَالوَاسِطِيَّةِ وَالاعْتِدَالِ وَالسَّلَامِ وَالوِئَامِ وَالمَحَبَّةِ وَالوِفَاقِ. وَخَاصَّةً وَالسَّمَاحَةُ هِيَ مِلَّتُنَا وَنَهْجُنَا وَشَرْعُنَا، هِيَ دِينُنَا وَمَبْدَؤُنَا، وَبِهَا بُعِثَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ،وَخَاصَّةً وَلَقَدِ انْتَشَرَتِ القَسْوَةُ وَالغِلْظَةُ وَالفَظَاظَةُ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا، وَخَاصَّةً وَأَنَّ الجَفَاءَ الَّذِي نَرَاهُ وَنُشَاهِدُهُ فِي وَاقِعِنَا حَالَةٌ طَارِئَةٌ يَجِبُ أَنْ يَغِيبَ وَيَزُولَ، وَأَنْ يَظْهَرَ خُلُقُ السَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ عَلَى جَمِيعِ جَوَارِحِنَا، وَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِنَا وَسَكَنَاتِنَا. وَخَاصَّةً وَأَنَّ تُجَّارَ اليَوْمِ -إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ- قَدْ مَاتَ إِحْسَاسُهُمْ، وَدُفِنَتْ مَشَاعِرُهُمْ، وَقَلَّ إِيمَانُهُمْ، وَنَسُوا رَبَّهُمْ، وَلَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَمُوتَ النَّاسُ جُوعًا، وَلَا يُبَالُونَ بِغَلَاءِ العَيْشِ الَّذِي يَعْصِرُ النَّاسَ عَصْرًا، وَلَا يَتَأَلَّمُونَ لِلْحَاجَةِ الَّتِي أَرْهَقَتْ مَضَاجِعَ النَّاسِ بِاللَّيْلِ، وَأَرْهَقَتْهُمْ بِالنَّهَارِ. هُمْ تُجَّارُ حُرُوبٍ وَأَزَمَاتٍ، لَا تَهُمُّهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

أَوَّلًا: دِينُنَا دِينُ السَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: إِنَّ مَفْهُومَ السَّمَاحَةِ الَّذِي جَاءَ بِهِ شَرْعُنَا الحَنِيفُ وَدَعَا إِلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ فَوْقَ مَفْهُومِ الإِنسَانِيَّةِ وَحُقُوقِ الإِنسَانِ الَّذِي رَفَعَهُ الغَرْبُ وَالشَّرْقُ فِي هَذَا العَصْرِ الجَاهِلِيِّ المُتَحَضِّرِ، وَقَدْ جَسَّدَ ذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالسَّمَاحَةُ يَا عِبَادَ اللهِ هِيَ طِيبٌ فِي النَّفْسِ، وَانْشِرَاحٌ فِي الصَّدْرِ، وَلِينٌ فِي الجَانِبِ، وَبَشَاشَةٌ فِي الوَجْهِ، وَذِلَّةٌ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَصِدْقٌ فِي التَّعَامُلِ، وَرَحْمَةٌ بِجَمِيعِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا يَعْقِلُ وَمِمَّا لَا يَعْقِلُ. وَكَيْفَ لَا؟ وَدِينُنَا دِينُ الشَّمَائِلِ الحَسَنَةِ وَالقِيَمِ المُسْتَحْسَنَةِ وَالأَخْلَاقِ العَالِيَةِ وَالآدَابِ الغَالِيَةِ.. بَلِ الغَايَةُ الأَسْمَى مِنْ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الأَخْلَاقُ فَقَالَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ} رَوَاهُ البُخَارِيُّ، لِذَا فَإِنَّ خُلُقَ السَّمَاحَةِ يَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ فِي تَعَامُلِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا  الدينا فِي يَدِهِ لَا فِي قَلْبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: “لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ” (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا لِي وَ لِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا” (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، لِذَا وَجَبَ عَلَيْنَا السَّمَاحَةُ فِي جَمِيعِ شُؤُونِ حَيَاتِنَا، فَالدُّنْيَا لَا قِيمَةَ لَهَا وَلَا وَزْنَ لَهَا، إِنَّمَا الدُّنْيَا إِلَى زَوَالٍ. وَكَيْفَ لا؟ وَقَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِشَرِيعَةٍ كُلُّهَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ وَمَنْفَعَةٌ لِلْبَشَرِيَّةِ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، لِمَنْ قَبِلَهَا وَآمَنَ بِهَا وَالْتَزَمَهَا، هَذِهِ الشَّرِيعَةُ تَدْعُو الْمُؤْمِنَ لِأَنْ يَكُونَ مُتَخَلِّقًا بِالسَّمَاحَةِ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ السَّمَاحَةَ تُقَوِّي الْإِيمَانَ، وَتُضَاعِفُ الثَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَتَشُدُّ أَزْرَ الْعِبَادِ، وَتَجْعَلُ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَالْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ… وَكَيْفَ لا؟ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا خَاطَبَ نَبِيَّهُ الْمُخْتَارَ أَنْ يَكُونَ سَمْحًا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٩٩]. قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَافِيًا عَنْ رَسُولِهِ الْمُخْتَارِ الْفَظَاظَةَ، وَغِلَظَةَ الْقَلْبِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩]. وَكَيْفَ لا؟ وَدِينُنَا فِي حَالَاتِ الطَّلَاقِ وَعِنْدَ الْغَضَبِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَمَرَنَا بِالسَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ مِنْ أَفْضَلِ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَأَجَلِّهَا، فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ؟ قَالَ: “مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ”، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: “أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا”، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ”. فَالسَّمَاحَةُ خُلُقٌ عَظِيمٌ مِنْ أَخْلَاقِ الدِّينِ، وَمَبْدَأٌ كَرِيمٌ مِنْ مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ، وَشِيمَةُ الْأَبْرَارِ الْمُحْسِنِينَ مِنَ النَّاسِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ، وَسَهْلَةٌ وَمَيْسُورَةٌ، أَمَرَ بِهَا الدِّينُ، وَتَخَلَّقَ بِهَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَدُلُّ عَلَى سُمُوِّ النَّفْسِ، وَعَظَمَةِ الْقَلْبِ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ، وَوَعْيِ الرُّوحِ، وَنُبْلِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَصَالَةِ الْمَعْدِنِ. وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَأَيْنَ الَّذِينَ يَبْحَثُونَ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟ أَيْنَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَنَالُوا دُعَاءَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى”. فَيَا مَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَنَالَ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ بِبَرَكَةِ الدُّعَاءِ الشَّرِيفِ: فَعَلَيْكَ بِالسَّمَاحَةِ أَثْنَاءَ تَعَامُلِكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، كُنْ سَمْحًا عِنْدَ الْبَيْعِ، وَكُنْ سَمْحًا عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَكُنْ سَمْحًا عِنْدَ الْقَضَاءِ، وَكُنْ سَمْحًا عِنْدَ الِاقْتِضَاءِ. وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٠]. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: (وَجَّهَ اللَّهُ الدَّائِنِينَ إِلَى التَّيْسِيرِ عَلَى الْمَدِينِينَ الْمُعْسِرِينَ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ سَمَاحَةَ النَّفْسِ، وَحُسْنَ التَّغَاضِي عَنِ الْمُعْسِرِينَ). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ” (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). بَلْ تَكُونُ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ وَظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ”. فَتَجَاوَزْ عَنِ النَّاسِ يَتَجَاوَزْ عَنْكَ الْمَلِكُ جَلَّ جَلَالُهُ. وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “حَرُمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ”. وَفِي رِوَايَةٍ: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، وَبِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ”. اللَّهُ أَكْبَرُ عِبَادَ اللَّهِ: يَا مَنْ تُرِيدُ شَهَادَةَ ضَمَانٍ لِدُخُولِ جَنَّةِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، يَا مَنْ تُرِيدُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، كُنْ سَمْحًا سَهْلًا لَيِّنًا وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ إِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّنَا أَصْحَابُ عَثَرَاتٍ، فَأَيْنَ مَنْ يُقِيلُ النَّادِمَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَادِّيَّةِ؟ أَيْنَ مَنْ يَسْمَعُ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (رَوَاهُ أَحْمَدُ). وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ: “مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ، أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَنْفِيسِ الْكُرُوبَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنَجِّيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ” (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). فَأَيُّهَا التُّجَّارُ، يَا أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ: ارْحَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، ارْحَمُوا الضُّعَفَاءَ، ارْحَمُوا أَصْحَابَ الْحَاجَةِ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وَاسْمَعُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: “اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ” (رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ). فَإِذَا تَسَامَحْتَ مَعَ إِخْوَانِكَ سَامَحَكَ اللَّهُ فِي تَعَامُلِكَ، فَمِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ الطَّيِّبَةِ السَّمَاحَةُ لِلْآخَرِينَ، وَالتَّسْهِيلُ وَاللِّينُ، وَيُعَامِلُ النَّاسَ بِالتَّسَامُحِ وَالْعَفْوِ وَالتَّصَافُحِ. فَدِينُنَا دِينُ السَّمَاحَةِ، دِينُ الْأُلْفَةِ، دِينُ الْمَحَبَّةِ، دِينُ الرَّحْمَةِ، دِينُ التَّسَامُحِ. فَكَمْ رَبَّى الْإِسْلَامُ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْعُلْيَا، وَآدَابِهِ الْمُثْلَى، وَمِنْهَا مَا نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى الِاتِّصَافِ بِهِ، وَالتَّحَلِّي بِأَخْلَاقِهِ، وَالْقِيَامِ بِمُوجِبِهِ، إِنَّهَا خَصْلَةٌ؛ هِيَ خُلُقُ السَّمَاحَةِ. مَا أَجْمَلَ هَذَا الشِّعَارَ، وَتَمَثُّلَهُ فِي مُمَارَسَةِ الْحَيَاةِ وَالدَّارِ، فَاجْعَلْ شِعَارَكَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكَ السَّمَاحَةَ لِإِخْوَانِكَ. وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّافِعِيِّ:

يُخَاطِبُنِي السَّفِيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ .:. فَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبًا

يَزِيدُ سَفَاهَةً فَأَزِيدُ حِلْمًا .:. كَعُودٍ زَادَهُ الْإِحْرَاقُ طِيبًا

بَلْ وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ السَّمَاحَةِ الْعُلْيَا: أَنْ يَتَسَامَحَ الْمَرْءُ حَتَّى مَعَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، كَالَّذِي جَرَى مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَمَا أَقْسَمَ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ؛ لِخَوْضِهِ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ فِي عِرْضِ أُمِّنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، الْحَصَانِ الرَّزَانِ الصِّدِّيقيَّةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، رَغْمَ مَا يَمُنُّ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ كِسْوَةٍ وَمَبِيتٍ وَإِطْعَامٍ. فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ، فَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَادَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ أَلَّا يَفْعَلَ. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٢٢]. لِذَا يَقُولُ الْمُصْطَفَى ﷺ: “ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ”. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٧]. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

وَكُنْ رَجُلًا عَلَى الْأَهْوَالِ جَلْدًا *****وَشِيمَتُكَ السَّمَاحَةُ وَالْوَفَاءُ

وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُكَ فِي الْبَرَايَا **** وَسَرَّكَ أَنْ يَكُونَ لَهَا غِطَاءُ

تَسَتَّرْ بِالسَّخَاءِ فَكُلُّ عَيْبٍ ***** يُغَطِّيهِ كَمَا قِيلَ السَّخَاءُ

وَلَا تُرِ لِلْأَعَادِي قَطُّ ذُلًّا ***** فَإِنَّ شَمَاتَةَ الْأَعْدَا بَلَاءُ

وَلَا تَرْجُ السَّمَاحَةَ مِنْ بَخِيلٍ **** فَمَا فِي النَّارِ لِلظَّمْآنِ مَاءُ

ثَانِيًا: فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ نَبِيُّنَا ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا السَّمَاحَةَ وَالتَّسَامُحَ.

أيُّهَا السَّادَةُ: ففِي شَهْرِ رَبِيعِ الأَنْوَارِ هَلَّتْ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا نُورُ الأَنْوَارِ، وَسَيِّدُ الأَكْوَانِ، وَرَحْمَةُ اللهِ لِلْعَالَمِينَ، النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَّمَ الدُّنْيَا السَّمَاحَةَ وَالتَّسَامُحَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ خَادِمًا؛ فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ((خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلَا: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلَا: أَلَا صَنَعْتَ؟)) هَذَا هُوَ أُسْوَتُنَا وَقُدْوَتُنَا وَمُعَلِّمُنَا وَمُرْشِدُنَا ﷺ كَانَ يَتَعَامَلُ بِالرَّحْمَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ سَمَاحَتُهُ ﷺ مَعَ زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ هُدَى زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ – وَهُوَ الْحَبْرُ الْكَبِيرُ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودٍ – قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: مَا مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ ﷺ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبِرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا. فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ لِأَنْ أُخَالِطَهُ فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ مِنْ جَهْلِهِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا مِنَ الْحُجُرَاتِ وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَالْبَدَوِيِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بُصْرَى قَرْيَةَ بَنِي فُلَانٍ قَدْ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَكُنْتُ حَدَّثْتُهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَدًا، وَقَدْ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ وَشِدَّةٌ وَمَحُوطٌ مِنَ الْغَيْثِ، فَأَنَا أَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ طَمَعًا كَمَا دَخَلُوا فِيهِ طَمَعًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ تُعِينُهُمْ بِهِ فَعَلْتَ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى عَلِيٍّ وَسَأَلَهُ (هَلْ عِنْدَنَا شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ؟). فَقَالَ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ نَفِدَ الْمَالُ كُلُّهُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تُبِيعَنِي تَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: «لَا يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أُبِيعُكَ تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا وَلَا أُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ». قُلْتُ: نَعَمْ، فَبَايَعَنِي فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فِي تَمْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا. يَقُولُ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ كُلَّهَا وَأَعْطَاهَا لِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ وَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَغِثْهُمْ بِهَذَا الْمَالِ». فَانْطَلَقَ الْأَعْرَابِيُّ بِالْمَالِ كُلِّهِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَلَمَّا كَانَ قِبَلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى جِنَازَةٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ دَنَا مِنْ جِدَارٍ لِيَجْلِسَ إِلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، وَهَزَزْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ هَزًّا عَنِيفًا وَقُلْتُ لَهُ: أَدِّ مَا عَلَيْكَ مِنْ حَقٍّ وَمِنْ دَيْنٍ يَا مُحَمَّدُ! فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا مُطْلًا فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَسَدَادِ الدُّيُونِ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُمَاطَلَتِكُمْ عِلْمٌ. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ، وَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهٍ كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ، أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ مَا أَسْمَعُ، وَتَفْعَلُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ مَا أَرَى؟!! فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى فَوْتَهُ وَغَضَبَهُ لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ بِسَيْفِي هَذَا. يَقُولُ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسُّمٍ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، لَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا؛ يَا عُمَرُ لَقَدْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ الطَّلَبِ». فَبُهِتَ الْحَبْرُ أَمَامَ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ السَّامِيَةِ، وَأَمَامَ هَذِهِ الرُّوحِ الْوَضِيئَةِ الْعَالِيَةِ مِنَ الْحَبِيبِ الْمُصْطَفَى ﷺ. أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ الْحَبِيبُ صَاحِبُ الْأَخْلَاقِ الْعَظِيمَةِ؟ الْتَفَتَ الْحَبِيبُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَالَ: ((اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ، فَأَعْطِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ جَزَاءَ مَا رَوَّعْتَهُ!!)). قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ فَأَعْطَانِي حَقِّي وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ أُزِيدَكَ إِيَّاهَا جَزَاءَ مَا رَوَّعْتُكَ!!. فَالْتَفَتَ الْحَبْرُ الْيَهُودِيُّ إِلَى عُمَرَ وَقَالَ: أَلَا تَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لَا، فَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ. قَالَ عُمَرُ: حَبْرُ الْيَهُودِ؟! قَالَ: نَعَمْ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: فَمَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ فَعَلْتَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ مَا فَعَلْتَ وَقُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ زَيْدٌ: وَاللهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَخْتَبِرْ فِيهِ خَصْلَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ النُّبُوَّةِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا هُمَا؟ قَالَ حَبْرُ الْيَهُودِ: الْأُولَى: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَالثَّانِيَةُ: لَا تُزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا. أَمَا وَقَدْ عَرَفْتُهَا الْيَوْمَ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ. قَدْ رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا. وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي – فَإِنِّي أَكْثَرُهُمْ مَالًا – صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. فَقَالَ لِي عُمَرُ: أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ؟ فَرَجَعَ عُمَرُ وَزَيْدٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ. فَقَالَ زَيْدٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ، وَشَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَ كَثِيرَةً. تُوُفِّيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ. رَحِمَ اللهُ زَيْدًا.

وَمِنْ سَمَاحَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَفْوُهُ عَمَّنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَفَلُوا مَعَهُ، فَأَدْرَكْتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللهُ – ثَلَاثًا – وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ»وَهَذَا أَعْرَابِيٌّ جَاءَ يَوْمًا يَطْلُبُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ((أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟))، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا، وَلَا أَجْمَلْتَ. فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ وَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَعْرَابِيِّ وَزَادَهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ((أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟))، قَالَ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ وَفِي نَفْسِ أَصْحَابِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ، حَتَّى يَذْهَبَ مِنْ صُدُورِهِمْ مَا فِيهَا عَلَيْكَ)). قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قَالَ، فَزِدْنَاهُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ رَضِيَ، أَكَذَلِكَ؟)). فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا. فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ: كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَتَبِعَهَا النَّاسُ، فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُ النَّاقَةِ: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي؛ فَإِنِّي أَرْفَقُ بِهَا وَأَعْلَمُ، فَتَوَجَّهَ لَهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا فَأَخَذَ لَهَا مِنْ قِمَامِ الْأَرْضِ، فَرَدَّهَا هَوْنًا هَوْنًا، حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ، وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَاسْتَوَى عَلَيْهَا، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ فَقَتَلْتُمُوهُ، دَخَلَ النَّارَ)). إِنَّهَا سَمَاحَةُ نَبِيِّ الْإِسْلَامِ يَا سَادَةُ وَمِنْ سَمَاحَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَفْوُهُ عَمَّنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَفَلَ مَعَهُمْ فَأَدْرَكْتَهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعُضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللهُ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ» فَاللهَ اللهَ فِي أَخْلَاقِ الحَبِيبِ المُصْطَفَى ﷺ، اللهَ اللهَ فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، اللهَ اللهَ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ سَيِّدِ الرِّجَالِ ﷺ

وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي ** **وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ

خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ **** كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ

وأُرْجِئُ الحَدِيثَ عَنْهَا إِلَى مَا بَعْدَ جَلْسَةِ الاسْتِرَاحَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ. الحَمْدُ للهِ، وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِاسْمِ اللهِ، وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ … أَمَّا بَعْدُ

ثَالِثًا: مَرْحَبًا بِرَبِيعِ الأَنْوَارِ

أيُّهَا السَّادَةُ: فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَشْرَقَ النُّورُ وَبَزَغَ الْفَجْرُ، وَوُلِدَ خَيْرُ الْبَشَرِ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ابْنُ عَبْدِ اللهِ ﷺ. وَلَقَدْ كَانَ مِيلَادُ الرَّسُولِ ﷺ مِيلَادَ أُمَّةٍ، وَمِيلَادَ فَجْرٍ جَدِيدٍ، وَمِيلَادًا لِلْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ، وَمِيلَادًا لِلْحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ، وَمِيلَادًا لِلْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا. فَقَدْ كَانَتْ حَاجَةُ الْعَالَمِ إِلَيْهِ ﷺ حَاجَةَ الْمَرِيضِ إِلَى الشِّفَاءِ، وَالْعَطْشَانِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْعَلِيلِ إِلَى الدَّوَاءِ، وَالنَّظَرِ الَّذِي تَتَمَنَّاهُ الْعَيْنُ الْعَمْيَاءُ. نَعَمْ، لَقَدْ وُلِدَ الْحَبِيبُ ﷺ، فَكَانَ مِيلَادُهُ ثَوْرَةً عَلَى الظُّلْمِ، وَكَانَتْ بَعْثَتُهُ نَجْدَةً لِلْمَظْلُومِينَ، أُطْفِئَتْ نَارُ فَارِسٍ، وَزُلْزِلَتْ عُرُوشُ قَيْصَرَ، وَانْهَدَمَتْ قُصُورُ الِاسْتِبْدَادِ، وَسَقَطَتْ شُرُفَاتُ الظُّلْمِ. وَبَعَثَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَكَانَ رَحْمَةً مُهْدَاةً لِلْعَالَمِينَ وَالنِّعْمَةَ الْمُسْدَاةَ، يَحْنُو عَلَى الْكَبِيرِ، وَيَرْحَمُ الصَّغِيرَ، وَيُوَاسِي الْكَسِيرَ، يَشْعُرُ بِمَنْ حَوْلَهُ، وَيَهْتَمُّ بِهِ اهْتِمَامًا بَالِغًا. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. وَقَالَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». فَكَانَتْ وِلَادَتُهُ ﷺ فَتْحًا، وَبَعْثَتُهُ فَجْرًا، هَدَى اللهُ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَعَلَّمَ بِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ، وَأَرْشَدَ بِهِ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَفَتَحَ اللهُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَكَثَّرَ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأَعَزَّ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ. فَهُوَ ﷺ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، وَصَفْوَةُ الْأَنَامِ، لَا طَاعَةَ لِلَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]

فَحَرِيٌّ بِنَا أَنْ تَكُونَ ذِكْرَانَا لِمَوْلِدِ نَبِيِّنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الذِّكْرَى ذِكْرَى لِسِيرَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَأَنْ يَدْفَعَنَا ذَلِكَ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِسُنَّتِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ فِي سَائِرِ شُؤُونِ حَيَاتِنَا. وَصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقُولُ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]. وَوَاجِبُنَا أَنْ نُطِيعَهُ وَنَتَّبِعَ سُنَّتَهُ ﷺ، وَنُنَفِّذَ أَوَامِرَهُ، وَنَسْلُكَ طَرِيقَهُ، وَنَقْتَدِيَ بِهِ، وَلَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7]. وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]. وَوَاجِبُنَا مَحَبَّتُهُ ﷺ وَإِجْلَالُهُ وَتَعْظِيمُهُ. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]. وَوَاجِبُنَا أَنْ نَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ نَبِيِّنَا ﷺ، وَأَنْ نَسِيرَ عَلَى دَرْبِهِ لِنَسْعَدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

سَعِدَتْ بِبَعْثَةِ أَحْمَدَ الْأَزْمَانُ **** وَتَعَطَّرَتْ بِعَبِيرِهِ الْأَكْوَانُ

وَالشِّرْكُ أَنْذَرَ بِالنِّهَايَةِ عِنْدَمَا **** جَاءَ الْبَشِيرُ وَأَشْرَقَ الْإِيمَانُ

يَا سَيِّدَ الْعُقَلَاءِ يَا خَيْرَ الْوَرَى **** يَا مَنْ أَتَيْتَ إِلَى الْحَيَاةِ مُبَشِّرًا

وَبُعِثْتَ بِالْقُرْآنِ فِينَا هَادِيًا ***** وَطَلَعْتَ فِي الْأَكْوَانِ بَدْرًا نَيِّرًا

وَاللهِ مَا خَلَقَ الْإِلَهُ وَلَا بَرَى ***** بَشَرًا يُرَى كَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الورى

حَفِظَ اللهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَشَرِّ الْفَاسِدِينَ، وَحَقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.

   كَتَبَهُ العَبْدُ الفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ د/ مُحَمَّدٌ حِرْزٌ إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الأَوْقَافِ

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى