أخبار الصحةخطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة القادمة pdf ، للدكتور مسعد الشايب : (ونغرس فيأكل من بعدنا)

خطبة الجمعة 2 مايو 2025م pdf ، للدكتور مسعد الشايب : (ونغرس فيأكل من بعدنا) الجمعة 4 من ذي القعدة 1446هـ الموافقة 2/5/2021م

===========================================
أولا: العناصر:
1. دعوة الإسلام للعمل، وبيان شيء من مكانته.
2. دعوة القرآن الكريم لإتقان العمل وإحكامه.
3. دعوة السنة النبوية لإتقان العمل وإحكامه.
4. الخطبة الثانية: (إتقان الصنائع والحرف والمهن سبيل الأمم المتقدمة).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للعاملين، ولا عدوان إلا على الظالمين المتقاعسين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، القائل في كتابه العزير: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صادق الوعد الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
===========================================
(1) دعوةُ الإسلام للعمل، وبيانُ شيء من مكانته:
===========================================
أيها الأحبة الكرام: سئل الإمام أحمد (رضي الله عنه) عن رجل جلس في بيته أو في مسجده وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال (رضي الله عنه): هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي) (رواه البخاري)، وقوله (صلى الله عليه وسلم) حين ذكر الطير: (تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) (رواه الترمذي)؟!، فذكر أنها تغدو (تسعى) في طلب الرزق، وقال الله تبارك وتعالى: {وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ} [المزمل:20]. وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم} [البقرة:198]. وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم. (المجالسة وجواهر العلم).
===
هذا الأثر من الإمام أحمد (رضي الله عنه) يبين ويوضح مكانة العمل في شريعتنا الإسلامية الغراء، فالشريعة الإسلامية لا تعرف البطالة والكسل ولا تعترف بهما، ومن محاسنها، أنها دعت إلى العمل وأعلت قيمته ومكانته ومنزلته بين شرائعها وتعاليمها.
===
فالعمل في شريعتنا الإسلامية الغراء؛ هو أحدُ الوسائل التي يتحقق بها إحدى الغايات التي خلقنا الحق تبارك وتعالى من أجلها؛ ألا وهي عمارة الأرض، واستخراج ثرواتها وخيراتها وكنوزها، قال تعالي على لسان نبيه صالح (عليه السلام): {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود:61]، أي: طلب منا عمارتها، واستخراج كنوزها وخيراتها، وإحياء مواتها، وهذا لن يتحقق إلا بالعمل والإنتاج والبناء.
فالعمل والإنتاج والبناء ضرورة من ضرورات البشرية، وهو قوام الحياة؛ لا تقوم الحياة، ولا تستقيم، ولا تستقر إلا به، فلا تتصور حياة بدون عمل وإنتاج وبناء عند جميع العوالم والمخلوقات والكائنات، عند عالم الحيوان، والطير والحشرات، وعند بني الإنسان.
===
والشريعة الإسلامية كما دعت إلى العمل والإنتاج والبناء؛ فإنها دعت إلى إتقانه وإحكامه، وبينّت أنه سبيل الأمم المتقدمة، فتعالوا بنا أحبتي في الله بإذن من الحق تبارك وتعالى في لقاء الجمعة الطيب المبارك؛ لنري كيف دعت الشريعة الإسلامية إلى: (إتقان الصنائع والحرف والمهن، وكيف بينت أن ذلك سبيل الأمم المتقدمة)، فأعيروني يا عباد الله القلوب واصغوا إليّ بالآذان
===========================================
(2) دعوة القرآن الكريم لإتقان العمل، وإحكامه:
===========================================
من دعوة القرآن الكريم إلى إتقان العمل وإحكام المهن والصنائع والحرف: بيان أن العمل سواءٌ أكان دينيًا أم دنيويًا كالحرف والمهن والصنائع سيطلع عليه المولى (تبارك وتعالى) والمصطفى (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:105]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحينما يخبرنا القرآن الكريم أن الله (عزّ وجل) ورسولنا (صلى الله عليه وسلم) سيطلعان على أعمالنا الدينية والدنيوية فذلك دعوةٌ لإتقان العمل وإحكامه، ويشبه قول النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما سئل عن الإحسان: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)(متفق عليه).
===
أيضًا من دعوة القرآن الكريم إلى إتقان العمل وإحكام المهن والصنائع والحرف: بيان أن الحق تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أتقن العمل وأحكمه، وأحسن صنعه، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا* أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:31،30].
واعلموا يا عباد الله: أننا مكافئون على الأعمال الدنيوية في الأخرة كما نكافئ على الطاعات والعبادات سواء بسواء، وذلك إذا أخلصنا فيه النية لله (عزّ وجلّ)، وقصدنا بها عمارة الكون ونفع البشرية، حينئذ تصبح تلك الأعمال دينية، فقد طلب الله (عزّ وجلّ) منا عمارة الكون كما سمعنا على لسان نبي الله صالح (عليه السلام): {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، كما أن الحق تبارك وتعالى يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77].
فالأعمال الدنيوية المقصود بها وجه الله ونفع البشرية تندرج في جملة الأعمال الصالحة التي أرشد الله إلى إحسانها وإتقانها، ووعدنا عليها الثواب الجزيل في الآية السابقة يوم القيامة.
===
أيضًا من دعوة القرآن الكريم إلى إتقان العمل وإحكام المهن والصنائع والحرف: ما ساقه القرآن الكريم من نماذج لإتقان العمل وإحكامه وإحسانه، منها على سبيل المثال نموذج ذي القرنين الرجلِ الصالحِ الذي طوّف الدنيا غربًا وشرقًا وشمالًا، ففي رحلته إلى شمال الكرة الأرضية (منطقة البلقان اليوم في قارة أوربا) وجد قومًا بين سدين لا يفقهون كلام أحدٍ ولا يفقه أحدٌ كلامهم، فقالوا بواسطة مترجم: {يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[الكهف:94]، عرضوا على ذي القرنين أجرًا مقابل أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًا وحاجزًا فلا يصلون إليهم ويتجنبوا به شرهم وإفسادهم، فردّ عليهم ذو القرنين مستعينًا بالله، وداعيًا لهم إلى الإيجابية والعمل معه والتفاعل مع مشكلاتهم، فقال: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}[الكهف:95]، ثم قال لهم راسمًا خطة العمل مبينًا إتقانها وإحكامها: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}[الكهف:96]، فقد أمرهم بوضع قطع (زُبَرَ) الحديد والحطب والفحم بعضَها على بعضٍ حتى ساوى بين طرفي (الصدفين) الجبلين، ثم أمرهم بإشعال الحطب والفحم حتى صار الحديد نارًا، ثم أمرهم بإحضار النحاس المذاب (قِطْرًا) فقام بإفراغه وصبّه على الحديد المشتعل نارًا، فصار النحاس مكان الفحم والحطب بعد أن أكلتهما النار، ولزم النحاس الحديد كأنهما شيء واحد، ولذا يقول القرآن: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[الكهف:97]، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} يتسلقوه من فوقه لطوله وملاسته، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} من أسفله لشدته ولصلابته، وذلك لإتقانه وإحكام صنعه، فقد كان ارتفاعه مائتي ذراع (100م تقريبًا عمارة مكونة من 30 دور تقريبًا)، وعرضه خمسين ذراعًا، وطوله فرسخ (5400 متر تقريبًا).
فهذا عملٌ بشريٌ بقي إلى يومنا هذا، لإتقانه وإحكام صنعه، وسيبقى إلى يوم القيامة كذلك، قال تعالى على لسان ذي القرنين: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]، وهذا المشهد في تلك القصة المباركة دعوة من دعوات القرآن الكريم لإتقان العمل، وإحكام صنعه.
===
وانظروا إلى نبي الله يوسف (عليه السلام) وهو يعلمنا من داخل محبسه الإتقان والإحكام في خطة مواجهة المجاعة التي ستضرب مصر في عصره، حينما رأي ملك مصر رؤيا أفزعته، وفشل المعبرون في تأويلها، فتذكره ساعتها ساقي الملك الذي كان حبيسًا مع يوسف (عليه السلام) في السجن تذكر يوسف وتعبيره للرؤى، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ*قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[يوسف:45ـ49]، هكذا تعلم الاقتصاديون والمعنيون بميزانيات الدول مواجهة الشدائد والأزمات، وتعلموا الخطط السبعية والخمسية، وتعلموا الإتقان والإحكام في المهن والحرف والصنائع من يوسف (عليه السلام).
===========================================
(3) دعوة السنة النبوية لإتقان العمل، وإحكامه:
===========================================
أيها الأحبة الكرام: كما دعانا القرآن الكريم لإتقان العمل، وإحكام صنعه كذلك جاءت السنة النبوية المشرفة ودعتنا إلى ذلك وحثتنا عليه، فمن طرقها في الدعوة إلى إتقان العمل وإحكام المهن والصنائع والحرف: الأمر المباشر من النبي (صلى الله عليه وسلم) بإتقان العمل وإحكام صنعه في العديد من الأحاديث، منها: قوله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ) (رواه أبو يعلى)، وسبب هذا الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رأي فُرْجَةً (فراغًا) بين الطوب اللبن وهم يدفنون ابنه إبراهيم (عليه السلام)، فأمر أن تسد، ثم قال هذا القول، وفي رواية أخرى: أن ذلك كان في دفن ابنته السيد أم كلثوم زوج عثمان بن عفان (رضي الله عنهما)، فأخذ يطرح للصحابة الطين (الجبوب) ويقول: (سُدُّوا خِلَالَ اللَّبِنِ) (رواها أحمد).
===
ومن ذلك: قوله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ، وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ) (رواه مسلم)، والوزغ هو الحشرة المعروفة بـ (البرص) وقد سماها (صلى الله عليه وسلم) (فويسقًا) وأمر بقتله؛ لخروجه هو والفواسق الخمس (الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ) عن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى، (صلى الله عليه وسلم) يدعونا ويحثنا في هذا الحديث على إتقان العمل وإحكامه حينما قال: (فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ).
===
ومن ذلك: قوله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ…) (رواه مسلم)، (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أي أمرنا بالإحسان في كل عمل دنيوي، وأخروي.
===
أيضًا من دعوة السنة النبوية إلى إتقان العمل وإحكام المهن والصنائع والحرف: الأمر بتوسيد الأمور وإسنادها إلى أهلها حتى تخرج الأعمال والصنائع والحرف والمهن محكمة ومتقنة الصنع، فعن طلق بن علي (رضي الله عنه) قال: بنينا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مسجد المدينة، فقال (صلى الله عليه وسلم): (قَربوا اليَمَامِىَّ مِنَ الطِّينِ فَإِنَّهُ مِنْ أَحْسَنِكُمْ لَهُ مَسّا، وَأشَدِّكُمْ لَهُ سَاعِدًا)(كنز العمال)، وفي رواية: جئت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يبنون المسجد، وكأنه لم يعجبه عملهم فأخذت المسحاة (الفأس) فخلطت الطين، فكأنه أعجبه عملي فقال: (دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ، فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ)(رواها أحمد)، وفي رواية: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟. قال: (لَا وَلَكِنِ اخْلِطْ لَهُمُ الطِّينَ يَا أَخَا الْيَمَامَةِ , فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ) (سنن الدارقطني).
===
وعن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) (رواه مسلم).
===
إن أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتوسيد الأمور وإسنادها إلى أهلها حتى تخرج الأعمال والصنائع والحرف والمهن محكمة ومتقنة الصنع، هو الذي جعل يوسف (عليه السلام) يقول لملك مصر كما يقص القرآن الكريم: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، فإذا أردنا إتقان الصنائع والحرف والمهن فعلينا بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهذا هو ما أخرج مصر من مجاعتها زمن يوسف (عليه السلام).
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له
===========================================
(الخطبة الثانية)
((إتقان الصنائع والحرف والمهن سبيل الأمم المتقدمة))
(الفراعنة والمصريون نموذجًا)
===========================================
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
=====================
أيها الأحبة الكرام: رأينا كيف دعا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة إلى إتقان العمل وإحكامه في نصوصهما، وذلك؛ لأن إتقان الصنائع والحرف والمهن هو سبيل الأمم المتقدمة، والتاريخ والواقع المعاصر اليوم دليلٌ على صدق تلك القضية.
===
انظروا إلى الحضارات السابقة كحضارة الفراعنة والمصريين مثلا أكثر الحضارات ذكرًا في القرآن الكريم لمعاصرة العديد من الأنبياء والمرسلين لها وعيشهم على أرضها، الفراعنة ما بنيت حضارتهم وما ارتفعت وعلا شأنها في التاريخ القديم إلا بإتقان أبناؤها للحرف والصنائع والمهن، فقد اشتهروا بأنهم بناة الأهرامات حتى أشار القرآن الكريم إلى ذلك فقال: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ}[الفجر:10]، واشتهروا بكثرة المدن على أرضهم حتى قال القرآن على لسان وزراء الفرعون: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الأعراف:111]، وهذا تقدم في فن العمارة والبناء.
===
الفراعنة تقدموا في فنون الزراعة، حتى وصف القرآن الكريم أرضهم بأنها خزائن الأرض، فقال تعالى على لسان يوسف (عليه السلام): {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وما ذلك إلا لكثرة خيراتها، وعظم غلاتها، وهذا إشارة إلى ما اشتهرت به مصر من قديم الزمان أنها سلة غلال العالم، وكأن أهل الأرض جميعًا يحتاجون إليها، فقد أطلق عليها أم البلاد، وغوث العباد، وصورت في كتب الأقدمين وقد مدت إليها سائر المدن يدها تستطعمها. (حسن المحاضرة)، كما وصف القرآن الكريم أرض مصر بالمقام الكريم، وبالجنات والعيون في موضعين من سوره وآياته، فقال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ*كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:57ـ59]، وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ*وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ*كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:25ـ28].
===
الفراعنة تقدموا في فنون الطبّ، والدليل على ذلك علم التحنيط الذي اشتهروا به بين جميع الأمم والحضارات، هذا العلم الذي حافظ على العديد من جثث ملوكهم وعلمائهم والمشاهير فيهم إلى يومنا هذا، الفراعنة تقدموا في كل شيء، وكان سبيلهم إلى ذلك الاهتمام بالعلم والعلماء في كافة المجالات كضربٍ من ضروبِ إتقان العمل وإحكامه، كما أنهم أهتموا بالأعمال ذاتها وأتقنوها وأحكموا صنعها، وها هي معابدهم ومسلاتهم وما صنعت أيديهم باق حتى اليوم دليلًا على تقدمهم وإحكامهم للأعمال وإتقان صنعها.
===
إن شريعتنا الإسلامية الغراء قد دعتنا إلى علو الهمة، والأخذ بأسباب العلو والرفعة والتقدم، وعدم الرضا بالدون من العيش والأحوال، فقال (صلى الله عليه وسلم): (اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى…) (متفق عليه)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ…) (رواه مسلم).
===========================================
فاللهمّ إنّا نسألك رضاك والْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَما مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ سخطك ومن النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَما مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّت ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى