خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة القادمة : وقفات مع العشر الأول من شهر ذي الحجة ، للدكتور مسعد الشايب

خطبة الجمعة القادمة : وقفات مع العشر الأول من شهر ذي الحجة ، الجمعة 3 من ذي الحجة 1446هـ الموافقة 30/5/2025م للدكتور مسعد الشايب

===========================================

خطبة الجمعة القادمة word: وقفات مع العشر الأول من شهر ذي الحجة ، الجمعة 3 من ذي الحجة 1446هـ الموافقة 30/5/2025م للدكتور مسعد الشايب

خطبة الجمعة القادمة pdf: وقفات مع العشر الأول من شهر ذي الحجة ، الجمعة 3 من ذي الحجة 1446هـ الموافقة 30/5/2025م للدكتور مسعد الشايب

أولا: العناصر:

  1. من مكانة العشر الأول من ذي الحجة.
  2. من وجوه الشبه بين أيام العشر من ذي الحجة وشهر رمضان.
  3. الخطبة الثانية: (من العمل الصالح في تلك العشر).

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله ربّ العالمين، منّ على عباده بمواسم الرحمات والبركات، ووفقهم فيها لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربُّ الأرض والسموات، قال وقوله الحق: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين، صلاة وسلاما عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأحبابه، وأتباعه إلى يوم الدين، وبعد:

===========================================

(1) ((من مكانة العشر الأول من ذي الحجة))

===========================================

أيها الأحبة الكرام: فمن رحمة الله (عزّ وجلّ) بنا أن جعل لنا مواسم في أيام دهرنا يصّبُ علينا فيها الخيرات، والرحمات، والبركات صبّا، ويضاعف لنا فيها الحسنات على الطاعات والعبادات ثوابًا وأجرًا، فعن محمد بن مسلمة (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ الدَّهْرِ نَفَحَاتٌ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ فَلَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا)(المعجم الكبير، والأوسط)، فالعاقل هو من يجدد فيها النشاط، ويسارع إلى الخيرات ليتقرب من رب الأرض والسموات، ومن تلك الأيام المباركات؛ العشر الأول من شهر ذي الحجة التي تتمتع بمكانة سامية، ومنزلة عالية بين الشهور والأيام، فتعالوا بنا أحبتي في الله بإذن من الحق تبارك وتعالى في لقاء الجمعة الطيب المبارك لنرى بعضًا من مكانتها العالية، ومنزلتها السامية، وما ينبغي على المسلم الموحد فيها، فأعيروني يا عباد الله القلوب، وأصغوا إلي بالآذان والأسماع فأقول، وبالله التوفيق:

==========

من مكانة العشر الأول من ذي الحجة: أن الحق تبارك وتعالى أقسم بها عمومًا، وأقسم بيومين منها خصوصًا في القرآن الكريم، والحق تبارك وتعالى لا يقسم في قرآنه إلا بالأشياء ذات الشأن، والرتبة، والمقام، فقال سبحانه وتعالى: {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ*وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:1ـ3]، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في تفسيرها: (الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ)(شعب الإيمان).

==========

أيضًا من مكانة العشر الأول من ذي الحجة: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعلها أفضل زمن للأعمال الصالحة والتقرب إلى الحق تبارك وتعالى، وجعل الأعمال الصالحة فيها أفضل الأعمال، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟. قال: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)(رواه البخاري واللفظ لأبي داود).

==========

أيضًا من مكانة العشر الأول من ذي الحجة: أنها زمن لإعلاء توحيد الله (عزّ وجلّ)، وهذا ما جعلها أفضل زمن للأعمال الصالحة، وجعل الأعمال الصالحة فيها أفضل الأعمال، ففي هذه الأيام العشر يُؤدى حج بيت الله الحرام وما فيه من مناسك وشعائر تعلي توحيد الله (عزّ جلّ)، فالبيت الحرام من أول أمره رفع بناؤه على التوحيد، فالحق تبارك وتعالى خاطب سيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام) قائلا له: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:26].

==

كما أن شعار الحج؛ وهو التلبية (لبَّيْك اللهم لبَّيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك)، هذه التلبية تحقيقٌ وإعلاءٌ لتوحيد الله (عزّ وجلّ)، ومخالفة لما كانت تقوله قريش فقد كانوا يَقولون: إلاَّ شريكًا هو لك، تملِكُه وما ملَك.

==

كما أن خير الدعاء؛ هو دعاء يوم عرفة، وهو أفضل ما قاله (صلى الله عليه وسلم) والنبيون من قبله، هذا الدعاء هو كلمة التوحيد، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم قال): (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(رواه الترمذي).

==

فالعشر الأول من ذي الحجة هي زمان إعلاء توحيد الله (عزّ وجلّ)، من خلال كونها ختام الأشهر المعلومات: التي تؤدى فيها مناسك وشعائر فريضة الحج، فقد قال الحق تبارك وتعالي: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}[البقرة:197]، قال سيدنا عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما): في بيان تلك الأشهر المعلومات: (شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةَ)(المستدرك للحاكم)، وهذا ما عليه صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجمهور العلماء أنها ختام الأشهر المعلومات.

===========================================

(2) ((من وجوه الشبه بين أيام العشر من ذي الحجة وشهر رمضان))

===========================================

أيضًا من مكانة العشر الأول من ذي الحجة: أنها تتشابه إلى حد كبير مع أيام شهر رمضان المباركة، فقد تأملت في هذين الزمانين الشريفين فوجدت بينهما وجوه شبهٍ عديدة، بيانها كالآتي:

أولًا: كلا الزمانين الشريفين محلٌ لأداء ركن من أركان الإسلام الخمسة، فشهر رمضان اختصه الحق تبارك وتعالى بأداء الركن الرابع من الأركان الخمسة التي يقوم ويبنى عليها الدين الإسلامي، ألا وهو فريضة الصيام، فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185]،

والعشر الأول من ذي الحجة اختصها الحق تبارك وتعالى بأداء الركن الخامس من الأركان الخمسة التي يقوم ويبنى عليها الدين الإسلامي، ألا وهو فريضة الحج، فقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197]، وقد تقدم عن سيدنا عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أنها: (شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةَ).

===

فيوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة يحرم فيه الحجيج بالحج، واليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم عرفة يؤدي فيه الحجيج ركن الحج الأعظم، ألا وهو الوقوف بعرفة، ويوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة يرمي فيه الحجيج جمرة العقبة الكبرى، ويقدمون الهدي، ويحلقون أو يقصرون رؤوسهم، ويطوفون طواف الإفاضة.

==========

ثانيًا: كلا الزمانين الشريفين محلٌ لشعيرة من شرائع الإسلام يقصد بها الفقراء والمساكين، فشهر رمضان اختصه الحق تبارك وتعالى على لسان المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بزكاة الفطر وإخراجها، فقد قال ابن عمر (رضي الله عنهما): (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ…)(رواه أبو داود وابن ماجه)، فكون زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث؛ فهذا يعني أن محلها شهر رمضان، كما استنبط العلماء والفقهاء.

===

والعشر الأول من ذي الحجة رمضان اختصها الحق تبارك وتعالى بالهدي الذي يهدى إلى الكعبة، وبشعيرة الأضحية وبدء ذبحها، ومن حكمة مشروعيتهما التوسعة على الفقراء والمساكين، فقد قال الحق تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج: 28،27].

وقال سبحانه وتعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ}[الحج:67]، والمراد بالمنسك عند أغلب المفسرين الذبائح، والقرابين، والأضاحي.

==========

ثالثًا: كلاهما محلٌ لاجتماع أمهات العبادة والطاعة، وحث النبي (صلى الله عليه وسلم) على العمل الصالح فيهما، فعن شهر رمضان قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)(متفق عليه من حديث أبي هريرة)، أي: أحيا لياليه بالعبادة والقربات والطاعات.

وعن العشر من ذي الحجة قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ). يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟. قال: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)(رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس وهو صحيح)، كما تقدم.

وصيام رمضان كما هو معلومٌ أمرٌ واجب، والتسع من ذي الحجة كان النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يترك صيامها، فأشبه الواجب، فعن بعض نساء النبي (صلى الله عليه وسلم)(رضي الله عنهن): (أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَتِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ)(سنن النسائي).

==========

رابعًا: كلا الزمانين الشريفين اشتمل على شيء من أشرف الزمان وأعظمه، فشهر رمضان لياليه العشر الأواخر أعظم ليالي العام على الإطلاق لاشتمالها على الليلة التي هي خير من ألف شهر، خير من ثلاثٍ وثمانين سنة وأربعة أشهر من العبادة والطاعة، ألا وهي ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ*تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ*سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[سورة القدر].

أما العشر من ذي الحجة فأيامها أعظم أيام العام على الإطلاق، وفيها يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة، يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، وفيها يوم النحر وما أدراك ما يوم النحر، يوم الحج الأكبر، وقد أقسم الحق تبارك وتعالى بهما في قرآنه كما تقدم.

==========

خامسًا: كلا الزمانين الشريفين يعقبه يومٌ من أيام الترويح عن النفس وذلك بعد مشقة الطاعة والعبادة، فشهر رمضان يعقبه عيد الفطر، والعشر الأول من ذي الحجة؛ ختامها عيد الأضحى أو يوم النحر، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، قال: قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟). قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ)(رواه أبو داود).

===

فيا حبذا لو جعلنا هذه الأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة؛ كشهر رمضان من حيث الإكثار من العبادة والطاعة، والجدّ والاجتهاد فيها، والقرب من الله (عزّ وجلّ) كما كان من هدي نبينا (صلى الله عليه وسلم).

عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له

===========================================

(الخطبة الثانية)

((من العمل الصالح في تلك العشر))

===========================================

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

===

أيها الأحبة الكرام: رأينا كيف أن العشر الأول من شهر ذي الحجة تتشابه مع شهر رمضان، ورأينا شيئًا من مكانتها العالية، ومنزلتها السامية، وكيف أنها أعظم زمن للقرب من الله (عزّ وجلّ)، وأن الأعمال الصالحة مفضلة فيها، وهنا يأتي السؤال: كيف نستقبل هذه العشر، وكيف نحياها؟، وكيف نتقرب فيها إلى الله (عزّ وجلّ)؟.

===

أنستقبلها باللهو واللعب؟ أنستقبلها بالغفلة والإعراض عن ذكر الله؟ أنستقبلها بالإفساد في الأرض، وارتكاب المعاصي والآثام؟ أنستقبلها بالأحقاد والضغائن وقطيعة الأرحام؟!.

إن هذا ليس من منطق الحكماء و لا العقلاء؛ أن نضيع تلك الفرصة بل الفرص الثمينة العظيمة من بين أيدينا بدون أن نغتنمها في مرضات الله، وفيما ينفعنا في الدنيا والأخرة، إن الاستقبال الأمثل لتلك الأيام المباركات يكون بالتعرض لنفحات الله ورحماته كما حثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم), وذلك يكون بالتفاني في مرضات الله (عزّ وجلّ)، والإقبال على طاعته وعبادته، وعلى جميع الأعمال الصالحة، التي تخدم الفرد، والمجتمع والبيئة والوطن، بل والبشرية أجمع، فالعمل كلما زاد نفعه وكثر عدد المستفيدين به كان عند الله أفضل وأحسن.

======

فأول ما ينبغي علينا من الأعمال الصالحة في تلك الأيام المباركة: المحافظة على الفروض والواجبات: سواء المتعلقة بحقّ الله عزّ وجلّ أم المتعلقة بحقوق العباد، وهذا هو أفضل ما نتقرب به إلى الله في تلك الأيام المباركات، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ…)(رواه البخاري)، فعلينا المحافظة على الصلوات الخمس، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، علي كل واحد منا أن يؤدي عمله المنوط به على أكمل وجه، الإمام في مسجده، المدرس في مدرسته، الموظف في مصلحته الحكومية، العامل في مصنعه، الفلاح في حقله، الزوج في أسرته، الزوجة في بيت زوجها، وعلينا بتقوى الله في السرّ والعلن، فعبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)(متفق عليه واللفظ للبخاري).

======

ومن تلك الأعمال الصالحة في تلك الأيام المباركة: المحافظة على هدي وسنن النبي (صلى الله عليه وسلم) في تلك العشر: ومنها: صيام أيامها التسع: فعن بعض نساء النبي (صلى الله عليه وسلم)(رضي الله عنهن): (أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَتِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ)(سنن النسائي)، فمن استطاع أن يصوم التسعة كاملة فبها ونعمت، فإن لم يستطع؛ فعليه بصوم أغلبها، فإن لم يستطع فليحرص على صيام الاثنين والخميس منها، فإن لم يستطع فلا يعجز عن صيام يوم عرفة فإنه يكفر سنتين من الذنوب الصغائر المتعلقة بحق الله عزّ وجلّ، يكفر سنة قبله، وسنة بعده، فعن أبي قتادة (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (…صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ…)(رواه مسلم).

===

ومنها: الإكثار من الدعاء: فالدعاء هو العبادة، ومن لم يسأل الله يغضب عليه، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)(رواه الترمذي)، وصدق الشاعر حينما قال:

لَا تسألنَّ بُنيَّ آدم حَاجَة … وسل الَّذِي أبوابَه لَا تُحجب … الله يغضب إن تركت سؤاله … وبُني آدم حين يسئل يغضب

وقد حثنا الله على الدعاء ووعدنا الإجابة عليه فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186]، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60]، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يكثر من الدعاء في تلك الأيام المباركات، وخصوصا في يوم عرفة يوم إجابة الدعاء.

===

ومنها: الإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ: فتلك الأيام المباركة هي أيام لذكر الله، فعن ابن عمر (رضي الله عنهما)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ)(مسند أحمد).

وما يؤدي في تلك الأيام من عبادات وطاعات المقصود الأول منه: إقامة ذكر الله كالحج ومناسكه وشعائره، وذبح الهدي والأضاحي، قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ*ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ*فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}[البقرة:198ـ200]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البقرة:203].

وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}[الحج:34]، وقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الحج:36]، وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ)(رواه أبو داود).

==

فعلي المسلم أن يكثر من صنوف ذكر الله عزّ وجلّ في تلك الأيام المباركات امتثالا لأوامر القرآن والسنة، فعليه بالتسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، والاستغفار، وقراءة القرآن إلى آخر ألوان ذكر الله، فالذكر هو غراس وزروع الجنة، فعن أبي هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرَ به وهو يغرس غرسا، فقال: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟). قلت: غراسا لي، قال: (أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ هَذَا؟). قال: بلى يا رسول الله، قال: (قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ)(رواه ابن ماجه).

===

ومنها: الإكثار من الأعمالٌ يقوم ثوابها وأجرها مقام أجر وثواب الحج والعمرة، كالمحافظة على صلاة الفجر في جماعة (أي جماعة)، وكبرّ الوالدين والإحسان إليهما، وكالسعي في قضاء حوائج الآخرين، والتصدق على الفقراء والمساكين والمحتاجين…الخ.

===

ومنها: ذبح الأضحية: لمن قدر على ذلك ووجد سعة، بداية من اليوم العاشر يوم النحر، فعن أنس (رضي(الله عنه) قال: (ضَحَّى النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا)(متفق عليه)، وعن البراء بن عازب (رضي الله عنهما) قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسْكِ فِي شَيْءٍ)(متفق عليه).

===========================================

فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به خاشعين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم، اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى