خطبة الجمعة : العقول المـحمدية للدكتـــــور/ محمد حســــن داود

خطبة الجمعة : العقول المـحمدية للدكتـــــور/ محمد حســــن داود (14 جمادى الآخرة 1447هـ – 5 ديسمبر 2025)
خطبة الجمعة : العقول المـحمدية word للدكتـــــور/ محمد حســــن داود
خطبة الجمعة : العقول المـحمدية pdf للدكتـــــور/ محمد حســــن داود
العناصـــــر :
– مكانة العقل وأهميته.
– من سمات العقول المحمدية.
– القرآن وتعزيز التفكير الإيجابي.
– النبي (صلى الله عليه وسلمَ) وتعزيز التفكير الإيجابي.
– تأثر الصحابة (رضي الله عنهم) بتفكير النبي (صلى الله عليه وسلمَ).
– أثر التفكير الإيجابي والتفكير السلبي.
الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي جعل العقل تكريما للإنسان، ورفعة لقدره، وميزة تفاضل بها على سائر المخلوقات، سبحانه، أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، أكمل الناس عقلا وخَلقا وخُلقا، وأعظمهم حكمة، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
إن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان: “نعمة العقـــل”، قال تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (الملك: 23)، فالعقل نور؛ به يعمل الإنسان، وينتج، ويتعامل، ويدبر أموره وشئونه، به يدرك الخير من الشر، به يسلك طريق الهدى، ويجتنب موارد الردى، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78)، فهذا العقل الذي جعله الله (عز وجل) في أعلى الجسد، ما كان ليوضع في هذا المكان الشامخ لولا قيمته ومكانته، إذ إنه محط التكريم، ومناط التكليف، ولله در القائل:
وَأَفضَلُ قَسْمِ اللَهِ لِلمَرءِ عَقلُهُ *** فَلَيسَ مِن الخَيراتِ شِيءٌ يُقارِبُه
والإسلام في كل جوانبه يهتم بالعقل، ويدعوه إلى التفكير الإيجابي، فلم يطلب الإسلام من الإنسان أن يطفئ مصابيح عقله، أو أن يعيش في ظلمات الجهل، وإنما يريد له أن يخرج من الظلمات إلى النور، من الجهل إلى العلم، من الكسل إلى العمل، من التقليد إلى الابتكار، إلى الإبداع، إلى التطوير، إلى النجاح، إلى التقدم، إلى الإتقان.
والناظر في القرآن الكريم يرى كم أكثر من ذكر العقل، في دلالة على مكانة إعماله، وإعلاء لقيمة التفكير الإيجابي وبيانا لمدى حرص الإسلام على ذلك، ومن ذلك قوله تعالى: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (البقرة: ٤٤)، وقوله عز وجل: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: ٧٣)، وقوله سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُون) (الأنفال: ٢٢)، وقوله جل وعلا: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: ٢٦٩)، وقوله سبحانه: (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (النحل: 12)، وقوله عز وجل: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13).
وإن من حرص الإسلام على إعمال العقول وتنمية الفكر الإيجابي أن جعل التفكر في آيات الله عبادة عظيمة، وذلك لما يثمره من صلاح القلب، وزيادة الإيمان، وتثبيت اليقين وغرس الخوف والخشية من الله، والبعد عن المعاصي؛ قال عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران190)، ويقول سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)(آل عمران190)” (صحيح ابن حبان).
فهذا العقل، وهذا التفكير الإيجابي وسيلة لمعرفة الله (عز وجل)، ودليل إلى الإيمان، وقائد إلى الطاعة والبر والإحسان، ورحمَ الله هذا الأعرابي الذي قالَ: “الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، والأثر يدُلُ عَلَى الْمَسِيرِ، فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، كَيْفَ لَا تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ الْخَبِيرِ”. وهذا هو الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان (رضي الله عنه)، وقد جاء أنه اجتمع به طائفة من الملاحدة، فقالوا: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: دعوني، فخاطري مشغول بأمر غريب. قالوا: وما هو؟ قال: بلغني أن سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها، فقالوا له: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال لهم: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من أرض وسماء وبحار وأنهار وإنسان وحيوان، ليس له من يدبر أمره؟.
إن العقول المـحمدية هي تلك العقول التي اهتدت بهدي القرآن الكريم، وسارت على تعاليم سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ) فأخذت من سيرته وسريرته، وتخلقت بأخلاقه، واهتدت بهديه، واقتفت أثره، فتهذبت واستقام مسارها، وأثمرت نفعًا لصاحبها وللناس، وما أعظم قول سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ” (رواه الطبراني).
فالعقول المحمدية أوسع العقول أملا وأكثرهم تفاؤلا واستبشارا؛ فإذا أَعْسَرَ صاحب العقل المحمدي أو ضاق به أمر، لم ينقطع أمله في اليُسْر والفرج؛ فقد قال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح: 5-6)، وإذا سعى، لم ينقطع أمله في الرزق؛ قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6)، وإذا دعا الله لم ينقطع أمله في الإجابة؛ قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وإذا اقترف ذنباً، لم ينقطع أمله في العفو والمغفرة؛ قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
العقول المحمدية تحافظ على الطاعة والتقرب إلى الله (عز وجل): فقد قال تعالى: (مَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 71).
العقول المحمدية تحافظ على العمل: إذ يقول حضرة النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها”.
العقول المحمدية تحرص على العلم: فقد قال سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ” (رواه أبو داود).
العقول المحمدية، تتمسك بالأخلاق الطيبة والسلوك الحسنة، فقد قال سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا” (رواه الترمذي).
العقول المحمدية هي تلك العقول التي ترتقى بكل معاني الإيجابية، وتنبذ معاني السلبية؛ وإن من حرص القرآن الكريم على تعزيز التفكير الإيجابي ومواجهة التفكير السلبي، أن حث على شغل العقول بالخير، ومنعها عن الشر، قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء: ١١٤)، وقال سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَان) (المائدة: ٢)، كما ضرب الله (عز وجل) لنا الأمثال في كتابه العزيز لحكم عظيمة، منها إيقاظ العقول حتى تأتمر بأوامره (سبحانه وتعالى) وتنزجر عن نواهيه، وتهتدي بنور الطاعة، ومن ذلك تلك الصورة التي تظهر الفارق بين من يحمل في نفسه طاقة على الخير والعمل وبين من لا يحمل لنفسه نفعا ولا لغيره عطاء، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل: 76).
كما دلنا سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ) على التفكير الإيجابي، قولا وعملا، فتراه يقول: “بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِم” (رواه مسلم)، ويقول: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ”، ويقول: وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ” (رواه مسلم).
ولما مر على هذا التاجر الذي شغل عقله بغش الناس وأذاهم في أموالهم، أخذ بزمام عقله وحوله من أذى الناس إلى نفعهم، ومن الاعتداء على أموالهم إلى حفظ حقوقهم، فعن أبي هريرة أنَّ رَسولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ) مَرَّ علَى صُبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا فقالَ: “ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ”؟ قالَ أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: “أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي” (رواه مسلم)،.
ولما سمع من ذلك الشاب الذى جاء يطلب منه إذن بالزنا، أخذ بزمام عقله، من أن يفكر في الاعتداء على الحرمات والأعراض إلى أن ينير بحفظها، فقال له: “أتحبُّه لأُمِّكَ؟” فقال: لا، جعلني اللهُ فداك، قال: “كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لِأمَّهاتِهم، أتحبُّه لابنتِك؟” قال: لا، جعلني اللهُ فداك. قال: “كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لبناتِهم، أتحبُّه لأختِك؟” ثم ذكر العمة والخالة، قال سيدنا أبو أمامة (رضي الله عنه) – راوي الحديث- فوضع رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم) يدَه على صدرِه وقال: “اللهمَّ طهِّرْ قلبَه واغفر ذنبَه وحصِّنْ فَرْجَه”، فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه منه.
ولما جاءه هذا الرجل الذي جعل قوته وقوت أولاده من سؤال الناس، أخذ بزمام عقله من أن يكون عالة على المجتمع هذا يعطيه وهذا يرده، إلى أن يكون رجلا نافعا عاملا، فقال له: أمَا في بَيتِكَ شَيءٌ ؟ قال : بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعضَهُ ونَبْسُطُ بَعضَهُ، وقَعْبٌ نَشرَبُ فيه من الماءِ قال : ائْتِنِي بِهِما. فأَتَاهُ بِهِما، فأخَذَهُما رسولُ اللهِ بِيدِهِ وقالَ : مَنْ يَشتَرِي مِنِّي هَذيْنِ ؟ قال رجلٌ : أنا آخُذُهُما بِدِرْهَمٍ. قال رسولُ اللهِ : مَنْ يَزِيدُ على دِرْهَمٍ. ( مَرَّتيْنِ أو ثلاثًا ) ؟ قال رَجلٌ : أنا آخُذُهُما بِدرْهَمَيْنِ. فأعطاهُمَا إيَّاهُ، فأخَذَ الدِّرْهميْنِ فأعطاهُما الأنصارِيَّ وقالَ : اشْتَرِ بِأحدِهِما طعامًا فانْبِذْهُ إلى أهلِكَ، واشْتَرِ بالآخَرِ قَدُومًا فائْتِنِي به فأَتَاهُ، فشَدَّ فيه رسولُ اللهِ عُودًا بِيدِهِ ثُمَّ قال : اذهبْ فاحْتَطِبْ وبِعْ، ولا أرَيَنَّكَ خَمسَةَ عَشَرَ يومًا فَفَعَلَ، فجاء وقَدْ أصابَ عَشْرةَ دَراهِمَ، فاشْتَرَى بِبَعضِها ثَوبًا وبِبَعضِها طعامًا، فقال رسولُ اللهِ : هذا خَيرٌ لكَ من أنْ تَجِيءَ المسألَةَ نُكْتَةً في وجهِكَ يومَ القيامةِ.
ولقد عاش الصحابة (رضي الله عنهم) معه (صلى الله عليه وسلمَ)، وتأثروا بتفكيره الإيجابي، فكان لهذا التفكير أثرا عميقا يسري في أرواحهم قبل عقولهم، فانبثقت في نفوسهم معاني الإيمان واليقين، وتهذبت طباعهم بأخلاقه الرفيعة، وتربت قلوبهم على كل المعاني الطيبة الكريمة، فانعكس كل توجيه يصدر عنه نورا في سلوكهم، وأفعالهم وأقوالهم وحياتهم كلها، حتى آثروا غيرهم على أنفسهم كما هو حال النبي (صلى الله عليه وسلمَ)، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أنَّ رَجُلًا أتَى النَّبيَّ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)، فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: ما معنَا إلَّا المَاءُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ): مَن يَضُمُّ -أوْ يُضِيفُ- هذا؟ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا، فَانْطَلَقَ به إلى امْرَأَتِهِ، فَقالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)، فَقالَتْ: ما عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أنَّهُما يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا إلى رَسولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)، فَقالَ: “ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أوْ عَجِبَ- مِن فَعَالِكُما.” فأنْزَلَ اللَّهُ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) (لحشر: 9).
وانظر ماذا كان من سيدنا أبي هريرة (رضي الله عنه) فعنه أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ): “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟” قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه): أَنَا، قَالَ: “فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟” قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَا، قَالَ: “فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟” قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَا، قَالَ: ” فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟” قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ): “مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ” (رواه مسلم)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ(رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُقْبَةَ الَّتِي بِالسُّوقِ. فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ، وَلَيْسَ مَعَ عَبْدِ اللهِ أَحَدٌ غَيْرِي، وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ، فَدَعَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلاً آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً، فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَاهُ: اسْتَرْخَيَا شَيْئاً فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلمَ) يَقُولُ: “لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ”.
إن طريق التقدم والازدهار والفلاح والنجاح مرهون بإيجابية العقول، بإعمال العقل في الخير، ومن ثم فمن أعمله في الشر فقد خاب وخسر، فالتفكير الإيجابي يثمر في القلوب نورا وفي الجوارح عطاء؛ يثمر التفاؤل، وحب الناس، والألفة والمودة وجميع معاني العطاء، والنبي (صلى الله عليه وسلمَ) يقول: “والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ”، كما يثمر حسن الظن بالله (عز وجل) والثقة بما عنده من الفضل والأجر، وسيدنا عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) يقول: “والذي لا إله غيره ما أعطي عبد مؤمن شيئا خيرا من حسن الظن بالله تعالى، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه، ذلك بأن الخير في يده ” (رواه ابن أبي الدنيا).
أما التفكير السلبي فيعطل الطاقات، ويورث الحسد والحقد، وما كان على شاكلتهما، والنبي (صلى الله عليه وسلمَ) يقول: “لا تَحاسدُوا، وَلا تناجشُوا، وَلا تَباغَضُوا، وَلا تَدابرُوا”، بل وربما يصل بالعبد إلى القنوط واليأس، ولقد جاء عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: “الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالإِياسُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ”.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق واصرف عنا سيئها
واحفظ اللهم مصر من كل مكروه وسوء
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن









