خطبة الجمعة القادمة رحم الله رجلًا سمحًا (بتاريخ8/ربيع ثاني 1446هـ ، الموافق 11/أكتوبر 2024م )
موقع منبر الدعاة








ما أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ المَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ سَمَاحَةِ الإِسْلَامِ، وَخَاصَّةً وَالإِسْلَامُ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ دِينُ الإِرْهَابِ وَالتَّطَرُّفِ وَالتَّشَدُّدِ وَالغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ، وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، فَالإِسْلَامُ دِينُ السَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ وَاليُسْرِ وَالسُّهُولَةِ وَالوَاسِطِيَّةِ وَالاعْتِدَالِ وَالسَّلَامِ وَالوِئَامِ وَالمَحَبَّةِ وَالوِفَاقِ. وَخَاصَّةً وَالسَّمَاحَةُ هِيَ مِلَّتُنَا وَنَهْجُنَا وَشَرْعُنَا، هِيَ دِينُنَا وَمَبْدَؤُنَا، وَبِهَا بُعِثَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ،وَخَاصَّةً وَلَقَدِ انْتَشَرَتِ القَسْوَةُ وَالغِلْظَةُ وَالفَظَاظَةُ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا، وَخَاصَّةً وَأَنَّ الجَفَاءَ الَّذِي نَرَاهُ وَنُشَاهِدُهُ فِي وَاقِعِنَا حَالَةٌ طَارِئَةٌ يَجِبُ أَنْ يَغِيبَ وَيَزُولَ، وَأَنْ يَظْهَرَ خُلُقُ السَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ عَلَى جَمِيعِ جَوَارِحِنَا، وَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِنَا وَسَكَنَاتِنَا. وَخَاصَّةً وَأَنَّ تُجَّارَ اليَوْمِ -إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ- قَدْ مَاتَ إِحْسَاسُهُمْ، وَدُفِنَتْ مَشَاعِرُهُمْ، وَقَلَّ إِيمَانُهُمْ، وَنَسُوا رَبَّهُمْ، وَلَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَمُوتَ النَّاسُ جُوعًا، وَلَا يُبَالُونَ بِغَلَاءِ العَيْشِ الَّذِي يَعْصِرُ النَّاسَ عَصْرًا، وَلَا يَتَأَلَّمُونَ لِلْحَاجَةِ الَّتِي أَرْهَقَتْ مَضَاجِعَ النَّاسِ بِاللَّيْلِ، وَأَرْهَقَتْهُمْ بِالنَّهَارِ. هُمْ تُجَّارُ حُرُوبٍ وَأَزَمَاتٍ، لَا تَهُمُّهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
أَوَّلًا: دِينُنَا دِينُ السَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: إِنَّ مَفْهُومَ السَّمَاحَةِ الَّذِي جَاءَ بِهِ شَرْعُنَا الحَنِيفُ وَدَعَا إِلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ فَوْقَ مَفْهُومِ الإِنسَانِيَّةِ وَحُقُوقِ الإِنسَانِ الَّذِي رَفَعَهُ الغَرْبُ وَالشَّرْقُ فِي هَذَا العَصْرِ الجَاهِلِيِّ المُتَحَضِّرِ، وَقَدْ جَسَّدَ ذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالسَّمَاحَةُ يَا عِبَادَ اللهِ هِيَ طِيبٌ فِي النَّفْسِ، وَانْشِرَاحٌ فِي الصَّدْرِ، وَلِينٌ فِي الجَانِبِ، وَبَشَاشَةٌ فِي الوَجْهِ، وَذِلَّةٌ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَصِدْقٌ فِي التَّعَامُلِ، وَرَحْمَةٌ بِجَمِيعِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا يَعْقِلُ وَمِمَّا لَا يَعْقِلُ. وَكَيْفَ لَا؟ وَدِينُنَا دِينُ الشَّمَائِلِ الحَسَنَةِ وَالقِيَمِ المُسْتَحْسَنَةِ وَالأَخْلَاقِ العَالِيَةِ وَالآدَابِ الغَالِيَةِ.. بَلِ الغَايَةُ الأَسْمَى مِنْ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الأَخْلَاقُ فَقَالَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ} رَوَاهُ البُخَارِيُّ، لِذَا فَإِنَّ خُلُقَ السَّمَاحَةِ يَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ فِي تَعَامُلِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا الدينا فِي يَدِهِ لَا فِي قَلْبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: “لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ” (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا لِي وَ لِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا” (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، لِذَا وَجَبَ عَلَيْنَا السَّمَاحَةُ فِي جَمِيعِ شُؤُونِ حَيَاتِنَا، فَالدُّنْيَا لَا قِيمَةَ لَهَا وَلَا وَزْنَ لَهَا، إِنَّمَا الدُّنْيَا إِلَى زَوَالٍ. وَكَيْفَ لا؟ وَقَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِشَرِيعَةٍ كُلُّهَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ وَمَنْفَعَةٌ لِلْبَشَرِيَّةِ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، لِمَنْ قَبِلَهَا وَآمَنَ بِهَا وَالْتَزَمَهَا، هَذِهِ الشَّرِيعَةُ تَدْعُو الْمُؤْمِنَ لِأَنْ يَكُونَ مُتَخَلِّقًا بِالسَّمَاحَةِ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ السَّمَاحَةَ تُقَوِّي الْإِيمَانَ، وَتُضَاعِفُ الثَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَتَشُدُّ أَزْرَ الْعِبَادِ، وَتَجْعَلُ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَالْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ… وَكَيْفَ لا؟ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا خَاطَبَ نَبِيَّهُ الْمُخْتَارَ أَنْ يَكُونَ سَمْحًا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٩٩]. قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَافِيًا عَنْ رَسُولِهِ الْمُخْتَارِ الْفَظَاظَةَ، وَغِلَظَةَ الْقَلْبِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩]. وَكَيْفَ لا؟ وَدِينُنَا فِي حَالَاتِ الطَّلَاقِ وَعِنْدَ الْغَضَبِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَمَرَنَا بِالسَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ مِنْ أَفْضَلِ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَأَجَلِّهَا، فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ؟ قَالَ: “مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ”، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: “أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا”، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ”. فَالسَّمَاحَةُ خُلُقٌ عَظِيمٌ مِنْ أَخْلَاقِ الدِّينِ، وَمَبْدَأٌ كَرِيمٌ مِنْ مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ، وَشِيمَةُ الْأَبْرَارِ الْمُحْسِنِينَ مِنَ النَّاسِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ، وَسَهْلَةٌ وَمَيْسُورَةٌ، أَمَرَ بِهَا الدِّينُ، وَتَخَلَّقَ بِهَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَدُلُّ عَلَى سُمُوِّ النَّفْسِ، وَعَظَمَةِ الْقَلْبِ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ، وَوَعْيِ الرُّوحِ، وَنُبْلِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَصَالَةِ الْمَعْدِنِ. وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَأَيْنَ الَّذِينَ يَبْحَثُونَ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟ أَيْنَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَنَالُوا دُعَاءَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى”. فَيَا مَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَنَالَ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ بِبَرَكَةِ الدُّعَاءِ الشَّرِيفِ: فَعَلَيْكَ بِالسَّمَاحَةِ أَثْنَاءَ تَعَامُلِكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، كُنْ سَمْحًا عِنْدَ الْبَيْعِ، وَكُنْ سَمْحًا عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَكُنْ سَمْحًا عِنْدَ الْقَضَاءِ، وَكُنْ سَمْحًا عِنْدَ الِاقْتِضَاءِ. وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٠]. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: (وَجَّهَ اللَّهُ الدَّائِنِينَ إِلَى التَّيْسِيرِ عَلَى الْمَدِينِينَ الْمُعْسِرِينَ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ سَمَاحَةَ النَّفْسِ، وَحُسْنَ التَّغَاضِي عَنِ الْمُعْسِرِينَ). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ” (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). بَلْ تَكُونُ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ وَظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ”. فَتَجَاوَزْ عَنِ النَّاسِ يَتَجَاوَزْ عَنْكَ الْمَلِكُ جَلَّ جَلَالُهُ. وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “حَرُمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ”. وَفِي رِوَايَةٍ: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، وَبِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ”. اللَّهُ أَكْبَرُ عِبَادَ اللَّهِ: يَا مَنْ تُرِيدُ شَهَادَةَ ضَمَانٍ لِدُخُولِ جَنَّةِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، يَا مَنْ تُرِيدُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، كُنْ سَمْحًا سَهْلًا لَيِّنًا وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ إِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّنَا أَصْحَابُ عَثَرَاتٍ، فَأَيْنَ مَنْ يُقِيلُ النَّادِمَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَادِّيَّةِ؟ أَيْنَ مَنْ يَسْمَعُ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (رَوَاهُ أَحْمَدُ). وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ: “مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ، أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. وَكَيْفَ لا؟ وَالسَّمَاحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَنْفِيسِ الْكُرُوبَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنَجِّيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ” (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). فَأَيُّهَا التُّجَّارُ، يَا أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ: ارْحَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، ارْحَمُوا الضُّعَفَاءَ، ارْحَمُوا أَصْحَابَ الْحَاجَةِ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وَاسْمَعُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: “اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ” (رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ). فَإِذَا تَسَامَحْتَ مَعَ إِخْوَانِكَ سَامَحَكَ اللَّهُ فِي تَعَامُلِكَ، فَمِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ الطَّيِّبَةِ السَّمَاحَةُ لِلْآخَرِينَ، وَالتَّسْهِيلُ وَاللِّينُ، وَيُعَامِلُ النَّاسَ بِالتَّسَامُحِ وَالْعَفْوِ وَالتَّصَافُحِ. فَدِينُنَا دِينُ السَّمَاحَةِ، دِينُ الْأُلْفَةِ، دِينُ الْمَحَبَّةِ، دِينُ الرَّحْمَةِ، دِينُ التَّسَامُحِ. فَكَمْ رَبَّى الْإِسْلَامُ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْعُلْيَا، وَآدَابِهِ الْمُثْلَى، وَمِنْهَا مَا نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى الِاتِّصَافِ بِهِ، وَالتَّحَلِّي بِأَخْلَاقِهِ، وَالْقِيَامِ بِمُوجِبِهِ، إِنَّهَا خَصْلَةٌ؛ هِيَ خُلُقُ السَّمَاحَةِ. مَا أَجْمَلَ هَذَا الشِّعَارَ، وَتَمَثُّلَهُ فِي مُمَارَسَةِ الْحَيَاةِ وَالدَّارِ، فَاجْعَلْ شِعَارَكَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكَ السَّمَاحَةَ لِإِخْوَانِكَ. وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّافِعِيِّ:
يُخَاطِبُنِي السَّفِيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ .:. فَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبًا
يَزِيدُ سَفَاهَةً فَأَزِيدُ حِلْمًا .:. كَعُودٍ زَادَهُ الْإِحْرَاقُ طِيبًا
بَلْ وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ السَّمَاحَةِ الْعُلْيَا: أَنْ يَتَسَامَحَ الْمَرْءُ حَتَّى مَعَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، كَالَّذِي جَرَى مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَمَا أَقْسَمَ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ؛ لِخَوْضِهِ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ فِي عِرْضِ أُمِّنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، الْحَصَانِ الرَّزَانِ الصِّدِّيقيَّةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، رَغْمَ مَا يَمُنُّ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ كِسْوَةٍ وَمَبِيتٍ وَإِطْعَامٍ. فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ، فَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَادَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ أَلَّا يَفْعَلَ. قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٢٢]. لِذَا يَقُولُ الْمُصْطَفَى ﷺ: “ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ”. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٧]. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
وَكُنْ رَجُلًا عَلَى الْأَهْوَالِ جَلْدًا *****وَشِيمَتُكَ السَّمَاحَةُ وَالْوَفَاءُ
وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُكَ فِي الْبَرَايَا **** وَسَرَّكَ أَنْ يَكُونَ لَهَا غِطَاءُ
تَسَتَّرْ بِالسَّخَاءِ فَكُلُّ عَيْبٍ ***** يُغَطِّيهِ كَمَا قِيلَ السَّخَاءُ
وَلَا تُرِ لِلْأَعَادِي قَطُّ ذُلًّا ***** فَإِنَّ شَمَاتَةَ الْأَعْدَا بَلَاءُ
وَلَا تَرْجُ السَّمَاحَةَ مِنْ بَخِيلٍ **** فَمَا فِي النَّارِ لِلظَّمْآنِ مَاءُ