خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبة الجمعة القادمة تحت عنوان ( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا )، للشيخ ثروت سويف

خطبة الجمعة القادمة تحت عنوان ( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) بتاريخ 18 ربيع الآخر 1447هـ ، الموافق 10 أكتوبر 2025م
اقرأ في هذه الخطبة
أولا: الغش في الامتحانات ثانيا : الغش في المعاملات ثالثاً : رسالة الي التجار رابعاً : اياك والاحتكار
الخطبة الأولي
الحَمْدُ للهِ الذي أسْكَنَ عِبادَه هذه الدَّار، وجعلها لهم سَفَرًا من الأسْفَار، وجعل الدَّار الآخِرَة هي دَار القَرار، وجَعَلَ بين الدُّنيا والآخِرَة بَرْزَخاً يَدُلُّ على فَناء الدنيا باعْتِبَار، وهو في الحقيقة إما رَوْضَةٌ مِن رِيَاض الجَنَّة أو حُفْرَةٌ مِن حُفَر النَّار، أحْمَدُه على نِعَمِه حَمْدًا يَليق بِجَلاله وعَظيم سُلْطانه ما تعاقب الليل والنهار
وأشهد أن لا إله إلا الله وَحْدَه لا شَرِيكَ له الواحِدُ القَهَّار سُبْحَانه يَخْلُق ما يَشاء ويَخْتَار وكل شيء عنده بمقدار، ويَرْفِق بِعِبَاده في جميعِ الأقطار، وسَبَقَت رَحْمَتُه بِعِبَاده غَضَبَه وهو الرَّحيم الغَفَّار.
وأشهد أن مُحَمَّدًا عَبْدُه ورَسُولُه النَّبي المُخْتَار، والرَّسُولُ المَبْعوثُ بالتَّبشيرِ والإنْذَار، وعلى آله وصَحْبِه الطيبين الاخيار.
أما بعد
فاتقوا الله ـ عباد الله فبتقوى الله تُنال الدرجات، وتزكو الأعمال، وأكثروا من ذكره وشكره، فبذكره تطمئن القلوب، وبشكره تحفظ النعم، وتزودوا الصالحات فخير الزاد التقوى.
اعْلَموا وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكم وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهُ وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ وَإِنْكَارُهُ، الغِشُّ فالغش في كل صوره وجميع أشكاله حرام، ما أعظم هذا الوعيد في كل شيء!أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» مسلم
قال المناويّ: الغشّ ما يخلط من الرّديء بالجيد
والغش الذي حرمه الإسلام هو الذي عرفه ابن حجر الهيثمي فقال : “الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذ بذلك المقابل”.
وقال الكفوي “الغش سواد القلب، وعبوس الوجه، ولذا يطلق الغش على الغل والحقد”
فحديثنا اليوم عن هذه الآفة التى تعصف بالمجتمع إنها افة الغش ومفهوم الغش ممفهوم واسع فهو ليس في البيع والشراء فقط بل أشمل بكثير فكل ما لم يصدق به المرء من من نية أو قول أو عمل فهو غش وهو من كبائر الذنوب والمعاصي وفضائح الخطايا يدل علي خبث النفس وظلمة وسواد القلب وقلة الدين لأن الدين المعاملة وسنوجز في هذه الخطبة القول في بعض أنواع الغش لنبين فداحة أمره لِأَنَّ الْغِشَّ مِنْ حَيِّزِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] «وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَالْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ» أَيْ صَاحِبُهُمَا فِي النَّارِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي النَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ» أَيْ مَاكِرٌ. وَفِي أُخْرَى: «أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ النَّارِ رَجُلًا لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إلَّا وَهُوَ يُخَادِعُك فِي أَهْلِك وَمَالِكِ»
أولا: الغش في الامتحانات
وَإِذَا كَانَ الْغِشُّ – وَهُوَ تَقْدِيمُ الْبَاطِلِ فِي ثَوْبٍ مِنَ الْحَقِّ – يَكُونُ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ، وَالْفَتْوَى وَالإِرْشَادِ، وَالتَّوْجِيهِ وَالْوَظِيفَةِ، فَإِنَّ غِشَّ الطَّعَامِ فِي الإِفْسَادِ أَقَلُّ بِدَرَجَاتٍ مِنْ الغِشِّ فِي هَذِهِ النَّوَاحِي
إن الإسلام يربي المسلم على الصدق والوضوح والصفاء، ولا يربيه على الكذب؛ لأن الغش في الامتحان غايته أن يخرج للمجتمع جهلة يحملون شهادة زور وهم كذابين غير عارفين بالعلوم وإنما نقلوها في أوراق وتقيئوها على أوراق الإجابة، وبعدها ينافسون الشرفاء، ينافسون الفضلاء المجدين، الذين بذلوا جهدهم، وأسهروا لياليهم، وقطعوا أيامهم في طلب العلم، وبعدها يأتي ذلك الكذاب ملغم نفسه بأوراق غش، أنا رأيت طالباً كتب المقرر كله من رجله إلى فخذه، كتب النظريات كلها، ويكتب وقاعد ينقل ويقرأ من فخذه، ويأخذ شهادة، ما رأيكم هذا حرام أم حلال؟ لا شك أنه حرام ولا يجوز: (ومن غشنا فليس منا) ولا يجوز ولا كلمة واحدة
فالغش في الامتحانات الدراسية من أخطر الكوارث التربوية التي تتعرّض لها مسيرة التربية والتعليم، فتعرقل تقدّمها، وتخِلّ موازينها، حين يحصل الغشاش على شهادة لا يستحقها، فيخرُج بهذا الغِشّ جيلٌ جاهل خامل منحرف، ذو همة دنيئة وإرادة سافلة، يتولى القيادة من غير أن يكون مؤهلا لها، ويُسنَدُ إليه من الأمور ما لا يُجيده ولا يُتقنه ولا يَعرفه، فتتضرّرُ الأمة وتضيع الحقوق. وهذا ما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال للأعرابي الذي سأله: متى الساعة؟ فقال: “إذا ضُيّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة” قال: كيف إضاعتُها يا رسول الله؟ قال: “إذا أسْنِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”.
ثانيا : الغش في المعاملات
الغِشُّ وَالخِدَاعُ فِي المُعَامَلاتِ وفي البيع والشراء روي الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ « أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي ». صحيح مسلم
وعلى البائع أن يتجنب النقص في الكيل والوزن، وأن يوفي إذا كال أو وزن، كما لو كان ذلك له، وقد أعد الله لمن طفف أو اتصف به العذاب الشديد، فقال: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3].
إن الغش ضياع للأمانة وقلب للحقائق وخيانة للأمة والأمانةُ من مَحاسِنِ الأخلاقِ، والتَّعاملُ في التِّجارةِ والأمورِ المادِّيَّةِ يَستلزِمُ الأمانةَ؛ حتَّى تَتِمَّ الأمورُ والتَّعاملاتُ بين النَّاسِ بلا مُنازَعاتٍ، وبلا إثارةِ شُرورٍ في المُجتمَعِ، وعلى العكسِ من ذلك؛ فإنِّ الغِشَّ والخِداعَ يَجلِبُ على المجتمَعِ الوَيْلاتِ والبَغضاءَ والتَّشاحُنَ بين النَّاسِ.
وهذا الحديثُ يُوضِّحُ أنَّ الغِشَّ ليس مِنَ الإسلامِ، وأنَّ الغشَّاشَ على خَطرٍ عَظيمٍ، فيَروي أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ على صُبْرَةِ طَعامٍ، والصُّبرَةُ: هي الكَومةُ مِنَ الطَّعامِ، مِثلُ القمحِ أوِ الشَّعيرِ، يَعرِضُها التَّاجِرُ ليَبيعَها، فأدخَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدَه في جَوفِها، فوَجَد بَللًا في أسفلِ الطَّعامِ، فكانَ إدخالُ يدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَحيٍ منَ اللهِ سُبحانَه، فسألَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ فأخبَرَه التَّاجرُ أنَّه قد سقَطَ عليه المطرُ فبَلَّلَه، وهذا يَعني أنَّه جَعَل الجافَّ الصَّحيحَ ظاهرًا، والمبلولَ الرَّديءَ في الأسفلِ، فقَبِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُذرَه، ونبَّهَه إلى ما يَنبغي أن يَعمَلَه في هذه الحالةِ، فقالَ: «أفَلا جعلتَه فوقَ الطَّعامِ» بأن تُخرِجَ الحَبَّ المُبتلَّ من أسفَلَ إلى أعلى؛ حتَّى يَراه النَّاسُ المُشترُونَ، ويَكونُوا على بَيِّنةٍ ويَعلموا بحالِه وما فيه مِنَ العَطَبِ، وقد كانوا يَتبايَعون بالصُّبرةِ كاملةً دونَ النَّظرِ إلى ما فيها، وقد عدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَلَ هذا التَّاجِرِ غِشًّا، فقالَ: «مَن غشَّ فليْس مِنِّي»، أي: مَن خَدَعَ النَّاسَ بأيِّ صُورةٍ فليس على هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسُنَّتِه وطَريقتِه، وهذا زَجرٌ شَديدٌ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه تَهديدٌ لمَن تَمادى في الغِشِّ بأن يَخرُجَ عن طَريقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا شك أن الغش حرام وبعض العلماء مثل الذهبي عدوه كبيرة من كبائر الذنوب وفيه: أنَّ الحاكِمَ يَستظهرُ أحوالَ النَّاسِ ويَنصَحُ مَن يَحتاجُ للنَّصيحةِ.
وفيه: حِرصُ الشَّريعةِ على إبعادِ كلِّ ما يَحصُلُ به الضَّررُ للمُسلِمِ
روي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ” البخاري
ومن صور الغش في البيوع: بخس الكيل والميزان. قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:1-3]. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا -يعني أهل المدينة- فأنزل الله -عز وجل- (ويلٌ للمطفِّفين) فأحسَنوا المكيال بعد ذلك. صحيح ابن ماجه..
وفي الحديثِ: الزَّجرُ والنَّهيُ عنِ الغِشِّ في كلِّ الأمورِ، وفي المُعامَلاتِ خاصَّةً.
وفيه: ضَرورةُ تَبيينِ عيبِ السِّلعةِ للمُشتَري.
روي عن ابي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَنَّهُ مَرَّ بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ فَإِذَا إنْسَانٌ يَحْمِلُ لَبَنًا يَبِيعُهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ فَإِذَا هُوَ قَدْ خَلَطَهُ بِالْمَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: ” كَيْفَ بِك إذَا قِيلَ لَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلِّصْ الْمَاءَ مِنْ اللَّبَنِ “. شعب الإيمان (أبو بكر البيهقي) وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَشُوبُوا اللَّبَنَ لِلْبَيْعِ»
روَي الْبَيْهَقِيُّ: والْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:” كَانَ رَجُلٌ يَبِيعُ الْخَمْرَ فِي سَفِينَةٍ لَهُ، وَمَعَهُ قِرْدٌ فِي السَّفِينَةِ، فَكَانَ يَشُوبُ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ، قَالَ: فَأَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ، فَصَعِدَ الذُّرْوَةِ، وَفَتَحَ الْكِيسَ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ دِينَارًا فَيُلْقِيهِ فِي السَّفِينَةِ، وَدِينَارًا فِي الْبَحْرِ، حَتَّى جَعَلَهُ نِصْفَيْنِ “: أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ عِقَابًا لِصَاحِبِهِ لَمَّا خَلَطَ وَغَشَّ» صحيح الترغيب والترهيب.
وَبَاعَ ابنُ سِيرِينَ شَاةً، فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: أَبْرَأُ إليك مِنْ عَيْبٍ فِيهَا، إِنَّهَا تَقَلِبُ العَلَفَ بِرِجْلِهَا، وَبَاعَ الْحَسَنُ بن صَالِحٍ جَارِيَةً فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: إِنَّهَا مَرَّةً عِنْدَنَا تَنَخَّمَتْ دَمًا، وَمَعَ هَذَا يَأْبَى ضَمِيرُ الْمُؤْمِنِ إِلا أَنْ يَذْكُرَ الْعَيْبَ وَإِنْ نَقَصَ الثَّمَنُ، وَتَتَأكَّدَ الْحُرْمَةُ إِذَا قَوَّى غِشَّهُ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْحَلِفُ مَنْفَعَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» .
وَعَنْ «أَبِي سِبَاعٍ قَالَ: اشْتَرَيْتُ نَاقَةً مِنْ دَارِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، فَلَمَّا خَرَجْتُ بِهَا أَدْرَكَنَا وَاثِلَةُ وَهُوَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: يَا عَبَدَ اللهِ، اشْتَرَيْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ بَيَّنَ لَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ: وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا لَسَمِينَةٌ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ! قَالَ: فَقَالَ: أَرَدْتَ بِهَا سَفَرًا أَمْ أَرَدْتَ بِهَا لَحْمًا؟ قُلْتُ: بَلْ أَرَدْتُ عَلَيْهَا الْحَجَّ. قَالَ: فَإِنَّ بِخُفِّهَا نَقْبًا. قَالَ: فَقَالَ صَاحِبُهَا: أَصْلَحَكَ اللهُ مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا تُفْسِدُ عَلَيَّ؟! قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ” لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا أَلَّا يُبَيِّنُ مَا فِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَلَّا يُبَيِّنُهُ “. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ بِاخْتِصَارِ الْقِصَّةِ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ عَنْ وَاثِلَةَ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ، أَوْ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ»
عباد الله: ومن صور الغش في البيوع: بخس الكيل والميزان. قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً -يعني أهل المدينة- فأنزل الله عز وجل: (ويلٌ للمطفِّفين) فأحسَنوا المكيال بعد ذلك…
ثالثاً : رسالة الي التجار
لقد أباح الإسلام للتاجر أن يربح، ولم يجعل للربح حداً، بشرط أن يبتعد التاجر عن الاحتكار والاستغلال والغشِّ، لذلك فقد حذّر ديننا الإسلامي الحنيف من أكل أموال الناس بالباطل، كما في قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، «سورة النساء، الآية 29.
لكن ماحدث في الايام الاخيرة من احتكار قوت الناس وغلاء الاسعار بلا داع ومخالفة لقنون الدولة يدعونا لمحاربته والتكاتف والتصدى لتلك الظاهرة وعلينا ان نعلم ان الجشع والإحتكار واستغلال حاجة الخلق لها إثم كبير عند الله، والصادق من التجار هو الذي يتجاوز عن الناس أو يكتفي بالربح المعقول كما قال الله في قاعدة الربح التجاري ( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) سورة هود ٨٦ .
فلنوجه بعض الرسائل للاخوة التجار
يقول الشاعر محمد الاسمر
بني وطني دعوتكم فكونوا إذا الداعِي أهاب بكم رجالا
عليكم بالقناعة فهي كنزٌ ولا تتجاوزوا الربح الحلالا
فليس بتاجرٍ من ليس يخشى من الله العقاب أو النكالا
وليس بتاجرٍ لصٍ جريء على القانون يحتال احتيالا
يهربُ أو يخبئُ ما لديه وإن تساله أنكر أو تغالا
فيظمئ أمةً لم تجن ذنباً ليشرب وحده الماء الزلالا
فيا تجار مصرَ اللهُ فيها وعدل المنصفين والاعتدلا
فمن تخذ التجارة بآب سلب رأى عقب الدخول به وبالا
فالإحتكار مِنْ صُوَرِ ذَلِكَ الْغِشِّ الَّتِي يَفْعَلُهَا التُّجَّارُ وَالْعَطَّارُونَ وَالْبَزَّازُونَ وَالصَّوَّاغُونَ وَالصَّيَارِفَةُ وَالْحَيَّاكُونَ، وَسَائِرُ أَرْبَابِ الْبَضَائِعِ وَالْمَتَاجِرِ وَالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ كُلُّهُ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ مُوجِبٌ لِصَاحِبِهِ أَنَّهُ فَاسِقٌ غَشَّاشٌ خَائِنٌ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَيُخَادِعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَا يُخَادِعُ إلَّا نَفْسَهُ، لِأَنَّ عِقَابَ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا عَلَيْهِ.
وَكَثْرَةُ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الزَّمَانِ وَقُرْبِ السَّاعَةِ، وَفَسَادِ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَنَزْعِ الْبَرَكَاتِ مِنْ الْمَتَاجِرِ وَالْبِيَاعَاتِ وَالزِّرَاعَاتِ، بَلْ وَمِنْ الْأَرَاضِيِ الْمَزْرُوعَاتِ، وَتَأَمَّلَ قَوْلَهُ «صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْقَحْطُ أَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَإِنَّمَا الْقَحْطُ أَنْ تُمْطَرُوا وَلَا يُبَارَكُ لَكُمْ فِيهِ» : أَيْ بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْقَبَائِحِ وَالْعَظِيمَاتِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا فِي تِجَارَاتِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمْ وَلِهَذِهِ الْقَبَائِحِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا التُّجَّارُ وَالْمُتَسَبَّبُونَ وَأَرْبَابُ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الظَّلَمَةَ فَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَهَتَكُوا حَرِيمَهُمْ، بَلْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارَ فَأَسَرُوهُمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ، وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ وَالْهَوَانَ أَلْوَانًا، وَكَثْرَةُ تَسَلُّطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْحَرِيمِ إنَّمَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمَّا أَنْ أَحْدَثَ التُّجَّارُ وَغَيْرُهُمْ قَبَائِحَ ذَلِكَ الْغِشِّ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَعَظَائِمِ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ وَالْمُخَادَعَاتِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرُوا عَلَيْهَا، لَا يُرَاقِبُونَ اللَّهَ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَخْشَوْنَ سَطْوَةَ عِقَابِهِ وَمَقْتِهِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْمِرْصَادِ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] وَ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] .
ونقول للتجار في رسالتناعليكم بالسماحة وكونوا صادقين لان النَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي السَّمَاحَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَحُسْنِ التَّقَاضِي وَالقَضَاءِ:
فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ, وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ, وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «غَفَرَ اللهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ سَهْلًا إِذَا بَاعَ، سَهْلًا إِذَا اشْتَرَى، سَهْلًا إِذَا اقْتَضَى».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ هَيِّنًا لَيِّنًا قَرِيبًا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». رَوَاهُ الحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.
وعلي التاجر أن يصدق في بيعه وشرائه، وليحذر من الكذب فإنه من صفات المنافقين، والصدق صفة محمودة في كل حين، وبالأخص في التجارة، فقد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ». رواه الترمذي وحسنه.
وأقول لهم اياكم والغش وتطفيف الميزان ولا تكنوا من الفجار
إن البيع هو عمل التجار و سبيل التجارة ولكن هل تعلم أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن التجار هم الفجار روي ابن ماجة عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ، فَوَجَدَ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ» فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ وَأَعْنَاقَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فُجَّارًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى وَبَرَّ وَصَدَقَ» الحاكم وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ “
كما أن البيع من الأمانة، والبخس في المكيال والميزان خيانة للأمانة، وهو سبب لاحتباسِ الأمطار وحرمان الناس والبهائم والأرض منها.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَمُرُّ بِالبَائِعِ، فَيَقُولُ: «اتَّقِ اللهَ، وَأَوْفِ الكَيْلَ وَالوَزْنَ، فَإِنَّ المُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ، حَتَّى إِنَّ العَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ».
وأقول لهم على البائع أن يتجنب الحلف في بيعه، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ ». رواه مسلم، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ» وعَدَّ المكثر من الحلف في البيع والشراء من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ، لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ ” رواه البيهقي.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَنْ هَؤُلَاءِ فَقَدْ خَابُوا وَقَدْ خَسِرُوا؟ فَقَالَ: الْمَنَّانُ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيحِهِ».
وعن سَلْمَان -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِم يَوْمَ القِيَامَةِ أُشَيْمِط زَانٍ -وَهُو مَن ابْيَضَّ شَعْرُ رَأْسِهِ مِن الكِبَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقَعُ في فَاحِشَةِ الزِّنَا- وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ -والعَائِلُ: الفَقِيرُ- وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ». رَوَاهُ الطبرانيُّ في «الكبير»
رابعاً : اياك والاحتكار
وَقَدْ رَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الِاحْتِكَارِ.
وَالِاحْتِكَارُ: هُوَ شِرَاءُ الشَّيْءِ وَحَبْسُهُ لِيَقِلَّ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَغْلُوَ سِعْرُهُ، وَيُصِيبَهُمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّرَرُ.
وَالِاحْتِكَارُ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»، وَالخَاطِئُ: الآثِمُ، وَالمَعْنَى لا يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الفِعْلِ الشَّنِيعِ إِلَّا مَنِ اعْتَادَ المَعْصِيَةَ.
وَالأُمَّةُ تُعَانِي فِي هَذَا الوَقْتِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الوَبِيلِ الَّذِي حَرَّمَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، وَنَدَّدَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَنْ فَعَلَهُ؛ وَهُوَ الِاحْتِكَارُ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التُّجَّارِ الَّذِينَ يُتَاجِرُونَ فِي السِّلَعِ الغِذَائِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ مِمَّا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ حَاجَةً مَاسَّةً، يَقُومُونَ بِهَذَا العَمَلِ الشَّنِيعِ، وَيَتَوَفَّرُونَ عَلَى صَنِيعِهِ، مِمَّا يُؤَدِّي بِالأُمَّةِ إِلَى الوُقُوعِ فِي الفَوْضَى، وانتشار الفقر وجهد الضعفاء
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللهِ وَبَرِئَ اللهُ مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلِ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللهِ” مسند أحمد
فالذي يحتكرُ السلع، ويُضَيِّقُ على المسلمين؛ يُضَيِّقُ اللهُ –تبارك وتعالى- عليه، ومهما جمعَ فإنه سيُحَاسَبُ عليه في الآخرة إن لم يُؤاخَذ به في الدنيا؛ مِن مرضٍ يَمْحَقُ ما عنده؛ لأنَّ هذا الذي أخذَ به وإنْ كان مَنْفَقَةً للسلعةِ –يعني جَالِبًا لارتفاعِ السعرِ لها- إلَّا أنه مَمْحَقَةٌ للبركةِ، فلا يبقى عنده شيءٌ، فكلُّ هذا ممَّا يُبْهَرَجُ أمامَ العينِ وهو مِن فِعلِ الشيطانِ الرجيمِ.
اقول قولي هذا واستفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله خلق كل شيء بقدر، وأكرم الإنسان بالفكر والنظر، وشرع لتحصيل علمه وتحصين عرضه طرقاً لا ضِرار فيها ولا ضَرر، وحرم الحصول على أي شيء بالغش والغرر.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تجعلنا ممن وحد الله تعالى وشكر، وآمن بالقضاء والقدر، وتميزنا عمن ألحد في الله تعالى وكفر
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله من كان له خير قول وأفضل أثر، وأصح الحديث والخبر، وأعظم شريعة تحمي الناس من الغش والخطر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أكرم البشر، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
إن الغش يا عباد الله يجمع أسوأ الصفات، وأقبح المعاصي، فهو يجمع الكذب والبتهان والزور، والخداع، والمكر، والاحتيال، والنصب، وخيانة الأمة، والتغرير، وأكل المال بالباطل، وعدم الرضا بقدر الله، وما قسم من الرزق إلى غير ذلك، من ذميم الأخلاق، وسيئ الخصال، فهو ظلمات بعضها فوق بعض؛ أجارنا الله وإياكم من أهله، وحفظنا من أربابه
الغش للنفس: إن أعظم أنواع الغش أن يغش الإنسان نفسه، فلا يصدق لها في النصيحة، ولا يقيمها على الدين، ولا يهذبها بالشرع، ولا يزكيها بالهدى، وقد قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) فالذي غش نفسه، مصيره الخيبة، وعاقبته الخسران ولا بد: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
الغش في العمل: فمن العُمّال والموظفين من يغشُّ في عمله ووظيفته، لا يتَّقي الله في وظيفته، يراوغ، ويخادع، ويُهمل، ويضيع، ويماطل، ويقصر، ولا يتقن العمل، ولا ينجزه في وقته، يخون الأمانة، ويضيع حقوق العباد، يختزل ساعات العمل، بل قد يطلب من زملائه التوقيع له بالحضور وهو غائب. فيحصلُ على مقابل أو راتب يَشوبُه الكثير من الحرام، يظن أنَّها شطارة وذكاء، وما هو إلا خسران وهلاك.
الغشّ في النّصيحة: فمِن الغشّ ترْكُ الأمر بالمعْروف والنَّهي عن المنكر، وعدمُ توجيه المسلم وإرشادِه إلى ما ينفعه، فمن استطاع أن ينصحَ أخاه عند حاجته إلى النصيحة فلم ينصحْه فقد غشه، وأخلّ بحق من حقوقه؛ فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: “بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم” (متفق عليه)، وفي صحيح مسلم عن تميم الداري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “الدين النصيحة” قلنا: لمن؟ قال: “لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم”.
الغشّ للرّعيّة: ويعمّ هذا كل من له مسؤولية على غيره، وتقلد أمرا من أمور المسلمين؛ لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” (متفق عليه).
فتعطيلُ مصالح الناس وتضييعُها والتلاعبُ بها من قِبَـل مَن هو مكلف برعايتها والقيام بها غِشّ وخيانة، حذرَ من ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: “ما من عبد يسترعيه الله رعيّة، يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيّته، إلّا حرّم الله عليه الجنّة” (أخرجه البخاري ومسلم عن معقل بن يسار -رضي الله عنه-)
علينا أنْ نتقي اللهَ في دينِنَا وفي بلدِنا فإنها على شَفَا، ثبَّتَهَا اللهُ وحَفِظَها وحمَاها وهو البرُّ الجوادُ اكريم
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جمع وترتيب \ ثروت سويف \ امام وخطيب ومدرس بالأوقاف المصرية