خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبةُ الجمعةِ القادمةِ: حبُ التناهي شططٌ خيرٌ الأمورِ الوسطٌ د. مُحمد حرز

خطبةُ الجمعةِ القادمةِ: حبُ التناهي شططٌ خيرٌ الأمورِ الوسطٌ د. مُحمد حرز بتاريخ: 18 ذو القعدة 1446هــ – 16مايو 2025م

خطبةُ الجمعةِ القادمةِ word: حبُ التناهي شططٌ خيرٌ الأمورِ الوسطٌ د. مُحمد حرز 

خطبةُ الجمعةِ القادمةِ pdf: حبُ التناهي شططٌ خيرٌ الأمورِ الوسطٌ د. مُحمد حرز 

 

الحمدُ لله الّذي أَرْسَلَ رَسُولَه بالهُدَى ودِينِ الحقِّ، ليُظْهِرَهُ على الدِّينِ كلِّهِ وكفى بالله شهيدًا، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، إلهُ الأولينَ والآخرينَ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ سيدُ المرسلينَ وإمامُ المتقينَ، فاللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وزدْ وباركْ على النبيٍّ المختارِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأطهارِ الأخيارِ وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين. أما بعدُ ….. فأوصيكُم ونفسي أيها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (أل عمران :102) يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللَهِ حُبَّكُمُ ***فَرضٌ مِنَ اللهِ في القُرآنِ أَنزَلَهُ يَكفيكُمُ مِن عَظيمِ الفَخرِ أَنَّكُمُ ***مَن لَم يُصَلِّ عَلَيكُم لا صَلاةَ لَهُ

عبادَ اللهِ : ((حبُ التناهي شططٌ خيرٌ الأمورِ الوسطٌ(( عنوانُ وزارَتِنا وعنوانُ خطبَتِنا

عناصرُ اللقاءِ:

أولًا: التناهي التشددُ والتنطعُ والغلوُّ هلاكٌ ودمارٌ.

ثانيـــًا: خيٌر الأمورِ أوسطٌها، بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ.

ثالثــــًا: الوسطيًّةَ والوسطيّةَ تفلحوا عبادَ اللهِ.

أيُّها السادةُ: ما أحوجَنَا إلي أنْ يكونَ حديثُنا عن حب التناهي شططٌ خيرِ الأمورِ الوسطٌ وخاصةً والواسطيَّةُ والاعتدالُ من أسبابِ الأمنِ والأمانِ والسلامةِ والاستقرارِ ،وخاصةَ ولقلَّةِ الحرصِ والعلمِ، ولغيابِ المعنى الصحيحِ للوسَطِيَّةِ، فقد تاه كثيرٌ من الناسِ بين الإفراطِ والتفريطِ، وبين التهويلِ والتهوينِ، وبين الغُلُوِّ والجفاءِ، بين التشددِ والتسيبِ، وضاعَ بسبب ذلك الكثيرُ من معالمِ الدينِ الحقِّ، وفَقَدَ التطبيق الأمثل لبعض النصوصِ الشرعيةِ، وظهرت مذاهبُ ومشاربُ متضاربةً، كلٌّ يدَّعِي أنه الحقُّ والصوابُ، وأنه على الصراطِ المستقيمِ، وأن غيره ضالٌّ ومنحرفٌ، بينما المنهجُ الحقُّ والسبيلُ الأقومُ هو ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ القائلُ في الحديثِ الصحيح: ((فإنَّه مَن يَعِشْ منكم فسيَرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ))، وخاصةً والوسطيةُ – يا عبادَ اللهِ – حسنةٌ بين سيئتين، ونورٌ بين ظُلمتين، وهي تعني فعلَ المطلوبِ من غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ؛ فالزيادةٌ والتناهي غلوٌ وإفراطٌ، والنقصُ تقصيٌر وتفريطٌ؛ كما قال الشاعر:

ولا تَغْلُ في شيءٍ من الأمرِ واقتَصِدْ كِلا طرفَيْ قَصدِ الأمورِ ذَميمُ

أولًا: التناهي التشددُ والتنطعُ والغلوُّ هلاكٌ ودمارٌ

أيُّها السادةُ: إنَّ اللهَ جلّ وعلا وضعَ قواعدَ دينهِ الذى شرَعَهُ لعبادِهِ وجعلَ مبناهَا على التيسيرِ والرفقِ واللينِ، فلم يرد اللهُ بالناسِ إلّا الخيرَ فيمَا شرعَ وأمرَ حتى يسهلَ عليهم أنْ يستقيموا ويستجيبوا لأمرِ خالقِهِم سبحانَهُ جلَّ وعلا، قالَ سبحانَهُ: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» [الحج: 78]، وقالَ سبحانَهُ: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» [البقرة: 286] وَعن أبي هريرةَ t قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». لذا قالَ النبيُّ ﷺ كما في حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ».وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَنْ تَنَالَهُمَا شَفَاعَتِي: إِمَامٌ ظَلُومٌ، وَكُلُّ غَالٍ مَارِقٍ». لذا فأَنَّ الغُلُوَّ آفَةٌ خَطِيرَةٌ، وَدَاءٌ فَتَّاكٌ مُسْتَطِيرٌ، لِذَا حَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ من الغُلُوِّ والتَّشَدُّدِ، وَصَاحِبُ الغُلُوِّ مَحْرُومٌ يَوْمَ الدِّينِ من شَفَاعَةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وكيف لا؟ وإِنَّ الإِقْبَالَ عَلَى التَّدَيُّنِ بِحَالِ المُبَالَغَةِ وَالتَّشَدُّدِ يَقْذِفُ فِي القُلُوبِ الكِبْرَ وَالعُلُوَّ عَلَى خَلْقِ اللهِ، فيَنْبُتُ التَّكْفِيرُ وَالتَّطَرُّفُ وَالإِرْهَابُ، كَحَالِ ذِي الخُوَيْصِرَةِ وأَصْحَابِهِ، الَّذِي بَلَغَ بِهِ الاسْتِعْلَاءُ أَنْ يَظُنَّ نَفْسَهُ صَاحِبَ مِيزَانِ الحُكْمِ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى عَلَى الجَنَابِ المُعَظَّمِ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ»، فَقَالَ لَهُ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: «وَيْلَك! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ»، ثُمَّ قَالَ ﷺ: «فَإنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَأُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، فَكَانَ الخُسْرَانُ وَالخَيْبَةُ لِكُلِّ ذِي خُوَيْصِرَةٍ. فلقد ظهرَ الخوارجُ وخرجُوا على عثمانَ ذي النورينِ الذي تزوجَ بنتَي رسولِ اللهِ ﷺ، الخليفةِ الراشدِ بعدَ أبي بكرٍ وعمرَ رضي اللهُ عنهم، الذي شهدَ لهُ النبيُّ ﷺ بالجنةِ، وقتلوهُ زاعمينَ أنّهُ كافرٌ! وهم يزعمونَ أنَّهُم بذلك يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ!. لذا قال المصطفَى ﷺ كما في حديثِ ابنِ عباسٍ: (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ) وكيف لا؟ التشددُ والتنطعُ داءٌ اجتماعيٌّ خطيرٌ، ووباءٌ خُلقيٌّ كبيرٌ، ما فشَا في أمةٍ إلَّا كان نذيرًا لهلاكِهَا، و ما دبَّ في أسرةٍ إلّا كان سببًا لفنائِهَا، فهو مصدرٌ لكلِّ عداءٍ وينبوعُ كلِّ شرٍ وتعاسةٍ، والتنطع ُ والغلوُّ آفةٌ مِن آفاتِ الإنسانِ، مدخلٌ كبيرٌ للشيطانِ ،مدمرٌ للقلبِ والأركانِ، يفرقُ بينَ الأحبةِ والإخوةِ، يحرمُ صاحبَهُ: الأمنَ والأمانَ ،ويدخلُهُ النيرانَ، ويبعدُهُ عن الجنانِ، فالبعدُ عنهُ خيرٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. لذا نهانَا دينُنَا عن التشديدِ في العبادةِ؛ رفقًا بالنفسِ: فعن عائشةَ – رضي اللهُ عنها أنَّ النبيَّ ﷺ قال: (يا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ، وَإِنْ قَلَّ)، وعن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ – رضي اللهُ عنه – قال: دَخَلَ النبيُّ ﷺ فإذا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بين السَّارِيَتَيْنِ فقال: (مَا هذا الْحَبْلُ؟)، قالوا: هذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فإذا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فقال النبي ﷺ: (لاَ، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فإذا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)، وأمرنَا دينُنَا بالتخفيفِ في الصلاةِ؛ رِفقًا بالناسِ، فعن أبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: ( إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ الضَّعِيفَ، وَالسَّقِيمَ، وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ)، و عن أبي قَتَادَةَ – رضي اللهُ عنه، عن النبيِّ ﷺ قال: (إِنِّي لأَقُومُ في الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فيها، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ في صَلاَتِي؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَ عَلَى أُمِّهِ) و عن أبي مَسْعُودٍ الأنصاريِّ – رضي الله عنه – قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فقال: إنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلاَةِ في الْفَجْرِ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلاَنٌ فِيْهَا. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ (.فالغلوُّ والتشددُ والتزيُّدُ في دينِ اللهِ هو مِن سبيلِ الشيطانِ، وهي ركضةٌ يركضُ بها عدوُّ اللهِ في بعضِ المؤمنينَ المطيعينَ للهِ ليصرفَهُم عن طاعةِ اللهِ جلّ وعلا، ولا يزالُ عدوُّ اللهِ ينصبُ حبائلَهُ ويضعُ مصائدَهُ ويبثُّ جنودَهُ ليظفرَ مِن المؤمنينَ بأحدِ الأمرينِ . وتأملُوا رعاكُم اللهُ هذا الحديثَ عن النبيِّ ﷺ وهو مخرَّجٌ في صحيحِ ابنِ حبان بإسنادٍ ثابتٍ مِن حديثِ أبي موسى الأشعرِي رضي اللهُ عنه قال : قال رسولُ اللهِ ﷺ: (إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ ، فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ، قَالَ: فَيَخْرُجُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَجِيءُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَبَرَّ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشْرَكَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى زَنَى فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ )، وتأملُوا – عبادَ الله – كيف يتنافسُ جنودُ إبليس وأعوانُهُ في تحقيقِ غاياتِهِ ومراداتِهِ في صدِّ الناسِ عن دينِ اللهِ وصرفهِم عن طاعةِ اللهِ إمّا بالعقوقِ والقطيعةِ، أو بالإفسادِ والإضلالِ، أو بالقتلِ والتدميرِ، أو غيرِ ذلكَ مِن المسالكِ التي هي مَن تزينُ الشيطان، فالحذرَ الحذرَ، الانتباهَ الانتباهَ قبلَ فواتِ الأوانِ والندمَ على ما فات. قال رجلٌ لابنِ عباس رضي الله عنهما: إن العربَ تقولً: “حبُّ التناهي شططٌ وخيرُ الأموِر الوسطُ، فهل هذا موجودٌ في القرآنِ؟ قال: نعم في أربعةِ مواضعٍ في قوله تعالى في وصفِ بقرةِ موسى عليه السلام :{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنَ لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} [سورة البقرة، آية68] أي وسط بين الكبرِ والصغرِ في السن .وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىَ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مّحْسُورًا } [الإسراء :29] أي فتوسط بين الأمرين في الإنفاق. وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [سورة الإسراء آية110]وهذا السبيلُ هو الوسط ُفي القراءةِ والدعاءِ. وفي قوله تعالى في مدحِ عبادِ الرحمنِ المعتدلين ِ{ وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [سورة الفرقان، آية67]. أي وسطا في المعيشة. فالرفقَ الرفقَ عبادَ الله :هكذا كان نبيُّنَا ﷺ، فدعاءُ النبيِّ ﷺ لأمتِهِ وبكائِهِ شفقةً عليهم ورفقًا بهم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ-رضي اللهُ عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ: تَلاَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» الآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى -عليه السلام-: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى» فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ»؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عليه السلام- فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ ، وَلاَ نسوؤك»

ثانيـــًا: خيٌر الأمورِ أوسطٌها، بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ.

أيُّها السادةُ: بدايةً الإسلامُ دينُ السلامِ، دينُ الوسطيةِ، دينُ الاعتدالِ، ليس دينَ التطرفِ والإرهابِ، ليس دينَ التكفيرِ والغلوِّ والتشددِ، ليس دينَ التساهلِ إنَّمَا دينُ الوسطيةِ والاعتدالِ فلا إفراطَ ولا تفريطَ، ولا غلوَّ ولا تقصيرَ، ولا مبالغةً ولا ميوعةً، قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: 67]، ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: 110]، ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: 29]. قال جلَّ وعلا في حقِّ أمةِ الإسلامِ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]،

وقال زهيرُ بنُ أبي سُلْمى:

هم وَسَطٌ يرضى الأنامُ بحُكمِهم إذ نزَلْتَ إحدى اللَّيالي بمُعظمِ

وفي الحديث الصحيح: ((اعْمَلْ لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا))، وعن عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: (أحبِبْ حبيبَك هَونًا ما؛ عسى أن يكونَ بغيضَك يومًا ما، وأبغِضْ بغيضَك هَونًا ما؛ عسى أن يكونَ حبيبَك يومًا ما) وتُعدُّ الوسطيةُ مِن أعظمِ الخصائصِ التي تميزتْ بهَا الأمةُ الإسلاميةُ، الوسطيةُ بمفهومِهَا الشاملِ المرتكزِ على معنَى الخيريةِ والعدالةِ والبيِّنيةِ، واستمدتهَا مِن منهجِ الإسلامِ ونظامِهِ، وهو منهجُ الوسطِ والاعتدالِ والتوازنِ، الذي اختارَهُ اللهُ شعارًا مميزًا لهذه الأمةِ التي هي آخرُ الأممِ، وللرسالةِ التي ختمتْ بهَا الرسالاتُ، فالوسطيةُ هي المنهجُ الربانِيُّ الذي ينسجمُ مع الفطرةِ الإنسانيةِ، الوسطيةُ: هي نشوءُ أجيالٍ مِن رجالٍ يسيرونَ على دربِ الرجالِ الأوائلِ، يُتمّونَ ما بدأوا، ويكملُون ما بهِ شرعوا، دونَ غلوٍّ فيهِم أو جفاءٍ لهُم، لذا نجدُ الإسلامَ وسطًا بينَ المللِ، فلا إلحادَ ولا وثنيةَ، لا عبادةَ الأصنامِ، ولا عبادةَ الأحجارِ قالَ جلَّ وعلا: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، فالإسلامُ منهجٌ قائمٌ على الاعتدالِ أساسهُ الحكمةُ والموعظةُ الحسنةُ، والجدالُ بالتِي هي أحسنُ، عمادُهُ اللينُ والرفقُ في غيرِ ضعفٍ، وفي الوقتِ ذاتِهِ الجدالُ بالتِي هي أحسنُ للإقناعِ وإقامةِ الحجةِ، دونَ إكراهٍ ولا قهرٍ، فمَن آمنَ فلهُ ما لنَا وعليهِ ما علينَا، ومَن اختارَ دينَهُ فلا حرجَ على أنْ يكفَّ عن المسلمينَ يدَهُ ولسانَهُ، قالَ جلَّ وعلا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. قال الأوزاعي -رحمه الله-: ما من أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ به، إلا عارض الشيطانُ فيه بخصلتين، ولا يبالى أيهما أصاب: الغلو، أو التقصير))ولن تجدَ أعظمَ مِن الإسلامِ وسطيةً واعتدالًا، فللرجلِ حقوقُهُ، وللمرأةِ حقوقُهَا، وللزوجِ حقوقُهُ، وللزوجةِ حقوقُهَا، وللآباءِ حقوقُهُم، وللأبناءِ حقوقُهُم، وللإخوةِ حقوقُهُم، وللأقاربِ حقوقُهُم، وللجيرانِ حقوقُهُم، كلُّ ذلكَ في إطارٍ مِن التوازنِ، يضمنُ تماسَكَ المجتمعِ، ويحققُ التكاملَ بينَ أفرادِهِ، قالَ تعالَى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]. وأقرَّ النبيُّ ﷺ قولَ سلمانَ لأبِي الدرداء رضي اللهُ عنها: ( إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ”. قَالَهَا ثَلَاثًا. وقال إمامٌ المرَبِّين -صلى الله عليه وسلم-: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ)). وروى الامام البخاري في صحيحه : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – :« لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ » .قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: « وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ،سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ،وَاغْدُوا وَرُوحُوا ، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ .وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا » فالله عز وجل ما شرع الشرائع ليشقى بها العباد ، وإنما لسعادتهم، كما قال تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه: 2] ،وقال الله تعالى : (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]. لذا أنكر النبيٌّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من شدد على نفسِه في العبادةِ، فعن عائشةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» قَالَتْ: فُلاَنَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا، قَالَ: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ” فهذه المرأةُ كانت لا تنامُ الليلَ كما في بعضِ رواياتِ الحديثِ، فزجرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذا الفعلِ الذي فيه شدة على النفس ،ولا يستطيع الانسان المداومة عليه ،وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلاَثًا» ،فالتشددُ في غيرِ موضع ِالشدةِ بابٌ من أبوابِ الهلاكِ والخسارةِ، قال الذهبي: “وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدرا، والسعادةُ في متابعةِ السنن، فزن الأمورَ بالعدلِ، قال الحسنُ رحمه الله: ((نفوسُكم مطاياكُم؛ فأصلحوا مطاياكم تبلغٌكم إلى ربِّكم عز وجل)) فكلٌّ تعاليمِ الإسلامِ وأحكامِه وشرائعِه، مبنيةٌ على التوسطِ والاعتدالِ، وعلى الرفقِ والتيسيرِ، فالتيسيرُ مقصِدٌ من مقاصدِ هذا الدينِ العظيمِ، وصفةٌ عامةٌ للشريعةِ في أحكامِها وعقائدِها، وأخلاقِها ومعاملاتِها، وأصولِها وفروعِها؛ قال جلَّ وعلا: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال سبحانه: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وقال رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن نفسِه كما في صحيحِ مسلمِ: ((إن الله لم يبعثني مُعنِّتًا ولا مُتَعَنِّتًا، ولكن بعثني معلمًا مُيسِّرًا))، وفي الحديث الصحيح: قال رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ((يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا))،وفي الصحيحين من حديث أمِّ المؤمنين عائشةَ رضى الله عنها قالت قال رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : ((ما خُيِّرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فإنْ كانَ إثْمًا كانَ أبْعَدَ النَّاسِ منه، وما انْتَقَمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِنَفْسِهِ في شيءٍ قَطُّ، إلَّا أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ بهَا لِلَّهِ.)). وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا))ًأي: كانت معتدلةً، وسطًا بين الطولِ والقصِر. ولله در القائل:

لا تذهَبَنَّ في الأمورِ فَرَطَا لا تسألَنَّ إن سأَلْتَ شَطَطَا

وكُنْ من النَّاسِ جميعًا وَسَطَا

فالإسلامُ وسطٌ بين من غلا في أمرِ الدنيا، ولم يهتمْ بالآخرة، وبين من غلا في أمرِ الآخرةِ، ونظر إلى الدنيا نظرةَ ازدراءِ وابتعادِ. وهكذا التوازنٌ بين مطالبِ البدنِ ومطالبِ القلبِ. لذا لما بلغ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -صلى الله عليه وسلم- أن ثلاثةَ رهطٍ، أرادَ أحدُهم أن يصلي الليلَ أبدًا، وأراد ثانيهم أن يصومَ الدهرَ ولا يٌفطرَ، وعزم الثالثُ على أن يعتزلَ النساءِ. . ولكن الرسولَ – صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – لم يقر هذا الاتجاهَ فبادر بعلاجِه، وصححَ نظرتَهم لتحصيلِ خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتناهي من أعمالٍ والتفريطِ في أخرى، ولكنها تحصلٌ بالموازنةِ بين جميعِ مطالبِ الله جل وعلا، وهذا هو عينُ الوسطيةِ والحكمةِ والاستقامةِ والاعتدالِ والعدلِ. ففي صحيح البخاري من حديث أنس رضى الله عنه ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)) لذا كان صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يعطي الدنيا حقَّها والآخرةَ حقًّها بالقسطاسِ المستقيمِ، وكان صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من دعائه: (( اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ)).

عليك بأوساطِ الأمورِ فإنَّها نجاةٌ ولا تركَبْ ذَلولًا ولا صَعبَا

ولله در القائل:وخيرُ خلائِقِ الأقوامِ خُلُقٌ توسَّطْ لا احتشامَ ولا اغتنامَا

وأرجئُ بقيةً الحديثِ إلى ما بعدَ جلسةِ الاستراحةِ . أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم

الخطبةُ الثانيةُ الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلا له وبسم اللهِ ولا يستعانُ إلا بهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعدُ

ثالثــــًا: الوسطيًّةَ والوسطيّةَ تفلحوا عبادَ اللهِ.

أيُّها السادةُ: عليكم بالوسطيةِ الصحيحةِ، واحذروا الإفراطَ والتفريطَ؛ فإنه خسارةٌ في الدنيا، وندامةٌ في الآخرةٌ؛ قال تعالى مخبرًا عن حال ِأهلِ النارِ، وندمِهم يومَ لا ينفعُ الندم: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10، 11]، وقال جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 – 11

فجُدْ بالتَّوسُّطِ في كُلِّ أمرٍ إذا ما وَلِيتَ هو الأجمَلُ

فالتوازنُ في الحياةِ، والتوفيقُ بين الحقوقِ والواجباتِ، مِنْ أهمِّ المهماتِ، فيكونُ المرءُ مُتَّزِنًا فِي عباداته ومعامَلاتِه، لا يطغى أمرٌ على حساب غيره، ولا يُقدِّم المهمَّ على الأهم، ولا المفضولَ على الفاضل، وهو المنهج الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه الكرام، فالاعتدالُ هو الاعتصامُ بحبلِ اللهِ المتينِ، والسيرُ على صراطِه المستقيمِ، قال جل وعلا ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الْأَنْعَامِ: 153]، وفي سنن الترمذي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ”، فأولُ الحقوقِ عندَ أهل التوسط والاعتدال، هو حَقُّ الرب الكريم المتعال، فالله -سبحانه- لم يخلقنا عبثًا، ولم يتركنا هملا قال جل وعلا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم)ِ)الْمُؤْمِنَونَ: 115-116]، فخلَقَنا -سبحانه- لعبادته، وحدَه لا شريكَ له، قال صلى الله عليه وسلم: “يا مُعاذُ، أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟”، قُال معاذٌ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: “حَقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ -عز وجل- ألَّا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا”.وإذا أدَّى العبدُ حقَّ ربه، انتظمَتْ حياتُه، وأعانَه اللهُ على أداء باقي حقوقه، ومن ذلك حق نفسه عليه، من متطلَّباتها الروحيَّة، وحاجاتها الجسدية.يا ابن آدم، عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّتٌ، وأحْبِبْ مَن شئتَ فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مَجْزِيٌّ به، فيا هذا نَفَسُكَ معدودٌ، وعمرُكَ محسوبٌ، فكم أملتَ أملًا وانقضي الزمانُ وفاتَكَ، ولا أراكَ تفيقُ حتى تلقي وفاتَكَ، فاحذرْ ذللَ قدمِكَ وخفْ طولَ ندمِكَ واغتنمْ حياتَكَ قبلَ موتِكَ في طاعةِ ربِّك .

دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة ٌ له *** إنَّ الحياة َ دقائقٌ وثواني

فارفعْ لنفسِكَ بعدَ موتكَ ذكرَهَا *** فالذكرُ للإنسانِ عُمرٌ ثاني

حفظَ اللهُ مصرَ مِن كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.

كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه

د/ محمد حرز إمام بوزارة الأوقاف

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى