خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الحمعة القادمة ، إعلاء قيمة السعي والعمل للدكتور محمد داود

خطبة الحمعة القادمة ، إعلاء قيمة السعي والعمل للدكتور محمد داود بتاريخ 21 صفر 1447هـ – 15 أغسطس 2025م

خطبة الحمعة القادمة word ، إعلاء قيمة السعي والعمل للدكتور محمد داود

خطبة الحمعة القادمة pdf ، إعلاء قيمة السعي والعمل للدكتور محمد داود

خطبة بعنـــــــــوان :
إعلاء قيمة السعي والعمل
(خطبة مزيدة ومتجددة)
للدكتـــــور/ محمد حســــن داود

(21 صفر 1447هـ – 15 أغسطس 2025)

العناصـــــر :             مقدمة.
– اهتمام الإسلام بالسعي والعمل.
– نظرة الإسلام إلى العمل والكسب والسعي.
– العمل في حياة الأنبياء والسلف الصالح.
– ذم الكسل والخمول وبيان عواقبه.
– دعوة إلى تحقيق طاعة الله بالعمل سعيا وتقربا بالصالحات.

الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي كرم الإنسان، وعلمه البيان، منحه من بين المخلوقات مكانا رفيعا، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا، سبحانه ضمن للعاملين أجرا جزيلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، حث بقوله وفعله على العمل، واستعاذ بربه (سبحانه وتعالى) من العجز والكسل، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فلقد خلق الله (سبحانه وتعالى) الخلق بقدرته، ودبر أمورهم بحكمته، خلق الكون وهيأ فيه الظروف المثلى للحياة، ثم استخلف فيه الإنسان ليقوم بإعماره على الوجه الأكمل الذي يحقق به مرضاة ربه؛ قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)، وقال عز وجل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) (الحج: 65)، وقال سبحانه: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13).

وحيث إن العمل بكل صوره من زراعة وصناعة وتجارة وغير ذلك إعمار للأرض، وباب عظيم إلى التقدم والرقي والازدهار، وكما أن الله (عز وجل) ذلَّل لنا الأرض بما فيها، وأمرنا أن نسير في أرجائها وأن نبذل الجهد والوسع والطاقات والمواهب في كل عمل كان من شأنه نفع البلاد والعباد، فقال تعالي: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:105)، وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)؛ فإن الإسلام لا يرضى لعبد أن يعيش على هامش الحياة، بل يريده في جميع مجالات العمل المفيد سباقا، ليكون في مقدمة من أسهموا في عمارة الكون، فكانت نظرته إلى العمل نظرة توقير وتمجيد، فرفع قدره وقيمته، حتى جعل الإسلام من يسعى على كسب معاشه ورزق أولاده من حلال في درجة المرابط في سبيل الله، قالَ تعالي: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّه وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (المزمل: 20)َ وعنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (رضي الله عنه)، أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صَلى الله عليه وسلم)، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ، (صَلى الله عليه وسلم)، مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلى الله عليه وسلم): “إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ” (رواه الطبراني).

ولقد ورد لفظ “العمل” ومشتقاته في القرآن الكريم (٣٦٠) مرة؛ أي تقريبا عدد أيام السنة، ولعل في ذلك إشارة إلى الاهتمام بالعمل في كل وقت؛ فلم يقيد الإسلام دعوته إلى العمل بزمان أو مكان، بل دعا إليه في كل وقت وأوان، فعَنْ سيدنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه)، عَنِ سيدنا النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ” (الأدب المفرد للبخاري). وجعل لذلك الأجر العظيم والفضل الكبير، فقد قال الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “منْ أمسَى كالًّا منْ عَمِلَ يَدِيْهِ أَمْسَى مَغفُورًا لهُ”، وعَنْ سيدنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” (متفق عليه)، وعنْ سيدنا جَابِرٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ (أي لا ينقصه ويأخذ منه) إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ” (رواه مسلم).

إن العمل والكسب والسعي وعمارة الكون كان دأب الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، فسيدنا آدم (عليه السلام) كان حراثا، وسيدنا إدريس (عليه السلام) كان خياطا وخطاطا، وسيدنا إلياس (عليه السلام) كان نساجا، وسيدنا نوح وكذلك سيدنا زكريا (عليهما السلام) كانا نجارين، وسيدنا هود وكذلك سيدنا صالح (عليهما السلام) كانا تاجرين، وسيدنا إبراهيم (عليه السلام) كان بناء، وسيدنا أيوب (عليه السلام) كان زراعا، وسيدنا داود (عليه السلام) كان زرادا، (أي يصنع الزرد، وهو درع من حديد يلبسه المحارب)، وسيدنا سليمان (عليه السلام) كان خواصا، وسيدنا موسى وكذلك سيدنا شعيب (عليهما السلام) كانا يعملان برعي الأغنام، وسيدنا محمد (صَلى الله عليه وسلم) كان تاجرا، كما عمل كغيره من الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) برعي الأغنام، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:” مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ “( رواه البخاري).

فهؤلاء رسل الله (عليهم الصلاة والسلام) أعلى الناس قدرا، وأرفعهم مكانة، عملوا في كل المجالات والميادين، ولو كان عمل من الأعمال فيه منقصة ومهانة، أو دنو منزلة ومكانة؛ لكانوا أبعد الناس عنه وأنفرهم منه، ومن هذا يتجلى لنا أمرا في غاية الأهمية، وهو: أن العمل بشتى أنواعه وصنوفه، وعلى اختلاف مجالاته ما دام في طاعة الله (تبارك وتعالى) فهو تطهير وتزكية، ورفعة وترقية، يمنح الله (عز وجل) به العباد من فضله أجورا عظيمة، فعَنْ سيدنا أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ:” لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ” (رواه الترمذي).

كما أن الصحابة (رضي الله عنهم) كانوا يحترفون بأيديهم، فأفضل الكسب كسب يأتي ثمرة عرق الجبين وكد اليمين، يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ”. وفي قصةِ سيدنا عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه)، ما يدل على ذلك؛ فقد قال أَنَسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ” (رواه البخاري ومسلم). فقد كانوا رضي الله عنهم يعملون في شتى الحرف والمهن، فكان منهم التاجر، والمزارع، والحداد، والحطاب وغير ذلك، ولم يُعرف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ) أنه اعترض على أحد منهم بسبب حرفته ومهنته، بل على العكس من ذلك كان يشجعهم على أعمالهم ويحثهم على التفوق فيها.

وعلى هذا كان السلف الصالح: فقد روي أن الإمام الأوزاعي لقي الإمام الزاهد العابد إبراهيم بن أدهم (رحمهما الله) وعلي عنقه حزمة حطب، فقال له: يا أبا إسحاق إلى متى هذا؟ إخوانك يكفونك، فقال: “دعني عن هذا يا أبا عمرو، فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة”، كما كان إذا قيل له: كيف أنت؟ قال: “بخير ما لم يتحمَّل مؤنتي غيري”. وما أجمل قول سيدنا لقمان الحكيم لابنه: “يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاث استخفاف الناس به”. (إحياء علوم الدين).

وتدبر معي كيف كان الصحابة (رضي الله عنهم) ينظرون إلى أهل الكسل والخمول، إذ يقول سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): “إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول أله حرفة؟ فإن قالوا لا سقط من عيني”. وعندما دخل المسجد فوجد من يجلس بلا عمل نظر إليه قائلا: “لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة”.

وفى سطور تكتب بماء الذهب، ترى هدي سيدنا الحبيب النبي (صَلى الله عليه وسلم) مع من أهمل وعطل طاقته؛ إذ دعاه أن يستخدم طاقاته في عمارة الكون وإن صغرت، وحيله في الكسب والسعي وإن ضعفت؛ فعن أنس (رضي الله عنه): أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ (صَلى الله عليه وسلم) يسألُه، فقال: ” أما في بيتك شيءٌ؟” قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: “ائتني بهما”، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ (صَلى الله عليه وسلم) بيده، وقالَ: “من يشتري هذين؟” قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: “من يزيدُ على درهمٍ؟” – مرتينِ أو ثلاثاً-، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ: “اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به”، فأتاه به، فشدَّ فيه (صَلى الله عليه وسلم) عوداً بيده، ثم قالَ: “اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً”، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ (صَلى الله عليه وسلم): “هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ” (رواه أبو داود، والترمذي)

أما اليد التي لا تعمل عملا، ولا تزاول حرفة، ولا تصنع تقدما، ولا تسهم في التعمير والبناء هي يد شلاء، والعقل الذي لا يسهم في اختراع وابتكار وتجديد هو عقل أغفل مهمته وفقد رسالته، ولقد روى أن شقيقاً البلخي، ذهب في رحلة تجارية، وقبل سفره ودع صديقه سيدنا إبراهيم بن أدهم (رحمهما الله) حيث توقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم يمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجباً: ما الذي عجّل بعودتك؟ قال شقيق: رأيت في سفري عجباً، فعدلت عن الرحلة، قال له سيدنا إبراهيم بن أدهم: خيراً ماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائراً كسيحاً أعمى، فعجبت وقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لا يبصر ولا يتحرك؟ ولم ألبث إلا قليلاً حتى أقبل طائر آخر يحمل له العظام في اليوم مرات حتى يكتفي. فقلت: إن الذي رزق هذا الطائر في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي، فقال له إبراهيم بن أدهم: عجباً لك يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة غيره، ولم ترض أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه وعلى غيره من العميان والمقعدين؟ أما علمت أن اليد العليا أفضل من اليد السفلى؟ فقام شقيق إلى إبراهيم وقبّل يده، وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق، وعاد إلى تجارته.

فيما يجب أن نعلم أن العمل يؤتي ثمرته على الوجه المطلوب حين يقترن به الإتقان؛ فقد قال سيدنا النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ”.

إن الإسلام دين لا يصادم العمل والكسب والسعي، بل يدعو إليهن ويحث عليه ويعده من الطاعات والعبادات؛ فالإسلام دين يدعو الناس ويحثهم على عمارة دنياهم وأخراهم على السواء، يدعو إلى التوزان بين ما ينفع الناس في معاشهم ومعادهم، فإغفال أحدهما بُعد عن التوازن وشرود، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الجمعة: 9- 10) فكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ”. ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ) يسأل ربه أن يعمر دنياه وأخراه، فما أكثر ما كان يدعو بهذا الدعاء القرآني الكريم: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201)، فحري بنا أن نحقق العبادة على الوجه الأكمل، فنحقق طاعة الله بالعمل والسعي والكسب وعمارة الكون، ونحقق طاعة الله بإقامة الشعائر والتقرب إليه بالطاعات.

اللهم إنا نسألك عملا نافعا، ورزقا واسعا، وعمرا مديدا في طاعتك
ونسألك اللهم أن تحفظ مصر من كل مكروه وسوء

=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى