خطبة الجمعة القادمة ، مولد الهادي البشير ﷺ للدكتور مسعد الشايب

خطبة الجمعة القادمة ، مولد الهادي البشير صلي الله عليه وسلم للدكتور مسعد الشايب ، 13 من ربيع الأول 1447هـ الموافق 5 من سبتمبر 2025م
===========================================
خطبة الجمعة القادمة word، مولد الهادي البشير صلي الله عليه وسلم للدكتور مسعد الشايب
خطبة الجمعة القادمة pdf ، مولد الهادي البشير صلي الله عليه وسلم للدكتور مسعد الشايب
أولا: العناصر:
- ولادته (صلى الله عليه وسلم) يتيما، والحكمة في ذلك.
- نشأته (صلى الله عليه وسلم) على أكمل الأحوال من الطهر والعفاف.
- تنوع ألوان كدحه (صلى الله عليه وسلم).
- خدمته (صلى الله عليه وسلم) لمجتمعه.
- (الخطبة الثانية): مشروعية تجديد الاحتفال، والاحتفاء بمولده (صلى الله عليه وسلم).
===========================================
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله ربّ العالمين، الحمد لله الذي أنار الوجود بميلاد خير مولود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، سبحانه سبحانه بعث فينا رسولا من أنفسنا يتلوا علينا آياته، ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وقد كنّا من قبله في ضلال مبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا، وحبيبنا، وشفيعنا محمدًا عبده ورسوله:
هو الذي قد حاز كل الكمال …… وخصّ بالفضل وحسن المقال …… هو الذي جاءنا من الله رحمةً …… مفرقًا بين الهدى والضلال
محمدٌ المبعوث من هاشم …… أفضل من حاز جميع الخصال …… صلى الله عليه طول المدى …… ما عطّر الكون نسيم الشمال
فاللهم صلْ وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وأصحابه الأخيار، ومن سار على نهجهم إلى يوم القرار، وبعد:
======
أيها الأحبة الكرام: كلما هلّ علينا شهر ربيع الأول جدد المسلمون ـ في شتى بقاع الأرض من مشرقها إلى مغربها ـ جددوا الاحتفاء والاحتفال بميلاد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وميلاد رسول الله هو ميلادُ الرحمة، قال تعالي: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، وهو ميلادُ النور، قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة:15]، وهو ميلادِ الهداية، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}[الشورى:53،52].
=====
ولأن لكل مقام مقال فمن اللائق بنا ـ ونحن نجدد الاحتفال والاحتفاء بميلاد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ـ من اللائق بنا أن نطوف حول ميلاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأعيروني يا عباد الله القلوب واصغوا إليّ بالآذان والأسماع فأقول وبالله التوفيق:ـ
===========================================
(1) ((ولادته (صلى الله عليه وسلم) يتيما، والحكمة في ذلك))
===========================================
ولد النبي (صلى الله عليه وسلم) صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول (حقق ذلك محمود باشا الفلكي)، من عامِ محاولةِ أبرهة الأشرم الحبشي هدم الكعبة بالفيلة، والذي يُعرف بين علماء السير بعام الفيل، بعد خمس وخمسين يوما من حادثة الفيل. (تهذيب تاريخ دمشق، البداية والنهاية)، وكان هذا الميلاد موافقًا العشرين من شهر إبريل عام 571 من ميلاد المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام)، فعن أبي قتادة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سئل عن صيام يوم الاثنين فقال: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ ـ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)(رواه مسلم)
======
وقد اقتضت حكمة الله (عزّ وجلّ) أن يولد النبي (صلى الله عليه وسلم) يتيمًا: فقد مات أبوه وهو لايزال جنينًا في بطن أمّه؛ مات بعد شهرين من حمل السيدة آمنة بنت وهب بالمصطفى (صلى الله عليه وسلم)، والحكمة في ذلك: أن يتولى الله (عزّ وجلّ) تربيته، وعنايته ورعايته بدون تدخل أبوي، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6]، وعن ابن مسعود (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (أدَّبَنِي رَبِّي فأَحْسَنَ تَأدِيبِي)(أدب الإملاء لابن السمعاني).
=====
ولد النبي (صلى الله عليه وسلم) يتيما؛ حتى لا يدعي أحدٌ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أشرب حب الزعامة والرياسة من أبيه (وأنى ذلك ليتيم منكسر؟)، ولد النبي (صلى الله عليه وسلم) يتيما؛ حتى لا يدعي أحد أن اليتم نقمة يحول بين الانسان وأعلى المراتب، بل إن اليتم في كثير من الأحوال داعيٌ إلى التقدم والرفعة.
======
وقد جاء نبينا (صلى الله عليه وسلم)، وخرج إلى هذه الدنيا باجتماعٍ شرعيٍ بين آبائه وأمهاته، فلم يكن في نسبه الشريف شيء من سفاح الجاهلية، فهو (صلى الله عليه وسلم) قد تنقل في الأصلاب الطاهرة، والأرحام الطاهرة حتى جاء إلى هذا الدنيا، وفي هذا يقول (صلى الله عليه وسلم): (خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي, لَمْ يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ)(الشريعة للآجري).
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219]، وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال في هذه الآية: (يعني تقلبُه من صُلْبِ نَبِيٍّ إلى صُلْبِ نَبِيٍّ، حتى أَخْرَجَه نَبِيًا)(تفسير ابن كثير)، وهذه مكرمة توافرت للنبي (صلى الله عليه وسلم)، فبالرغم من طول الزمان الذي تقلب فيه، وبالرغم من كثرة الفترات التي ضل فيها الناس؛ خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من نكاح، ولم يخرج من سفاح.
===========================================
(2) ((نشأته (صلى الله عليه وسلم) على أكمل الأحوال من الطهر والعفاف))
===========================================
أيها الأحبة الكرام: بالرغم من انتشار القبائح والرذائل بين قريش في مكة؛ إلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نشأ على أكمل الأحوال من الطهر، والعفاف، والالتزام، فلم يشاركهم يوما في أعيادهم الشركية، ولم يتقرب يومًا لصنم، ولم يسجد لصنم، ولم يطف بصنم، ولم يتمسح بصنم، ولم يقسم مرة بصنم، ولم يقع في قبيحة من قبائحهم، ولا رذيلة من رذائلهم، فقد تعهده الله (عزّ وجلّ) بالحفظ والصيانة من أخلاق الجاهلية الذميمة ومساوئها، وتولاه بالرعاية والعناية كما تقدم، يروي لنا الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح أن جارا للسيدة خديجة سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل النبوة ـ وهو يقول لها: (أَيْ خَدِيجَةُ، وَاللهِ لَا أَعْبُدُ اللَّاتَ، وَاللهِ لَا أَعْبُدُ الْعُزَّى أَبَدًا). فتقول السيدة خديجة (رضي الله عنها): (خَلِّ اللَّاتَ، خَلِّ الْعُزَّى) أي: اتركهما ولا تعبدهما.
======
ولم يكتف النبي (صلى الله عليه وسلم) بترك عبادة أصنامهم وحسب؛ بل كان ينكر عليهم صنيعهم، وينهى عن التمسح بالأصنام قبل بعثته (صلى الله عليه وسلم)، فعن زيد بن حارثة (رضي الله عنه) قال: طفت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم، فمسست بعض الأصنام فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لَا تَمَسَّهَا)(المعجم الكبير)، وعن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا. قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى كَانَ مَعِي مِنْ قُرَيْشٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي غَنَمٍ لِأَهْلِنَا نَرْعَاهَا: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ). قال: نعم. (فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ غِنَاءً، وَصَوْتَ دُفُوفٍ، وَمَزَامِيرَ. قُلْتُ: مَا هَذَا؟). قالوا: فلان تزوج فلانة لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش. (فَلَهَوْتُ بِذَلِكَ الْغِنَاءِ، وَبِذَلِكَ الصَّوْتِ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي). فقال: ما فعلت؟. (فَأَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجْتُ، فَسَمِعْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي: مِثْلُ مَا قِيلَ لِي، فَسَمِعْتُ كَمَا سَمِعْتُ، حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي). فقال لي: ما فعلت؟. فقلت: (مَا فَعَلْتُ شَيْئًا). قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (فَوَ اللَّهِ، مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءٍ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِنُبُوَّتِهِ)(صحيح ابن حبّان)، وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه): (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ). فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة، قال: (فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))(متفق عليه)، قيل: إن ملكا لكمه لكمة شديدة لما حلّ (صلى الله عليه وسلم) إزاره عن عورته، وجعله على كتفيه. (سيرة ابن هشام)، وقيل: إن ملكا هو الذي شدّ إزاره عليه، فما رؤي (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك عريانا. (شرح النووي على مسلم).
======
هكذا نشأ النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل نبوته على أكمل الأحوال من الطهر، والعفاف، والالتزام، فلم يتلوث بشيء من قاذورات الجاهلية، وهذا درسٌ وعظةٌ لكل الشباب ألا ينغر بصحته، وقوته الجسمانية، وعنفوان الشباب فيقع في معصية الله وسخطه، فالشباب هو أخطر مرحلة عمرية في حياة الانسان وسيسأل عنها الشاب سؤالا خاصا يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لَا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟)(المعجم الكبير).
===========================================
(3) ((تنوع ألوان كدحه (صلى الله عليه وسلم))
===========================================
وبالرغم من كفالة جدِّه عبد المطلب له (صلى الله عليه وسلم) بعد وفاة أمه وهو في السادسة من عمره، ثم كفالة عمِّه أبي طالب له بعد وفاة جده وهو في الثامنة من عمره؛ إلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يعرف الكسل ولا البطالة، ولم يكن يوما عالة حتى على من قاموا بكفالته، إذ ليس من شأن الرجال ان يقعدوا عن طلب العيش، وكسب الرزق، وكذلك كان الأنبياء والمرسلون، كانوا يأكلون من عمل أيديهم، ويحترفون مهنًا متنوعة ليعيشوا من كسبها، وكذلك كان نبينا (صلى الله عليه وسلم)؛ فقد تنوعت ألوان كدحه (صلى الله عليه وسلم) منذ صغره:
======
فقد عمل (صلى الله عليه وسلم) برعي الأغنام: فعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ). فقال أصحابه: وأنت؟. فقال: (نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ)(رواه البخاري)، كذلك عمل النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتجارة منذ صغره: فقد خرج في أول رحلة تجارية وهو في الثانية عشرة من عمره إلى الشام مع عمّه أبي طالب وفي تلك الرحلة التقى ببحيرى الراهب، الذي رأى علامات النبوة في النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن ثَمَّ نصح أبا طالب أن يعود بالمصطفى (صلى الله عليه وسلم) خوفا عليه من الروم.
======
وهكذا تعددت ألوان كدحه (صلى الله عليه وسلم) منذ صغره، وفي هذا درس وعبرة لكل انسان أيضا أن يعمل ويكدح، وأن يأكل من عمله يده، ولا يكون عالة على مجتمعه ووطنه، فالعبرة في الإسلام بالعمل، وليست العبرة بطبيعة العمل، فكل عمل يوفر لي الغذاء، والكساء، ويحفظ لي ماء وجهي هو مرضي عند الله وعند رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (لَأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ، فَيَحْمِلَهَا عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، يُعْطِيهِ أَوْ يَمْنَعُهُ)(متفق عليه).
===========================================
(4) ((خدمته (صلى الله عليه وسلم) لمجتمعه))
===========================================
كذلك كان النبي خادما لمجتمعه، وبيئته التي يحيا فيها، بالرغم من كفرهم وشركهم، فاختلاف العقائد والثقافات، والتوجهات لا يمنعنا من التعامل بموجب الإنسانية، فقد شارك (صلى الله عليه وسلم) في حرب الفجار مع أعمامه وهو في العشرين من عمره، تلك الحرب التي هاجت بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان، وقد بدأت هذه الحرب بين مكة والطائف حتى وصلت إلى الكعبة، واستحلت حرمات البيت فلذلك سميت بحرب الفجار، ولأنها وقعت أيضا في الأشهر الحرم.
======
كذلك شارك النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في العشرين من عمره بعد حرب الفجار بقليل ـ في حلف الفضول الذي اجتمعت فيه بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان, فتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه، وتعاقدوا وتعاهدوا على التأسي في المعاش، فعن طلحة بن عبد الله بن عوف , أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ, وَلَوِ أُدْعَى بِهِ في الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ)(السنن الكبرى البيهقي) كذلك شارك النبي (صلى الله عليه وسلم) في تجديد بناء الكعبة وهو في الخامسة والثلاثين من عمره. وكان (صلى الله عليه وسلم) حافظًا للأمانات ملقبًا بالصادق الأمين.
======
هكذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) خادمًا لمجتمعه وبيئته، متفاعلا معها، حتى نزل عليه والوحي والرسالة، وفي هذا تقول السيدة خديجة (رضي الله عنها)، حينما رجع إليها (صلى الله عليه وسلم) يرتجف فؤاده ويقول: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي). فزملوه (صلى الله عليه وسلم) حتى ذهب عنه الروع، فقصّ على السيدة خديجة (رضي الله عنها) وأخبرها خبر الوحي وقال لها: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي). فقالت له: (كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ)(متفق عليه).
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
===========================================
(الخطبة الثانية)
((مشروعية تجديد الاحتفال، والاحتفاء بمولده (صلى الله عليه وسلم))
===========================================
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
======
أيها الأحبة الكرام: إن تجديد الاحتفال بميلاد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا حرج فيه شرعا، فهو أمر قرآني، ومنهج نبوي، تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعيته، وجوازه:ـ فمن القرآن الكريم:
==
- قوله تعالي: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58]، وميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم) أعظمُ فضلٍ من الله (عزّ وجل) على البشرية جمعاء، والنبي (صلى الله عليه وسلم) هو عين الرحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، فهذه الآية فيها دلالة على مشروعية الاحتفال بميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم).
==
- وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[إبراهيم:5]، فهذا أمر قرآني لنبي من أولي العزم من الرسل بتذكير بني إسرائيل بأيام الله أي: بأياديه ونعمه عليهم، وميلاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو أعظم أيام الله؛ لأنه ميلادُ الرحمة، ميلادُ النور، ميلادُ الهداية كما تقدم، فيجوز لنا التذكير به، ومن هذا التذكير تجديد الاحتفال بميلاده (صلى الله عليه وسلم)، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأتي في شريعتنا ما يخالفه، ولقد سنّ لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) مشروعية الاحتفال بالأيام العظيمة المباركة، ومنها: يوم مولده (صلى الله عليه).
==
- فقد سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن صيام يوم الاثنين فقال: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ ـ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)(رواه مسلم)، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) يرغّب في صيام يوم الاثنين لما وقع فيه من أحداث عظيمة ومنها مولده (صلى الله عليه وسلم)، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (وُلِدَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَوْمَ الاثنين، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الاثنين، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثنين، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثنين…وَرَفَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ يَوْمَ الاثنين)(مسند أحمد)، وهذا من أصرح الأدلة على مشروعية الاحتفال بمولده (صلى الله عليه وسلم).
==
- لما قدم النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة مهاجرا رأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: (مَا هَذَا؟). قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ). فصامه، وأمر بصيامه. (متفق عليه). فهذا دليل أخر على مشروعية الاحتفال بالأيام العظيمة، ومنها: يوم مولده (صلى الله عليه وسلم).
==
- ومن أصرح الأدلة على مشروعية الاحتفال بمولده (صلى الله عليه وسلم) ما رواه أنس (رضي الله عنه): (أَن النَّبِيّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم) عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا بُعِثَ نَبِيًّا)(الضياء في المختارة)، ومن المقرر فقهيا أن العقيقة لا تكرر، وقد عقّ عبد المطلب عن النبي (صلى الله عليه وسلم) سابع ولادته، فتكرار العقيقة من النبي (صلى الله عليه وسلم) دليلٌ على احتفاله (صلى الله عليه وسلم) بيوم مولده، ودليلٌ على مشروعية هذا الاحتفال.
فهذه النصوص من القرآن والسنة تدل على مشروعية وجواز الاحتفال بمولد النبي، وأنه (صلى الله عليه وسلم) أول من احتفل بذلك من البشر، وقد أخذ بذلك علماء الأمة كأبي شامة، وابن الجوزي وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم كثير (رحمهم الله).
===========================================
فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به عاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب