خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة : لله درك يا ابن عباس (تنشر لأول مرة) للدكتور مسعد الشايب

((لله درك يا ابن عباس)) (تنشر لأول مرة) للدكتور مسعد الشايب الجمعة 16من المحرم 1447هـ الموافقة 11 من يوليه 2025م

===========================================

خطبة الجمعة : ((لله درك يا ابن عباس)) (تنشر لأول مرة) للدكتور مسعد الشايب

خطبة الجمعة pdf : ((لله درك يا ابن عباس)) (تنشر لأول مرة) للدكتور مسعد الشايب

أولا: العناصر:

  1. مقدمة، ونبذة عن سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما).
  2. من مناقب وفضائل سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما).
  3. ما نتعلمه من سيرة سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما).
  4. الخطبة الثانية: (درس أخر من سيرة سيدنا ابن عباس).

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وقائد الغرّ المحجّلين، صلاة وسلاما عليك يا سيدى يا رسول الله، وعلى آلك، وأصحابك، وأتباعك، وأحبابك، إلى يوم الدين، وبعد:

===========================================

(1) (مقدمة، ونبذة عن ابن عباس (رضي الله عنهما))

===========================================

أيها الأحبة الكرام: من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن صحابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول، أي: لا يتعمدون الكذب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمرؤءة، وسمو الأخلاق، والترفع عن سفاسف الأمور، فالذي عدلهم، وزكاهم، وامتدحهم، ورضي عنهم هو الحق سبحانه وتعالى في عليائه، وصدق الله إذ يقول: ﵟوَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُﵞ [التوبة:100]، وقال سبحانه وتعالى: ﵟلَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗاﵞ [الفتح:18].

===

فيحرم على المؤمن الموحد أن يبحث عن أحوالهم، مجرحًا لهم، بل يبحث مقتديًا بهم، متأسيًا بهديهم، مفتشًا عن مناقبهم، وفضائلهم، ومن هولاء الصحابة الأعلام الذين بلغ عددهم (124000) أربعًا وعشرين، ومائة ألف صحابي، سيدنا عبد الله بن عباس، البحر، حبر الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنه، وعنه أبيه.

===

اسمه، ونسبه: هو سيدنا عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمه السيدة الفاضلة: لبابة بنت الحارث (رضي الله عنها)، أخت السيدة ميمونة بنت الحارث (رضي الله عنها) زوج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يفسر لنا مبيته عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

===

مولده: ولد سيدنا ابن عباس (رضي الله عنه) قبل الهجرة بثلاث سنوات، والنبي صلى الله عليه وسلم، وأهله من بني هاشم وبني المطلب، وأصحابه محاصرون في شعب أبي طالب، فحنكه النبي صلى الله عليه وسلم بريقه، وضمه إلى صدره.

===

هجرته إلى المدينة: هاجر مع أبويه إلى المدينة في العام الثامن الهجري، بعد فتح مكة، وفي ذلك يقول (رضي الله عنه): (‌كُنْتُ ‌أَنَا ‌وَأُمِّي ‌مِنَ ‌الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ) (رواه البخاري).

===========================================

(2) (من مناقب، وفضائل ابن عباس (رضي الله عنهما))

===========================================

مناقبه، وفضائله: تميز سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) بمناقب، وفضائل متعددة، بعضها من صنعه، واكتسابه تعود إليه، وبعضها ببركة صحبته وقربه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها:

===

1ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، فقد ضمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، ودعا له قائلا: (اللَّهُمَّ ‌عَلِّمْهُ الْكِتَابَ) (متفق عليه)، أي: حفظه، والتفهم فيه. وفي رواية: (‌اللَّهُمَّ ‌عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ) (متفق عليه)، أي: القرآن والسنة. وفي رواية: (دَعَا لَهُ أَنْ يَزِيدَهُ اللَّهُ ‌فَهْمًا ‌وَعِلْمًا) (المستدرك للحاكم). وفي رواية: (اللهُمَّ ‌فَقِّهْهُ ‌فِي ‌الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) (مسند أحمد).

وقد ظهرت عليه بركات هذه الدَّعوات فاشتهرت علومه وفضائله، وعمَّت خيراته وفواضله، فارتحل طلاب العلم إليه، وازدحموا عليه، ورجعوا عند اختلافهم لقوله، وعوَّلوا على نظره ورأيه، وصار أعلم الصحابة بتفسير كتاب الله، وشهد له بذلك أكابر الصحابة، فقال ابن مسعود (رضي الله عنه): (نِعْمَ، ‌تُرْجُمَانُ ‌الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ) (المستدرك للحاكم)، وقال ابن عمر (رضي الله عنه): (‌هو ‌أعلم الناس بما أنزل الله ‌على ‌محمد) (فتح الباري)، وكان إليه المنتهى في علم التفسير كما يقول الإمام السيوطي (رحمه الله) في كتابه: (مشتهى العقول).

===

2ـ رؤيته جبريل (عليه السلام) على هيئته التي خلقه الله (عزّ وجلّ) عليها مرتين، مع خفائه عن أعين الصحابة (رضي الله عنهم)، فعن ابْنَ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ، فَكَانَ ‌كَالْمُعْرِضِ ‌عَنْ ‌أَبِي، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ لِي أَبِي: أَيْ بُنَيَّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِّي؟ فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ. قَالَ: فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبِي: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتُ لِعَبْدِ اللهِ: كَذَا وَكَذَا، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَكَ رَجُلٌ يُنَاجِيكَ، فَهَلْ كَانَ عِنْدَكَ أَحَدٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَهَلْ رَأَيْتَهُ يَا عَبْدَ اللهِ؟). قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فَإِنَّ ذَاكَ جِبْرِيلُ، وَهُوَ الَّذِي شَغَلَنِي عَنْكَ) (مسند أحمد). وفي رواية: (ذَاكَ جِبْرِيلُ أَمَا إِنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَذْهَبَ بَصَرُهُ، ‌وَيُؤْتَى ‌عِلْمًا) (المعجم الأوسط). فتحققت نبؤة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن عباس، فصار أعلم أهل زمانه، ومات كفيف البصر كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم.

===

3ـ روايته الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فسيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) خامس السبعة المكثرين من رواية الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه: (1660) ستين، وستمائة، وألف حديثٍ بالرغم أنه لم يتلق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد هجرته إلى المدينة، فلم تتجاوز فترة تلقيه ثلاث سنوات، وبعضهم يجعلها ثلاثين شهرًا قبل أن ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم.

===

4ـ تقدير الخلفاء الراشدين له، فقد ولي القضاء لسيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكان يرجع إليه في معضلات المسائل كما سنرى، وكان مستشارًا له، وأمرّه سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) على موسم الحج؛ لما حوصر في المدينة، وولاه سيدنا علي بن أبي طالب قضاء البصرة، وأرسله لحدال الخوارج كما سنرى. ومناقبه وفضائله، أكثر من أن تحصى وتعد، فقد فاضت به الكتب والمجلدات، ولكن ينبغي علينا في تلك العجالة السريعة؛ أن نتعلم من سيرته العطرة بعض الأمور الضرورية التي تنير لنا دروب العلم والحياة، وأولها:

===========================================

(3) (ما نتعلمه من سيرة سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما))

===========================================

1ـ الجلد، والصبر، وعلو الهمة في طلب العلم: فسيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما) لم يبلغ تلك المنزلة العالية، والمكانة السامية من العلم، وعند الخلفاء الراشدين إلا بجده واجتهاده وبنائه لنفسه وذاته، وصناعته لعقله، فقد كان يسعى إلى العلم، ويكابد في سبيل نيله وتحصيله، ولا يتكبر على شيوخه، ولم يتكل على دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) له: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) (مسند أحمد)، وفقط، انظروا إليه، وهو يقول: (لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَا فُلَانُ هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ). فقال: واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) مًنْ ترى؟. قال ابن عباس: (فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ، وَهُوَ قَائِلٌ (نائم وقت الظهيرة)، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيحُ (تثير وتلقي) عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ، فَيَخْرُجُ، فَيَرَانِي). فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: (لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ). قَالَ: (فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ). فقال: كان هذا الفتى أعقل مني. (سنن الدارمي).

===

هذا هو الذي بلغ بسيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما) تلك المنزلة من العلم، التي جعلت سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يجلسه في مجلسه، ويدخله مع كبار الصحابة (رضي الله عنهم) من أشياخ بدرً وغيرهم، وجعله يسأله ويرجع إليه في أشياء خفيت على كبار الصحابة (رضي الله عنهم)، ولذلك كان يلقب بفتى الكهول، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما): (كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ ‌وَجَدَ ‌فِي ‌نَفْسِهِ). فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: (إِنَّهُ مَنْ حيث عَلِمْتُمْ(. فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، (فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ). قَالَ: (مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]). فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا نَحْمَدُ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرُهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: (أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟). فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: (فَمَا تَقُولُ؟). قُلْتُ: (هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]. فَقَالَ عُمَرُ: (مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ) (رواه البخاري)، وتلك القصة تعلمنا أيضًا: الجرأة في عرض الرأي العلمي، وعدم الرهبة من الكبار، وما كان عليه سيدنا عمر من الفقه، والاعتراف بالفضل لأهل الفضل، ومكانة العلم ومنزلته، ومن سيرة سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما)، نتعلم أيضًا:

===

2ـ التصدي للمعضلات، وتحدي الأمم الأخرى، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، أَنَّ هِرَقْلَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَقَالَ: إِنْ كَانَ بَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ فَسَيُخْبِرُنِي عَمَّا أَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْمَجَرَّةِ، وَالْقَوْسِ، وَعَنِ الْبُقْعَةِ الَّتِي ‌لَمْ ‌تُصِبْهَا ‌الشَّمْسُ ‌إِلَّا ‌سَاعَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَلَمَّا أَتَى مُعَاوِيَةَ الْكِتَابُ وَالرَّسُولُ قَالَ: (إِنَّ هَذَا لِشَيْءٌ مَا كُنْتُ أُرَاهُ أَنْ أُسْأَلَ عَنْهُ إِلَى يَوْمِي هَذَا، مَنْ لِهَذَا؟). قِيلَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، فَطَوَى مُعَاوِيَةُ كِتَابَ هِرَقْلَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: (إِنَّ الْقَوْسَ أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمَجَرَّةَ بَابُ السَّمَاءِ الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ، وَأَمَّا الْبُقْعَةُ الَّتِي ‌لَمْ ‌تُصِبْهَا ‌الشَّمْسُ ‌إِلَّا ‌سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَالْبَحْرُ الَّذِي أُفْرِجَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ).

عباد الله أقول قولي هذا، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب………..

===========================================

(الخطبة الثانية)

(درس أخر من سيرة سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما))

===========================================

الحمد لله ربّ العالمين، أعد لمن أطاعه جنات النعيم، وسعر لمن عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أحبتي في الله: ما زلنا مع سيرة سيدنا عبد الله بن عباس، (رضي الله عنهما)، ومنها نتعلم:

===

3ـ القدرة على المحاورة، وإفحام الخصوم، وعمق الاستدلال بآيات القرآن الكريم، ووضع الرجل المناسب في المكان الناسب: فعن ابن عباس (رضي الله عنهما)، قال: (لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ ((بفتح الحاء) نسبة إلى (حروراء)، وهو موضع قريب من الكوفة كان أول مكان اجتمعوا فيه، و(خروجهم): هو انتقاضهم ما فعله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ (أخرها عن أول وقتها حتى يصير للجدران ظل، وهذا يدل على أن تلك المناظرة كانت في فصل الصيف، وشدة الحر)، لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ). قال: (إِنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ). قلت: (كَلَّا، فَلَبِسْتُ، وَتَرَجَّلْتُ ((وَتَرَجَّلْتُ): إما المراد به: صار إليهم ماشيًا على قدميه، أو سرح شعره ورجلّه، ويدل على الثاني وعلى أخذ ابن عباس للزينة عمومًا، قوله (رضي الله عنه): (فَلَبِسْتُ أحسَنَ ما يكونَ مِن حُلَلِ اليَمَنِ) (رواه أبو داود))، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ نِصْفِ النَّهَارِ، وَهُمْ يَأْكُلُونَ). فَقَالُوا: (مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَمَا جَاءَ بِكَ؟). قلت لهم: (أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَمِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِهْرِهِ، وَعَلَيْهِمْ نُزِّلَ الْقُرْآنُ، فَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، لَأُبَلِّغَكُمْ مَا يَقُولُونَ، وَأُبَلِّغَهُمْ مَا تَقُولُونَ، فَانتَحَى لِي نَفَرٌ مِنْهُمْ)، أي: تصدوا للجواب، والرد عليه.

قلت: (هَاتُوا مَا نَقِمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم وَابْنِ عَمِّهِ). قالوا: (ثَلَاثٌ). قلت: (مَا هُنَّ؟). قال: (أَمَّا إِحْدَاهُنَّ: فَإِنَّهُ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي أَمْرِ اللهِ، وَقَالَ اللهُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، مَا شَأْنُ الرِّجَالِ وَالْحُكْمِ؟). قلت: (هَذِهِ وَاحِدَةٌ). قالوا: (وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَإِنَّهُ قَاتَلَ، وَلَمْ يَسْبِ، وَلَمْ يَغْنَمْ، إِنْ كَانُوا كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّ سِبَاهُمْ، وَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ سِبَاهُمْ وَلَا قِتَالُهُمْ). قلت: (هَذِهِ ثِنْتَانِ، فَمَا الثَّالِثَةُ؟). وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا قَالُوا: (مَحَى نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (أي: أميرًا للمؤمنين من كتاب الصلح الذي جرى بينه وبين معاوية (رضي الله عنه))، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ). قلت: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟). قالوا: (حَسْبُنَا هَذَا). قلت لَهُمْ: (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ (جَلَّ ثَنَاؤُهُ) وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ أَتَرْجِعُونَ؟). قالوا: (نَعَمْ). قلت: (أَمَّا قَوْلُكُمْ: حُكْمُ الرِّجَالِ فِي أَمْرِ اللهِ، فَإِنِّي أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِ اللهِ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللهُ حُكْمَهُ إِلَى الرِّجَالِ فِي ثَمَنِ رُبْعِ دِرْهَمٍ، فَأَمَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَحْكُمُوا فِيهِ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}[المائدة:95] وَكَانَ مِنْ حُكْمِ اللهِ أَنَّهُ صَيَّرَهُ إِلَى الرِّجَالِ يَحْكُمُونَ فِيهِ، وَلَوْ شَاءَ لحكم فِيهِ، فَجَازَ مِنْ حُكْمِ الرِّجَالِ، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيِّنِ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ أَفْضَلُ أَوْ فِي أَرْنَبٍ؟). قالوا: (بَلَى، هَذَا أَفْضَلُ). (وَفِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}[النساء:35]، فَنَشَدْتُكُمْ بِاللهِ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي صَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ أَفْضَلُ مِنْ حُكْمِهِمْ فِي بُضْعِ امْرَأَةٍ؟ خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟). قالوا: (نَعَمْ). قلت: (وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ، وَلَمْ يَغْنَمْ، أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ أُمُّكُمْ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْهَا مَا نَسْتَحِلُّ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ بِأُمِّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}[الأحزاب:6]، فَأَنْتُمْ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، فَأْتُوا مِنْهَا بِمَخْرَجٍ، أَفَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟). قَالُوا: (نَعَمْ). قال: (وَأَمَّا مَحْيُ نَفْسِهِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا آتِيكُمْ بِمَا تَرْضَوْنَ. إن نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لِعَلِيٍّ: (اكْتُبْ يَا عَلِيُّ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولَ اللهِ). قالوا: (لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا قَاتَلْنَاكَ). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امْحُ يَا عَلِيُّ اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، امْحُ يَا عَلِيُّ، وَاكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ). وَاللهِ لَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَحَى نَفْسَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُهُ نَفْسَهُ ذَلِكَ مَحَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، أَخْرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟). قالوا: (نَعَمْ). فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَخَرَجَ سَائِرُهُمْ، فَقُتِلُوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، فَقَتَلَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. (رواها النسائي في السنن الكبرى، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، وغيرهم، وقال الحافظ الذهبي هو على شرط الإمام مسلم)، ومن هذه المحاورة نتعلم الآتي:

===

1ـ ما كان عليه سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما) من فقه عظيم، وعلم راسخ متين في كتاب الله (عزّ وجلّ)، وذلك بفضل دعوة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) له: (اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) (مسند أحمد).

===

2ـ خوف الحكام على العلماء الراسخين في العلم، وهذا مستفاد من قول سيدنا على (رضي الله عنه) لسيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما): (إِنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ).

===

3ـ دور العلماء الراسخين، في البيان والردّ على الشبهات والأباطيل الخاصة بالفرق المارقة عن جماعة المسلمين، ودورهم في تهدئة الأمور الساخنة، وخاصة السياسية.

===

4ـ لاقتال للبغاة والعصاة والخارجين على الإمام؛ إلا بعد الإيضاح لهم خطأ ما ذهبوا إليه، كما فعل سيدنا علي (رضي الله عنهم)، فلم يقاتلهم إلا بعد مناظرة ابن عباس (رضي الله عنهما) لهم.

===

5ـ من أوصاف الخوارج في كل زمان ومكان، التمسك بظاهر النصوص، وعدم الفقه لدين الله، فقد كان أول شيء نقموه على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قبول التحكيم يوم موقعة صفين بين سيدنا علي وسيدنا معاوية (رضي الله عنهما) مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}[الأنعام:57]، قائلين: مَا شَأْنُ الرِّجَالِ وَالْحُكْمِ؟.

===

6ـ من أوصاف الخوارج أيضًا التشدد والغلو في الطاعة والعبادة، ففي إحدى الروايات يقول ابن عباس (رضي الله عنهما): (وَأَتَيْتُ قَوْمًا لَمْ أَرَ قَوْمًا قط أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُم , مُسَهَّمَةً (متغيرة) وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ, كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ وَرُكَبَهُمْ ثَفِنٌ (أي: غلظ جلدها وأسود من كثرة سجودهم عليها), عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ (مغسولة) (السنن الكبرى).

===

7ـ كثير من أتباع الفرق المارقة مخدعون ومغرر بهم لا يعلمون شيئًا، ولا يفقهون أمرًا، ففي إحدى الروايات: أن عدد الخوارج كان (24) أربعة وعشرين ألفًا، وبعد أن ناظرهم ابن عباس (رضي الله عنهما)، رجع منهم إلى الصواب ومتابعة الجماعة عشرون ألفًا. (مصنف عبد الرزاق والمعجم للطبراني).

===

8ـ أول خلاف في الإسلام كان خلافًا سياسيًا على الحكم، حينما نازع سيدنا معاوية (رضي الله عنه) سيدنا عليًا (رضي الله عنه) الحكم، واستقل بحكم الشام، ظانًا منه أنه قد نستر على قتلة سيدنا عثمان (رضي الله عنه).

===

9ـ الخوارج هي أول فرقة من الفرق الإسلامية تنشأ في الإسلام، وسمّوا بذلك لخروجهم على الإمام علي (رضي الله عنه).

===========================================

فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به عاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

فاللهمّ ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى