خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبة الحمعة ، إعلاء قيمة السعي والعمل للدكتور محمد حرز

خطبة الحمعة ، إعلاء قيمة السعي والعمل للدكتور محمد حرز بتاريخ 21 صفر 1447هـ – 15 أغسطس 2025م
خطبة الحمعة word ، إعلاء قيمة السعي والعمل للدكتور محمد حرز
خطبة الحمعة pdf ، إعلاء قيمة السعي والعمل للدكتور محمد حرز
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ ((إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالعَمَلِ)) د. مُحَمَّدٌ حِرْزٌ — بِتَارِيخِ: ٢٢ صَفَر ١٤٤٧هـ / ١٥ أُغُسْطُس ٢٠٢٥م
الحَمْدُ لِلَّهِ القَائِلِ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سَبَأ: 13]، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، القَائِلُ – كَمَا فِي حَدِيثِ المِقْدَامِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ). فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ المُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطْهَارِ الأَخْيَارِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي – أَيُّهَا الأَخْيَارُ – بِتَقْوَى العَزِيزِ الغَفَّارِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحَشْر: 18]
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ: ((إِعْلَاءُ قِيمَةِ السَّعْيِ وَالعَمَلِ)) عُنْوَانُ وِزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:
أَوَّلًا: الإِسْلَامُ دِينُ السَّعْيِ وَالعَمَلِ. ثَانِيًا: البِطَالَةُ وَالتَّسَوُّلُ دَاءٌ عُضَالٌ.
ثَالِثًا: الحَذَرُ الحَذَرُ مِنْ أُجْرَةِ الأَجِيرِ.
رَابِعًا: دِينُنَا دِينُ التَّكَاتُفِ وَالتَّعَاوُنِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: بِدَايَةً، مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ المَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ حَقِّ العَمَلِ وَمَكَانَتِهِ فِي الإِسْلَامِ، وَخَاصَّةً وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِالسَّعْيِ فِي الأَرْضِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ وَالتَّكَسُّبِ وَكَفَايَةِ النَّفْسِ عَنِ الحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [المُلْك: 15]. وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا انْتَشَرَ فِيهِ التَّسَوُّلُ وَمَدُّ الأَيْدِي إِلَى النَّاسِ بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالشَّبَابِ بَلْ وَمِنَ النِّسَاءِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَخَاصَّةً رَأَيْنَا غَسِيلَ الأَمْوَالِ، تِلْكَ الأَمْوَالَ المُحَرَّمَةَ بِسَبَبِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ عَلَى “التِّيكْ تُوكْ”، وَكَيْفَ أَنَّ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ يَسْتَسْهِلُونَ المَالَ المُحَرَّمَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَخَاصَّةً وَأَنَّ دِينَنَا الحَنِيفَ حَثَّنَا وَأَمَرَنَا بِالعَمَلِ وَالسَّعْيِ فِي الأَرْضِ طَلَبًا لِلرِّزْقِ وَطَلَبًا لِلْحَلَالِ، وَطَلَبًا لِعَدَمِ التَّسَوُّلِ، وَحَذَّرَ مِنَ البِطَالَةِ وَخَطَرِهَا عَلَى الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ.
وَمَا نَيْلُ المُطَالِبِ بِالتَّمَنِّي * وَلَكِنْ تُؤْخَذُ الدُّنْيَا غِلَابًا
وَمَا اسْتَعْصَى عَلَى قَوْمٍ مَنَالٌ * إِذَا الإِقْدَامُ كَانَ لَهُمْ رِكَابًا
أَوَّلًا: الإِسْلَامُ دِينُ السَّعْيِ وَالعَمَلِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: الإِسْلَامُ دِينُ العَمَلِ وَالسَّعْيِ وَالاجْتِهَادِ، دِينُ النَّشَاطِ وَالحَيَوِيَّةِ، دِينُ الرِّيَادَةِ وَالعَطَاءِ، دِينُ السَّعْيِ فِي الأَرْضِ بَحْثًا عَنِ الرِّزْقِ وَطَلَبًا لِلْحَلَالِ، وَلَيْسَ دِينَ الكَسَلِ وَالخُمُولِ، قَالَ رَبُّنَا: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التَّوْبَة: 105]. وَالمُسْلِمُ مَا خُلِقَ لِيَكُونَ عَالَةً، وَلَا لِيَكُونَ نَكِرَةً فِي الحَيَاةِ، وَلَا لِيَكُونَ عَطَّالًا بَطَّالًا، بَلْ خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ وَالعَمَلِ، خُلِقَ لِلإِنْتَاجِ وَالإِنْجَازِ، قَالَ اللهُ فِي حَقِّ المُسْلِمِ: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ﴾ [فُصِّلَت: 33]. المُسْلِمُ هُوَ العَابِدُ فِي مَسْجِدِهِ، وَالتَّاجِرُ فِي سُوقِهِ، وَالبَنَّاءُ فِي أَرْضِهِ، وَالمُزَارِعُ فِي بُسْتَانِهِ، يَمْلَأُ الأَرْضَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَعِمَارَةً لِأَرْضِ اللَّهِ، فَهُوَ كَالغَيْثِ حَيْثُمَا وَقَعَ نَفَعَ، يَعْمَلُ لآخِرَتِهِ كَأَنَّهُ سَيَمُوتُ غَدًا، وَيَعْمَلُ لِدُنْيَاهُ كَأَنَّهُ يَعِيشُ أَبَدًا، وَالعَمَلُ شَرَفٌ، وَالعَمَلُ سِرُّ البَقَاءِ، وَرُوحُ النَّمَاءِ، وَأَسَاسُ البِنَاءِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [المُلْك: 15]. وَالعَمَلُ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ خَلْقِ الإِنْسَانِ، وَغَايَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الغَايَاتِ لِبَقَائِنَا، وَهَدَفٌ مِنْ أَعْظَمِ الأَهْدَافِ لِوُجُودِنَا فِي أَرْضِنَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هُود: 61]وَالْعَمَلُ فِعْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَسُلُوكُ النُّبَلَاءِ، وَمَنْهَجُ الشُّرَفَاءِ، لِذَا قَالَ اللهُ مَادِحًا الْعَمَلَ وَالْعُمَّالَ فِيمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْ دَاوُودَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ (الْأَنْبِيَاء: 80)، وَمَدَحَهُ النَّبِيُّ الْعَدْنَانُ ﷺ فَقَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْعَمَلُ فِي الدُّنْيَا عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ، لِذَا أَمَرَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ، وَمَدَحَهُمْ بِهِ فَقَالَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ (ص: 45). بَلْ إِنَّ لِلْعَمَلِ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا كَبِيرًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ (آل عِمْرَان: 136). وَالْعَمَلُ فِي الْإِسْلَامِ لَهُ مَكَانَةٌ كَبِيرَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، وَكَيْفَ لَا؟ وَبِهِ يُنَالُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ، وَهُوَ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ لِلهِ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ، وَعَنْ طَرِيقِهِ تَقُومُ الْحَيَاةُ، وَتَعْمُرُ الدِّيَارُ، وَتَزْدَهِرُ الْأَوْطَانُ، وَيَحْدُثُ الِاسْتِقْرَارُ. أَمَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الْجُمُعَة: 10). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَاعَ وَاشْتَرَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بَارَكَ اللهُ لَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ (النَّبَأ: 11). وَكَيْفَ لَا؟ وَالْإِسْلَامُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظْرَةَ احْتِرَامٍ وَتَكْرِيمٍ وَإِجْلَالٍ، لِذَا قَرَنَ اللهُ الْعَمَلَ بِالْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ (الْمُزَّمِّل: 20). وَكَيْفَ لَا؟ وَالْإِسْلَامُ اعْتَبَرَ الْعَمَلَ جِهَادًا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَأَوْا شَابًّا قَوِيًّا يُسْرِعُ إِلَى عَمَلِهِ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ فَرَأَى أَصْحَابُهُ مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وُلْدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ». وَكَيْفَ لَا؟ وَاللهُ جَعَلَ الْعَمَلَ سُنَّةَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، بِالرَّغْمِ مِنِ انْشِغَالِهِمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ (الْفُرْقَان: 20). يَقُولُ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَيْ يَبْتَغُونَ الْمَعَايِشَ فِي الدُّنْيَا… وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي تَنَاوُلِ الْأَسْبَابِ وَطَلَبِ الْمَعَاشِ بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لِذَا عَمِلَ آدَمُ بِالزِّرَاعَةِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بَزَّازًا، وَنُوحٌ نَجَّارًا، وَكَذَا زَكَرِيَّا، وَكَانَ لُقْمَانُ خَيَّاطًا، وَكَذَا إِدْرِيسُ، وَكَانَ مُوسَى رَاعِيًا. وَقَدْ أَخْبَرَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِرَعْيِ الْأَغْنَامِ، حَيْثُ يَقُولُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ». فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ». كَمَا كَانَ ﷺ يَخْرُجُ إِلَى الشَّامِ لِلاتِّجَارِ بِمَالِ خَدِيجَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ». وَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَوْمًا: دُلَّنِي عَلَى عَمَلِ الْأَبْطَالِ؟ فَقَالَ:ـ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم– إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ )) وَالْعَمَلُ فِعْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَسُلُوكُ النُّبَلَاءِ، وَمَنْهَجُ الشُّرَفَاءِ، لِذَا قَالَ اللهُ مَادِحًا الْعَمَلَ وَالْعُمَّالَ فِيمَا حَكَى الْقُرْآنُ عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ (الأنبياء: 80). وَمَدَحَهُ النَّبِيُّ الْعَدْنَانُ ﷺ فَقَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» (رواه البخاري). وَالْعَمَلُ فِي الدُّنْيَا عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ، لِذَا أَمَرَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ، وَمَدَحَهُمْ بِهِ فَقَالَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ (ص: 45). بَلْ إِنَّ لِلْعَمَلِ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا كَبِيرًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ (آل عمران: 136). وَالْعَمَلُ فِي الْإِسْلَامِ لَهُ مَكَانَةٌ كَبِيرَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، وَكَيْفَ لَا؟ وَبِهِ يُنَالُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ، وَهُوَ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ لِلَّهِ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ، وَعَنْ طَرِيقِهِ تَقُومُ الْحَيَاةُ، وَتَعْمُرُ الدِّيَارُ، وَتَزْدَهِرُ الْأَوْطَانُ، وَيَحْدُثُ الِاسْتِقْرَارُ. أَمَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة: 10). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: “مَنْ بَاعَ وَاشْتَرَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بَارَكَ اللهُ لَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً”. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ (النبأ: 11). وَكَيْفَ لَا؟ وَالْإِسْلَامُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظْرَةَ احْتِرَامٍ وَتَكْرِيمٍ وَإِجْلَالٍ، لِذَا قَرَنَ اللهُ الْعَمَلَ بِالْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (المزمل: 20). وَكَيْفَ لَا؟ وَالْإِسْلَامُ اعْتَبَرَ الْعَمَلَ جِهَادًا؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَأَوْا شَابًّا قَوِيًّا يُسْرِعُ إِلَى عَمَلِهِ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فَقَالَ: «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وُلْدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ»قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، وكَيْفَ لَا؟ وَالْعَمَلُ عِبَادَةٌ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الْعِبَادَةِ. وَهَذَا هُوَ أُسْوَتُنَا وَقُدْوَتُنَا، أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ عِبَادَتَهُ وَعَمَلَهُ وَتِجَارَتَهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَتَاجَرَ ﷺ فِي مَالِ خَدِيجَةَ فَكَانَ خَيْرَ التَّاجِرِ الْأَمِينِ، وَخَيْرَ الصَّادِقِ، وَخَيْرَ مَنْ أَتْقَنَ فِي عَمَلِهِ. فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى الْإِتْقَانِ اقْتِدَاءً بِحَبِيبِنَا الْمُصْطَفَى الْعَدْنَانِ ﷺ.
ثَانِيًا: الْبِطَالَةُ وَالتَّسَوُّلُ دَاءٌ عُضَالٌ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: الْبِطَالَةُ دَاءٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ، وَوَبَاءٌ خُلُقِيٌّ كَبِيرٌ، مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلَّا كَانَ نَذِيرًا لِهَلَاكِهَا، وَمَا دَبَّ فِي أُسْرَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبًا لِفَنَائِهَا، فَهُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ عَدَاءٍ، وَيَنْبُوعٌ لِكُلِّ شَرٍّ وَتَعَاسَةٍ. وَالتَّسَوُّلُ آفَةٌ مِنْ آفَاتِ الْإِنْسَانِ، مَدْخَلٌ كَبِيرٌ لِلشَّيْطَانِ، مُدَمِّرٌ لِلْقَلْبِ وَالْأَرْكَانِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ وَالْإِخْوَةِ، يَحْرِمُ صَاحِبَهُ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَيُدْخِلُهُ النِّيرَانَ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ الْجِنَانِ، فَالْبُعْدُ عَنْهُ خَيْرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. وَالْبِطَالَةُ ظَاهِرَةٌ سَلْبِيَّةٌ مُدَمِّرَةٌ لِلْأَفْرَادِ وَالدُّوَلِ، وَالتَّسَوُّلُ دَاءٌ يَقْتُلُ الطُّمُوحَ، وَيُدَمِّرُ قِيَمَ الْمُجْتَمَعِ، وَيُعَدُّ خَطَرًا مُبَاشِرًا عَلَى الْوَطَنِ، وَيَقِفُ عَقَبَةً فِي سُبُلِ الْبِنَاءِ وَالتَّنْمِيَةِ، يُبَدِّدُ الْمَوَارِدَ، وَيُهْدِرُ الطَّاقَاتِ. لِذَا حَارَبَ الْإِسْلَامُ الْبِطَالَةَ وَالْكَسَلَ وَالتَّسَوُّلَ، وَدَعَا إِلَى الْإِنْتَاجِ وَالْعَمَلِ، وَأَبَى الْإِسْلَامُ أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُهُ عَالَةً عَلَى النَّاسِ يَتَسَوَّلُونَ خُبْزَ طَعَامِهِمْ وَمَلَابِسَ لِسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَيَنْتَظِرُونَ سَلَّةَ إِغَاثَتِهِمْ، بَلْ وَرَفَضَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ مَكْسُورَ الْجَنَاحِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ غَيْرُهُ، وَيَنْتَظِرُ الْمَعُونَةَ مِنْ هُنَا وَهُنَاكَ. فَهَا هُوَ سَيِّدُ الْعَامِلِينَ مُحَمَّدٌ ﷺ يَأْبَى أَنْ يُعْطِيَ شَابًّا مُتَسَوِّلًا شَيْئًا، بَلْ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا»، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ). لِذَا نَجِدُهُ ﷺ يَدْعُو إِلَى الْعَمَلِ وَالِاحْتِرَافِ خَيْرًا مِنَ الْمَسْأَلَةِ، فَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةٍ مِنَ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ: أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» (الْبُخَارِيُّ). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا قِلَّةً» (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ)، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَا فَتَحَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ». وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). أَمَّا عِقَابُ الْمُتَسَوِّلِ بَعْدَ الْحِسَابِ فَهُوَ الْجَمْرُ، نَعُوذُ بِاللهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). فَالْيَدُ السُّفْلَى ـ وَهِيَ يَدُ السُّؤَالِ ـ قَدْ كَثُرَتْ فِي أَوْطَانِنَا، لِذَا يَجِبُ تَحْفِيزُهَا لِتَكُونَ عُلْيَا بِالْعَطَاءِ وَالْعَرَقِ وَالْعَمَلِ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَطَالِبُ الْعَفَافِ مِنْ رَبِّهِ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ سَيُغْنِيهِ اللهُ بِيَقِينِهِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
لَحَمْلِي الصَّخْرَ مِنْ قِمَمِ الْجِبَالِ **** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَنَنِ الرِّجَالِ
يَقُولُ النَّاسُ فِي الْكسبِ عَارٌ * ****فَقُلْتُ الْعَارُ فِي ذُلِّ السُّؤَالِ
ثالثًا: الحَذَرُ الحَذَرُ مِن أُجْرَةِ الأَجِيرِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: إِيَّاكُمْ وَالطَّمَعَ فِي أُجْرَةِ الأَجِيرِ، فَالطَّمَعُ خِزْيٌ وَعَارٌ وَهَلَاكٌ وَدَمَارٌ، فَعَدَمُ إِعْطَاءِ الأَجِيرِ أَجْرَهُ مُصِيبَةٌ كُبْرَى وَبَلِيَّةٌ عُظْمَى انْتَشَرَتْ فِي المُجْتَمَعَاتِ بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ، يَعْمَلُ المِسْكِينُ لَيْلَ نَهَارَ، وَيُهْضَمُ حَقُّهُ وَيُؤْكَلُ أَجْرُهُ، وَلَا يَتَّقِي اللهَ وَلَا يَخَافُ مِنَ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. وَكَيْفَ لَا؟ وَاللهُ يَقُولُ: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 85]. وَيَقُولُ النَّبِيُّ العَدْنَانُ ﷺ: «أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» [ابن ماجه]. بَلْ مِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ عَدَمُ إِعْطَاءِ الأَجِيرِ حَقَّهُ، الَّذِي يَعْمَلُ عِنْدَكَ بِالأَجْرِ وَلَا تُعْطِيهِ أَجْرَتَهُ، هَذَا ظُلْمٌ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ المُخْتَارُ ﷺ: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ العَمَلَ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» [رواه البخاري]. بَلْ يَجِبُ عَدَمُ تَكْلِيفِهِ فَوْقَ طَاقَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ ﷺ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» [متفق عليه]. فَاللهَ اللهَ فِي العَمَلِ، اللهَ اللهَ فِي السَّعْيِ وَالاجْتِهَادِ، اللهَ اللهَ فِي رِفْعَةِ الأَوْطَانِ بِالعَمَلِ وَالجِدِّ، اللهَ اللهَ فِي إِتْقَانِ العَمَلِ، اللهَ اللهَ فِي عَدَمِ أَكْلِ أُجُورِ النَّاسِ، اللهَ اللهَ فِي الحَلَالِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الحَمْدُ للهِ، وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِاسْمِ اللهِ، وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ:
رابعًا: دِينُنَا دِينُ التَّكَاتُفِ وَالتَّعَاوُنِ
أَيُّهَا السَّادَةُ: حَدَّدَتْ وِزَارَةُ الأَوْقَافِ أَنْ تَكُونَ الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ التَّكَاتُفِ المُجْتَمَعِيِّ، وَلِمَ لَا؟ وَدِينُنَا دِينُ التَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ وَالمَحَبَّةِ وَالأُخُوَّةِ وَالتَّكَاتُفِ، وَنَبِيُّنَا ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا كُلَّهَا التَّكَافُلَ وَالتَّعَاوُنَ، وَكَيْفَ لَا؟ وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ أَنَّهُ يُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، أَيْ يُسَاعِدُ النَّاسَ فِي الأَزَمَاتِ وَالنَّكَبَاتِ. فَلَقَدْ قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عِنْدَمَا رَجَعَ إِلَيْهَا مِنْ غَارِ حِرَاءٍ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ: «كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ». وَالتَّكَافُلُ المُجْتَمَعِيُّ بَيْنَ المُسْلِمِينَ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَفِي الأَزَمَاتِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، وَاجِبُ الوَقْتِ، فَهُوَ مَطْلَبٌ رَبَّانِيٌّ، وَمَنْهَجٌ إِيمَانِيٌّ، وَوَاجِبٌ وَطَنِيٌّ، وَعَمَلٌ إِنْسَانِيٌّ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ مُجْتَمَعِيَّةٌ، وَمَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ الغَرَّاءِ، أَمَرَنَا بِهِ المَوْلَى جَلَّ وَعَلَا فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ، حَيْثُ قَالَ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]. فَالتَّكَافُلُ وَالتَّعَاوُنُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ فَضْلٌ كَبِيرٌ وَشَرَفٌ عَظِيمٌ، وَكَيْفَ لَا؟ وَالتَّكَافُلُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الِاجْتِمَاعِ وَتَآلُفِ القُلُوبِ وَنَبْذِ الفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آلِ عِمْرَان: 103]. فَفِي التَّعَاوُنِ يُحَقِّقُ المُجْتَمَعُ مَصَالِحَهُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ، وَمِنْ أَهَمِّ سِمَاتِ المُجْتَمَعَاتِ الرَّاقِيَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَرَابِطَةً مُتَمَاسِكَةً فِي بُنْيَانِهَا، يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَصَدَقَ النَّبِيُّ ﷺ إِذْ يَقُولُ – كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ – مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى». وَفِي الشَّدَائِدِ تَظْهَرُ مَعَادِنُ الرِّجَالِ، فَفِي صَحِيحِ البُخَارِي وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ. وَلِلَّهِ دَرُّ القَائِلِ:
إنَّ الرِّجَالَ وَإِنْ قَلَّتْ مَعَادِنُهَا ذَهَبًا **** عِنْدَ الشَّدَائِدِ تَطْلُبُهَا فِي الحَالِ
تَلْقَاهَا تَحْمِلُ إِلَيْكَ الخَيْرَ أَيْنَمَا رَحَلَتْ *** وَتَذُودُ عَنْكَ صِعَابًا كُنْتَ تَخْشَاهَا
وَكَيْفَ لَا؟ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَمَنْ أَعَانَ أَخَاهُ أَعَانَهُ اللهُ، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ اللهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» [صحيح ابن حبان]. وَكَيْفَ لَا؟ وَلَقَدْ ضَرَبَ لَنَا الصَّحَابَةُ الأَطْهَارُ الأَخْيَارُ ـ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ ـ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي التَّكَافُلِ الْمُجْتَمَعِيِّ، فَهَذَا هُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ فِي الأُمَّةِ بَعْدَ سَيِّدِهَا ﷺ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟»، فَقُلْتُ: مِثْلَهُ. وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟»، قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا [أخرجه أبو داود]. فَاللهَ اللهَ فِي التَّكَافُلِ، اللهَ اللهَ فِي التَّكَاتُفِ، اللهَ اللهَ فِي التَّعَاوُنِ، اللهَ اللهَ فِي الْمَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ وَالأُخُوَّةِ.
حَفِظَ اللهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَشَرِّ الْفَاسِدِينَ، وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ
. كتبه العبدُ الفقيرُ إلى عفو ربِّه د/ مُحَمَّد حِرْز إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الأَوْقَافِ