خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (اُتْرُكْ عِنْدَ النَّاسِ أَطْيَبَ الأَثَرِ وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ * يَقُولُونَ: مَرَّ، وَهَذَا الأَثَرُ) د . مُحَمَّـد حِرْز

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (اُتْرُكْ عِنْدَ النَّاسِ أَطْيَبَ الأَثَرِ وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ * يَقُولُونَ: مَرَّ، وَهَذَا الأَثَرُ) د . مُحَمَّـد حِرْز20 رَبِيعِ الأَوَّلِ 1447هـ – 15 سِتَمْبَر 2025م
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ word (اُتْرُكْ عِنْدَ النَّاسِ أَطْيَبَ الأَثَرِ وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ * يَقُولُونَ: مَرَّ، وَهَذَا الأَثَرُ) د . مُحَمَّـد حِرْز
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ pdf (اُتْرُكْ عِنْدَ النَّاسِ أَطْيَبَ الأَثَرِ وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ * يَقُولُونَ: مَرَّ، وَهَذَا الأَثَرُ) د . مُحَمَّـد حِرْز
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِالْعِزِّ وَالْجَلَالِ، وَتَوَحَّدَ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالْكَمَالِ، وَجَلَّ عَنِ الأَشْبَاهِ وَالأَشْكَالِ، وَدَلَّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَزَالَ الإِشْكَالُ، وَأَذَلَّ مَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِهِ غَايَةَ الإِذْلَالِ، وَتَفَضَّلَ عَلَى الْمُطِيعِينَ بِلَذَّةِ الْعِبَادَةِ وَالإِقْبَالِ، بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَفَاتِيحُ الأَقْفَالِ، لَا رَادَّ لأَمْرِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْخَالِقُ الْفَعَّالُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَحَبِيبَنَا وَعَظِيمَنَا وَقَائِدَنَا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ الْـمُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ الأَخْيَارِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
سَعِدَتْ بِبَعْثَةِ أَحْمَدَ الأَزْمَانُ **** وَتَعَطَّرَتْ بِعَبِيرِهِ الأَكْوَانُ
وَالشِّرْكُ أَنْذَرَ بِالنِّهَايَةِ عِنْدَمَا **** جَاءَ الْبَشِيرُ وَأَشْرَقَ الإِيمَانُ
يَا سَيِّدَ الْعُقَلاءِ يَا خَيْرَ الْوَرَى **** يَا مَنْ أَتَيْتَ إِلَى الْـحَيَاةِ مُبَشِّرًا
وَبُعِثْتَ بِالْقُرْآنِ فِينَا هَادِيًا **** وَطَلَعْتَ فِي الأَكْوَانِ بَدْرًا نَيِّرًا
وَاللَّهِ مَا خَلَقَ الإِلَهُ وَلَا بَرَى **** بَشَرًا يُرَى كَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الْوَرَى
أَمَّا بَعْدُ … فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، قَالَ تَعَالَى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]. عِبَادَ اللَّهِ: (اُتْرُكْ عِنْدَ النَّاسِ أَطْيَبَ الأَثَرِ وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ * يَقُولُونَ: مَرَّ، وَهَذَا الأَثَرُ» عُنْوَانُ وِزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:
أَوَّلًا: تَحَمُّلْ الْمَسْؤُولِيَّةَ وَاتْرُكْ أَثَرًا جَمِيلًا يَذْكُرُكَ النَّاسُ بِهِ.
ثَانِيًا: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ.
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: حَقُّ الطَّرِيقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟
أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْـمَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ (اُتْرُكْ عِنْدَ النَّاسِ أَطْيَبَ الأَثَرِ وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ * يَقُولُونَ: مَرَّ، وَهَذَا الأَثَرُ). وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا نَبْحَثُ فِيهِ عَنِ السِّلْبِيَّةِ بِصُورَةٍ مُمِيتَةٍ، وَنُحِبُّ التَّخَلِّيَ عَنْ حَمْلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَأَنَّ الأَمْرَ لَا يَعْنِيكَ مِنْ قَرِيبٍ وَلَا مِنْ بَعِيدٍ. لَكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ أَنَّ رَجُلًا مَسْؤُولًا عَنْ زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ أَمَامَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَسْأَلُ ابْنَتَهُ: لِمَاذَا تَخْرُجِينَ بِلَا حِجَابٍ؟! تَخْرُجُ مُتَبَرِّجَةً كَاشِفَةً عَنْ شَعْرِهَا وَجَسَدِهَا. وَلَا يَسْأَلُ ابْنَهُ عَنْ أَصْحَابِ السُّوءِ وَشِلَّةِ الأُنْسِ الَّتِي يَسْهَرُ مَعَهُمْ حَتَّى الصَّبَاحِ فِي مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَلَا يَسْأَلُ زَوْجَتَهُ الَّتِي تَتَزَيَّنُ خَارِجَ الْبَيْتِ: لِمَنْ تَتَزَيَّنُ؟! سِلْبِيَّةٌ قَاتِلَةٌ تُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ وَالْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضى الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.. وَخَاصَّةً ومِنْ أَعْظَمِ مَا تَحْتَاجُهُ مُجْتَمَعَاتُنَا الْيَوْمَ هُوَ إِدْرَاكُ مَعْنَى الْمَسْئُولِيَّةِ الْـمُشْتَرَكَةِ، تِلْكَ الَّتِي تَبْدَأُ مِنَ الْفَرْدِ نَفْسِهِ، وَتَمْتَدُّ إِلَى أُسْرَتِهِ، ثُمَّ إِلَى الْـمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ؛ فَالْفَرْدُ لَا يَعِيشُ مُنْعَزِلًا عَنْ غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْ أُسْرَةٍ، وَالأُسْرَةُ لَبِنَةٌ فِي بِنَاءِ الْـمُجْتَمَعِ، وَبِرِعَايَةِ هَذِهِ الْـمَسْئُولِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِهَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتْرُكَ أَعْظَمَ الأَثَرِ فِي حَيَاتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ وَوَطَنِهِ ، وَخَاصَّةً وَالْوَاجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مِنَّا أَنْ يَتْرُكَ أَثَرًا طَيِّبًا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَالذِّكْرَى الْحَسَنَةُ لِلْإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانٍ. وَلِلَّهِ دَرُّ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ قَالَ:
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِ
فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا *** فَالذِّكْرُ لِلْإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ
أَوَّلًا: تَحَمُّلْ الْمَسْؤُولِيَّةَ وَاتْرُكْ أَثَرًا جَمِيلًا يَذْكُرُكَ النَّاسُ بِهِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ تَوْجِيهَاتِ الْإِسْلَامِ لِتَرْبِيَةِ الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ الدَّعْوَةُ إِلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَرَتَّبَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى ذَلِكَ الْفَلَاحَ فِي الدُّنْيَا وَالنَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ؛ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الْحِجْرِ: 92، 93]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصَّافَّاتِ: 24]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الْإِسْرَاءِ: 36]. وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6) وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: “سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَكَيْفَ لَا؟ وَلَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَوَاقِفِ وَالْأَحْدَاثِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ؛ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [يَس: 20-21]. إِنَّهُ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى، لِمَاذَا يَأْتِي؟! لِإِنْقَاذِ الْمَوْقِفِ، لِإِعْلَانِ كَلِمَةِ الْحَقِّ: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [يَس: 20، 21]، لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ، وَلَمْ يَكُنْ سَعْيُهُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ صَفْقَةٍ تِجَارِيَّةٍ -مَثَلًا- وَلَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ رُوحِهِ، بَلْ بِالْعَكْسِ كَانَ يَسْعَى إِلَى حَتْفِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ بِسَبَبِ جَهْرِهِ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ، وَتَعْزِيزِهِ لِمَوْقِفِ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، فَقُتِلَ فَقِيلَ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يَس: 26-27].وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الْإِسْرَاء: 13، 14]. وَالْمَسْؤُولِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْدِيَّةً يَقُومُ بِهَا الْفَرْدُ تُجَاهَ دِينِهِ وَأُمَّتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ وَأُسْرَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ جَمَاعِيَّةً تَقُومُ بِهَا الْأُسَرُ وَالْمُجْتَمَعَاتُ وَالشُّعُوبُ وَالْمُنَظَّمَاتُ وَالْأَحْزَابُ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النَّحْل: 93]
وَكَيْفَ لَا؟ وكلنا ركابُ سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ، يَرْكَبُ فِيهَا الصَّالِحُونَ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الطَّالِحُونَ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الْمُذْنِبُونَ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الأَبْرَارُ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الْفُجَّارُ، فَإِنْ نَجَتِ السَّفِينَةُ نَجَا الْجَمِيعُ، وَإِنْ هَلَكَتِ السَّفِينَةُ هَلَكَ الْجَمِيعُ، سَيَهْلَكُ الْمُتَّقُونَ وَالْمُذْنِبُونَ، سَيَهْلَكُ الأَبْرَارُ وَالْفُجَّارُ. لِذَا قَالَ الصَّادِقُ الْـمَصْدُوقُ ﷺ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا». رواه البخاري. مَثَلٌ بَدِيعٌ مِنْ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ ﷺ. وَكَيْفَ لَا؟ وتَدَبَّرْ مَعِي قَوْلَ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ ﷺ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا – وَفِي لَفْظٍ: قَامَ النَّبِيُّ يَوْمًا مِنَ النَّوْمِ فَزِعًا – يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْـخَبَثُ». رواه البخاري. وَلَا أَرَى زَمَانًا كَثُرَ فِيهِ الْـخَبَثُ – الزِّنَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ – كَهَذَا الزَّمَانِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
فَلَابُدَّ وَأَنْ يَعِيَ الْجَمِيعُ أَنَّنَا نَعِيشُ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ، إِنْ نَجَتِ السَّفِينَةُ نَجَا الْجَمِيعُ، وَإِنْ هَلَكَتِ السَّفِينَةُ هَلَكَ الْجَمِيعُ. فَلْنَحْرِصْ جَمِيعًا عَلَى رِفْعَةِ وَطَنِنَا، وَعَلَى طَاعَتِنَا لِرَبِّنَا وَلِحَبِيبِنَا ﷺ
فَاتْرُكْ لِنَفْسِكَ أَثَرًا طَيِّبًا جَمِيلًا يَذْكُرُكَ الناسُ بِهِ، وَيَنْفَعُكَ بَعْدَ مَوْتِكَ، فَكُلُّنَا جَنَائِزُ مُؤَجَّلَةٌ، وَكُلُّنَا جَنَائِزُ نَتَنَفَّسُ، وَكُلُّنَا جَنَائِزُ نَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ.
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ***يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
وَإِذَا حُمِلْتَ إِلَى الْقُبُورِ جَنَازَةً ***فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَهَا مَحْمُولُ
فَمَا نَحْنُ فِي الدَّارِ إِلَّا ضُيُوفٌ**** وَكُلٌّ سَيَمْضِي وَيَبْقَى الْأَثَرُ
قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)[يس: 12]، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْبَصْمَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ عُمْرِكَ، وَاللَّوْحَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ حَيَاتِكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ زَوَالِهَا. وفي مُحكم التنْزيل سأل نبي الله إبراهيمُ الخليل ( عليه السلام ) أن يَبقى ذِكْرُه متردِّدًا عبْر كلِّ جيل، فنادى ربَّه قائلا : ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84]، فأجاب الله تعالى سؤْله ، وأعطاه ما طلب ،فقال الله تعالى : ﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الصافات: 108]، قال جمهور المفسرين: “وتركنا ثناء حسنًا عليه” ثم عمَّم فضل الله على خليله، فكان له الذِّكر الطيِّب، ولذرِّيته معه؛ إسحاق ويعقوب، قال الله سبحانه وتعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 50]، قال القرطبي: “أيْ: أثنينا عليهم ثناء حسنًا”؛
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ *** وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا
إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لِأَنْفُسِهِمْ *** وَإِنْ أَسَاؤُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا
v ثَانِيًا: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِمَّا مُسْتَرِيحٌ مِنْ عَنَائِهَا وَبَلْوَائِهَا، أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ؛ فَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَجْلِبْ لِنَفْسِهِ وَمَنْ حَوْلَهُ سِوَى الْـمَأْسَاةِ وَالْمُعَانَاةِ؛ فَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ ثَمَرَةً طَيِّبَةً أَوْ أَثَرًا حَسَنًا يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْـمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: «الْعَبْدُ الْـمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» رواه البخاري.يَا رَبِّ سَلِّمْ، فَكَمْ رَحَلَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ طَاغِيَةٍ وَجَبَّارٍ، وَأَشْرَارٍ وَفُجَّارٍ، فَشَيَّعَتْهُمْ دَعَوَاتُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، وَرَاحَةُ الْعِبَادِ مِنْهُمْ! ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ [الدخان: 29].وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ. سَتَرْحَلُ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَرِيحُ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يُسْتَرَاحُ مِنْهُ، كُنْ مِمَّنْ فَارَقَ دُنْيَاهُ وَقَدْ أَبْقَى ذِكْرَهُ بِمَا تَرَكَهُ مِنْ آثَارٍ طَيِّبَةٍ، وَسِيرَةٍ نَقِيَّةٍ، وَأَفْعَالٍ مَرْضِيَّةٍ. وَلَا تَكُنِ الْأُخْرَى؛ فَلَا يُتَأَسَّفُ عَلَى مَوْتِكَ، وَلَا يُتَحَسَّرُ عَلَى رَحِيلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَكَ مَا كَانَ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ. تَذَكَّرْ يَا مَنْ يَسْعَى لِيُذْكَرَ فِي دُنْيَاهُ بِجَاهِهِ، أَوْ شُهْرَتِهِ، أَوْ ثَرَائِهِ، أَنَّ الشَّأْنَ هُوَ فِي الذِّكْرِ بَعْدَ الرَّحِيلِ، وَهَلْ سَيُقَالُ عَنْكَ: فُلَانٌ فَقِيدٌ؟ أَمْ فُلَانٌ مَوْتُهُ عِيدٌ؟ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
سَلْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ: هَلْ سَأُغَادِرُ هَذِهِ الدَّارَ وَقَدْ شَيَّعَتْنِي الدُّمُوعُ وَالدَّعَوَاتُ؟ أَمْ سَأَرْحَلُ فَلَا أَسَفَ عَلَيَّ وَلَا حَسَرَاتٌ؟ الكُلُّ سَيَمْضِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، وَالْكُلُّ سَتَذْكُرُهُ أَلْسِنَةُ الْخَلْقِ، إِمَّا خَيْرًا، أَوْ شَرًّا، فَلْيَخْتَرْ كُلُّ امْرِئٍ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ سَيَكُونُ؟ وَإِلَى أَيِّ الطَّرِيقَيْنِ سَيَسِيرُ؟ هَذِهِ حَقِيقَةٌ فَلَا نُعْمِي الْبَصَرَ وَالْبَصِيرَةَ عَنْهَا.
وكيف لا؟ وَالنَّاسُ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فعَنْ أأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضى الله عنه – يَقُولُ : مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « وَجَبَتْ » . ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ : « وَجَبَتْ » . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رضى الله عنه – مَا وَجَبَتْ ؟ قَالَ « هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ » ، وفي رواية مسلم : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ». وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ». قَالَ عُمَرُ فِدًى لَكَ أَبِى وَأُمِّي مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ. وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ ». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إِذَا أَحْسَنْتُ وَإِذَا أَسَأْتُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ».
وفِي الحَدِيثِ يَقُولُ أَبُو زُهَيْرٍ الثَّقَفِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يُوشِكُ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَالُوا: بِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ».
فَيَا تُرَى أَيَشْهَدُ النَّاسُ لَكَ بِالخَيْرِ أَمْ عَلَيْكَ بِالشَّرِّ؟! يَا تُرَى سَيَفْرَحُ النَّاسُ عِنْدَ مَوْتِكَ أَمْ يَحْزَنُ النَّاسُ عِنْدَ مَوْتِكَ؟! يَا تُرَى أَيُثْنِي النَّاسُ عَلَيْكَ خَيْرًا أَمْ يُثْنِي النَّاسُ عَلَيْكَ شَرًّا؟!
إِنَّهَا حَقِيقَةٌ قَرَّرَهَا الوَاحِدُ الأَحَدُ، وَمُسَلَّمَةٌ لَا يُمَارِي فِيهَا أَحَدٌ: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 185]، ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾ [الأَنْعَامِ: 62]، ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المُؤْمِنُونَ: 115]. فَالْكُلُّ رَاحِلٌ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ، وَلَكِنِ الشَّأْنُ: كَيْفَ سَيَكُونُ هَذَا الرَّحِيلُ؟ وَمَاذَا سَيُقَالُ عَنْ هَذَا الرَّاحِلِ؟
وَكَيْفَ لَا؟ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ البَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ».
فَسُبْحَانَ اللهِ الَّذِي سَخَّرَ العِبَادَ، وَأَنْطَقَ أَلْسِنَتَهُمْ. فَالْعَالِمُ وَالمُصْلِحُ وَالمُحْسِنُ، يُثْنَى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لَهُ، وَيُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ. وَعَلَى النَّقِيضِ، عِنْدَمَا يُذْكَرُ المُبْتَدِعُ أَوِ الظَّالِمُ أَوِ المُفْسِدُ، يُذْكَرُ بِمَسَاوِئِهِ، وَالقُلُوبُ مَمْلُوءَةٌ بِبُغْضِهِ، وَالأَلْسِنَةُ تَدْعُو عَلَيْهِ، نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ وأفضلُ الناسِ ما بينَ الورَى رجلٌ *** تُقضَى على يدهِ للناسِ حاجاتُ
لا تمنعنَّ يدَ المعروفِ عن أحدٍ *** ما دمتَ مقتدرًا فالعيشُ جناتُ
قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ مكارمُهُم*** وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ .
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ؛ قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ…
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِسْمِ اللهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ … أَمَّا بَعْدُ:
v ثَالِثًا وَأَخِيرًا: حَقُّ الطَّرِيقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟
أَيُّهَا السَّادَةُ: لَقَدْ حَدَّدَتْ وِزَارَةُ الأَوْقَافِ أَنْ تَكُونَ الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ حَقِّ الطَّرِيقِ وخاصةً وأنَّ دِينَنا دِينُ النِّظَامِ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الدِّينِ وَتَعَالِيمِهِ، فَإِنَّهُ سَيَعِيشُ حَيَاةً سَعِيدَةً آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، فَقَدْ عَلَّمَنَا دِينُنَا جَمِيعَ الحُقُوقِ، مَا لَنَا وَمَا عَلَيْنَا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ: حَقُّ الطَّرِيقِ، فَمَنْ الْتَزَمَ بِأَدَاءِ حَقِّ الطَّرِيقِ، سَلِمَ مِنَ الإِثْمِ وَسَلِمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ.
فَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا عِبَادَ اللهِ؟ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ». قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ». لَا يُطْلِقُ بَصَرَهُ عَلَى كُلِّ مَارَّةٍ مِنَ النِّسَاءِ – بَلْ عَلَيْهِ غَضُّ البَصَرِ – أَوْ وَاقِفَةٍ بِبَابِهَا، أَوْ مُسْتَشْرِفَةٍ عَلَى شُرُفَاتِ مَنْزِلِهَا، أَوْ مُطِلَّةٍ عَلَى نَافِذَتِهَا لِحَاجَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [النُّور: 30]. كَمَا يَحْفَظُ بَصَرَهُ مِنْ نَظَرَاتِهِ الحَاسِدَةِ، أَوِ العَائِنَةِ، أَوِ السَّاخِرَةِ وَالمُسْتَهْزِئَةِ، فَلَا يُؤْذِي أَحَدًا بِلِسَانِهِ وَلَا بِيَدِهِ، وَأَنْ يَرُدَّ سَلَامَ كُلِّ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنَ المَارَّةِ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النِّسَاء: 86]. وَأَنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ الَّذِي يَرَاهُ، فَمَا دَامَ أَبَى إِلَّا الجُلُوسَ فَقَدْ حَمَّلَ نَفْسَهُ مَسْؤُولِيَّةَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ لِكُلِّ مَا يُشَاهِدُهُ.
حَقُّ الطَّرِيقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجِنَانِ يَا سَادَةُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِحق الطريق وما أدراك ما حق الطريق ؟ إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ سبب لدخول الجنان ياسادة؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
حقُّ الطَّرِيقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجِنَانِ يَا سَادَةُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
حَقُّ الطَّرِيقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ مَلْعُونٌ مَطْرُودٌ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ مَنْ يُؤْذِي النَّاسَ بِالطُّرُقَاتِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آذَى المُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ». وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا المَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: البَرَازَ فِي المَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ»
جَمَعْت آدَابَ مَنْ رَامَ الْجُلُوسَ عَلَى الطَّ * * * رِيقِ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْخَلْقِ إنْسَانَا
أَفْشِ السَّلَامَ وَأَحْسِنْ فِي الْكَلَامِ * * * وَشَمِّتْ عَاطِسًا وَسَلَامًا رُدَّ إحْسَانَا
فِي الْحَمْلِ عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ وَأَغِثْ * * * لَهْفَانَ اهدِ سَبِيلًا وَاهْدِ حَيْرَانَا
بِالْعُرْفِ مُرْ، وَانْهَ عَنْ نُكْرٍ وَكُفَّ أَذًى * * * وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْرَ مَوْلَانَا
وَمَا نَرَاهُ الآنَ وَنُشَاهِدُهُ فِي الطُّرُقَاتِ يَا سَادَةُ لَا يَرْضَى اللهُ جَلَّ وَعَلَا، وَمِنْ ذَلِكَ: السَّيْرُ عَكْسَ الاتِّجَاهِ، وَقِيَادَةُ السَّيَّارَاتِ بِرُعُونَةٍ مِمَّا يَتَسَبَّبُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الحَوَادِثِ المُرُورِيَّةِ، وَاسْتِخْدَامُ التِّلِفُونِ المَحْمُولِ دُونَ أَيِّ انْتِبَاهٍ لِلطَّرِيقِ أَوْ لِلْقِيَادَةِ، وَالمُسَابَقَاتُ فِي الشَّارِعِ بَيْنَ السَّيَّارَاتِ وَالمُوتُوسِيكْلَاتِ مِمَّا يُهَدِّدُ حَيَاةَ المُوَاطِنِينَ.
وَمَا نَرَاهُ فِي زَفَّةِ العَرِيسِ مِنْ سَيَّارَاتٍ وَمُوتُوسِيكْلَاتٍ مُتَهَوِّرَةٍ رَاحَ ضَحِيَّتَهَا الكَثِيرُ وَالكَثِيرُ مِنَ الشَّبَابِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
فَالطَّرِيقَ الطَّرِيقَ عِبَادَ اللهِ.
احْتِرَامَ حَيَاةِ الإِنْسَانِ عَلَى الطُّرُقَاتِ عِبَادَ اللهِ.
الحِيْطَةَ الحِيْطَةَ فِي الطُّرُقَاتِ عِبَادَ اللهِ.
أَرْوَاحُ البَشَرِ غَالِيَةٌ عِبَادَ اللهِ.
الطُّمَأْنِينَةَ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الطُّرُقَاتِ عِبَادَ اللهِ، تَسْعَدُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
حَفِظَ اللهُ مِصْرَ قِيَادَةً وَشَعْبًا مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.
كَتَبَهُ العَبدُ الفَقيرُ إِلَى عَفوِ رَبِّهِ د/ مُحَمَّد حِرز إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الأَوقَافِ