خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (هَلا شقَقتَ عن قلبِهِ) د. مُحَمَّدُ حِرْز

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (هَلا شقَقتَ عن قلبِهِ) د. مُحَمَّدُ حِرْز بتاريخ 23 جُمَادَى الأَوَّلِ 1447هـ – 14 نَوْفَمْبِرَ 2025م

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ WORD (هَلا شقَقتَ عن قلبِهِ) د. مُحَمَّدُ حِرْز

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ PDF (هَلا شقَقتَ عن قلبِهِ) د. مُحَمَّدُ حِرْز

الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِالْعِزِّ وَالْجَلَالِ، وَتَوَحَّدَ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالْكَمَالِ، وَجَلَّ عَنِ الأَشْبَاهِ وَالأَشْكَالِ، الْحَمْدُ للهِ ، الَّذِي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ‌الصُّدُورُ﴾ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَحَبِيبَنَا وَعَظِيمَنَا وَقَائِدَنَا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، صَاحِبُ الْوَجْهِ الْأَنْوَرِ وَالْجَبِينِ الْأَزْهَرِ، إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ الْحُنَفَاءِ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ الْـمُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ الأَخْيَارِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللَهِ حُبَّكُمُ ***فَرضٌ مِنَ اللهِ في القُرآنِ أَنزَلَهُ

يَكفيكُمُ مِن عَظيمِ الفَخرِ أَنَّكُمُ ***مَن لَم يُصَلِّ عَلَيكُم لا صَلاةَ لَهُ

أَمَّا بَعْدُ … فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]. عِبَادَ اللَّهِ: هَلا شقَقتَ عن قلبِهِ » عُنْوَانُ وِزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.

عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:

❖ أَوَّلًا: النَّوَايَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّـهُ جَلَّ وَعَلَا.

❖ ثَانِيًا: التَّمَاسُ الأَعْذَارِ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ أَيُّهَا الْأَخْيَارُ.

❖ ثَالِثًا وَأَخِيرًا: الرَّشْوَةُ خَطَرٌ جَسِيمٌ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ هَلا شَقَقْتَ عَن قَلْبِهِ حَدِيثُنَا – بِإِذْنِ اللَّهِ – فِي هَذِهِ الْجُمُعَةِ عَنْ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وَخَصْلَةٍ مُنكَرَةٍ، ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَخَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَانِ، مِنْ خِلَالِهَا فَقَدُوا إِخْوَانَهُمْ، وَخَلَانَهُمْ، وَأَقَارِبَهُمْ، بَلْ فَقَدُوا لَذَّةَ الْحَيَاةِ، وَمُتْعَتَهَا أَنَّهُ التَّشْكِيكُ فِي النَّاسِ وَنِيَّاتِهِمْ ،وَخَاصَّةً وَالْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَلَا تَتَّبِعُوا الْعَوْرَاتِ، وَلَا تُصَيَّدُوا السَّقَطَاتِ، وَلَا تَبْحَثُوا عَنْ الزَّلَّاتِ، وَكُنْ كَالنَّحْلَةِ تَسْقُطُ عَلَى الْوَرْدِ وَالزُّهُورِ، وَلَا تَكُنْ كَالذُّبَابِ حَيْثُ يَسْقُطُ عَلَى الْقَاذُورَاتِ وَالْخَبَائِثِ، لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ إِلَّا خَيْرًا، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا ، قَالَ فَارُوقُ الأُمَّةِ الأوَّابُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لأمرئ مُسْلِمٍ سَمِعَ مِنْ أَخِيهِ كَلِمَةً يَظُنُّ بِهَا سُوءًا، وَهُوَ يَجِدُ لَهَا فِي شَيءٍ مِّنَ الْخَيْرِ مَخْرَجًا» وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا انْشَغَلْنَا فِيهِ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَنَسِينَا عُيُوبَنَا، انْشَغَلْنَا بِالْحَدِيثِ عَنْ النَّاسِ وَغَايَتِهِمْ وَنَسِينَا أَنْفُسَنَا وَغَاياتِنَا، وَخَاصَّةً وَنَعِيشُ زَمَانًا تَدَخَّلْنَا فِيهِ فِي نَوَايَا النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ مؤلمةٍ، وَخَاصَّةً وَسُوءُ الظَّنِّ بِالناسِ وَالتَّشْكِيكُ فِي نِيَّاتِهِمْ أَدَّى إِلَى انْتِشَارِ الْفِرَقِ التَّكْفِيرِيَّةِ الضَّالَّةِ وَالْمُنْحَرِفَةِ وَالْأَفْكَارِ الطَّائِشَةِ، وَالْآرَاءِ الْهَزِيلَةِ، الَّتِي تُشَوِّهُ صُورَةَ الْإِسْلَامِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّـهِ، وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا انْتَشَرَ فِيهِ التَّكْفِيرُ وَالتَّبْدِيعُ وَالتَّفْسِيقُ بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ خَاصَّةً بَيْنَ انْتِشَارِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الْاجْتِمَاعِيِّ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّـهِ وَخَاصَّةً وَإِنَّ أَصْحَابَ العُقُولِ الكَبِيرَةِ وَالتَّدَيُّنِ الصَّحِيحِ يُؤَلِّفُونَ القُلُوبَ، وَيَجْمَعُونَ أَبْنَاءَ الأُمَّةِ عَلَى الأُلفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالأُخُوَّةِ، وَتَرْكِ سُوءِ الظَّنِّ بِالْآخَرِينَ. وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

وَعَيْنُ الرِّضا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلَيْلَةٌ *** وَلَـكِنْ عَيْنُ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا

❖ أَوَّلًا: النَّوَايَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّـهُ جَلَّ وَعَلَا.

أَيُّهَا السَّادَةُ: التَّشْكِيكُ فِي النَّاسِ وَنِيَّاتِهِمْ دَاءٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ ، وَوَبَاءٌ خُلْقِيٌّ كَبِيرٌ ، مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلَّا كَانَ نَذِيرًا لِهَلَاكِهَا ، وَمَا دَبَّ فِي أُسْرَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبًا لِفَنَائِهَا ، فَهُوَ مَصْدَرُ كُلِّ عَدَاءٍ وَيَنْبُوعُ كُلِّ شَرٍّ وَتَعَاسَةٍ وَالتَّشْكِيكُ فِي النَّاسِ وَنِيَّاتِهِمْ آفَةٌ مِمَّا آَفاتِ الإِنْسَانِ ، مَدْخَلٌ كَبِيرٌ لِلشَّيْطَانِ ، مُدَمِّرٌ لِلْقَلْبِ وَالْأَرْكَانِ ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ وَالإِخْوَةِ ، يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ : الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ ، وَيُدْخِلُهُ النَّارَانِ ، وَيُبْعِدُهُ عَنْ الْجَنَّانِ ، فَالْبُعْدُ عَنْهُ خَيْرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ . وَخَاصَّةً وَالتَّشْكِيكُ بِالنَّاسِ لَطَالَمَا كَانَ سَبَبًا فِي قَطْعِ عَلَاقَةٍ أَخَوِيَّةٍ، وَخَرَابِ حَيَاةٍ زَوْجِيَّةٍ، سُوءَ الظَّنِّ الَّذِي مَا أَبْقَى صَاحِبًا لِصَاحِبِهِ، وَلَا أَخًا لِأَخِيهِ، وَلَا زَوْجَةً لِزَوْجِهَا، سُوءَ الظَّنِّ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ الْمُحَرَّمَةِ، وَإِزْهَاقًا لِلْأَنْفُسِ الْبَرِيئَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، سُوءَ الظَّنِّ الَّذِي فَكَّكَ أُسَرًا وَخَرَّبَ مُدُنًا وَدُولًا، وَغَرَسَ الضَّغَائِنَ وَالْأَحْقَادَ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَالْعَشَائِرِ، وَالْأَحْفَادِ!

لَذَا حَذَّرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ بِقَوْلِهِ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ هَلّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ بعثَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ سريَّةً إلى الحُرقاتِ فنَذروا بنا فَهَربوا فأدرَكْنا رجلًا فلمَّا غشيناهُ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فضَربناهُ حتَّى قتلناهُ فذَكَرتُهُ للنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ: من لَكَ بِ ( لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يومَ القيامةِ فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّما قالَها مَخافةَ السِّلاحِ. قالَ: أفلا شقَقتَ عن قلبِهِ حتَّى تعلمَ مِن أجلِ ذلِكَ قالَها أم لا؟ مَن لَكَ بلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يومَ القيامةِ؟ فما زالَ يقولُها حتَّى وَدِدْتُ أنِّي لم أُسلِم إلَّا يومئذٍ) وفي الحَديثِ: أخْذُ النَّاسِ بظواهِرِهم، أمَّا ما في القلوبِ فمَوعِدُه يومُ القيامةِ.

أَفَلَا شَقَقتَ عَنْ قَلْبِهِ : قَاعِدَةٌ نَبَوِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلِّ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِالْآخَرِينَ ، لِكُلِّ مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ اتِّهَامَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، لِكُلِّ مَنْ اتَّهَمَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَتَكْفِيرِهِمْ وَتَبْدِيعِهِمْ وَتَفْسِقيِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، لِكُلِّ مَنْ نَالَ النَّاسَ بِسُوءٍ بِلَا بَيِّنَةٍ وَبِلَا دَلِيلٍ..جَاءَ فِي السَّنَةِ أَنَّ رَجُلًا أَسَاءَ الظَّنَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَزَّعَ الْغَنَائِمَ، وَاتَّهَمَ النَّبِيَّ بَعَدَمِ الْعَدْلِ وَالإِخْلَاصِ، فَقَالَ: “اَعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَمَا عَدَلْتَ، هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ”. فَدَفَعَهُ سُوءُ ظَنِّه وَفِعْلُهُ الْقَبِيحُ، وَسَطْحِيَّةُ تَفْكِيرِهِ وَفَهْمِهِ، وَقِلَّةُ فِقْهِهِ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَمَصَالِحِ الدِّينِ، دَفَعَهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ اسْتَعْجَلَ فِي الْحُكْمِ، وَحَكَمَ بِجَهْلٍ عَلَى أَكْمَلِ إِنْسَانٍ وَأَعْدَلِ بَنِي عَدْنَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَرْءُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ وَيَسْتَفْسِرَ، وَلَا يَجْرِيَ وَرَاءَ الظُّنُونِ.

وَكَيْفَ لَا؟ وَالتَّشْكِيكُ فِي النَّاسِ وَتَجْرِيحُ النَّاسِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَرَمْيِهِمْ بِشَتَّى أَنْوَاعِ الضَّلاَلِ؛ خِزْيٌ وَعَارٌ وَهَلَاكٌ وَدَمَارٌ فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ))؛ [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]؛ قَالَ الْخَطَابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: “لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَعِيبُ النَّاسَ وَيَذْكُرُ مَسَاوِيَهُمْ، وَيَقُولُ: فَسَدَ النَّاسُ وَهَلَكُوا وَنَحْوَ ذَٰلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَٰلِكَ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ، أَيْ: أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُمْ؛ بِمَا يُلْحِقُهُ مِنَ الْإِثْمِ فِي عَيْبِهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَٰلِكَ إِلَى الْعَجَبِ بِنَفْسِهِ، وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ ۭ مِنهُمْ”

وَكَيْفَ لَا؟ وَالتَّشْكِيكُ فِي النَّاسِ وَسُوءُ الظَّنِّ يَزْرَعُ الشِّقَاقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقْطَعُ حِبَالَ الأُخُوَّةِ، وَيُمَزِّقُ وَشَائِجَ الأُلفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَيَزْرَعُ الْبُغْضَاءَ وَالشَّقَاءِ، وَاللَّهُ يُحَذِّرُنَا مِنْ ذَٰلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12].وَقَالَ سبحانه آمرًا ومؤدبًا عِبَادَهُ الَّذِينَ مَا أَحْسَنُوا الظَّنَّ فِي حَادِثَةِ الْإِفْكِ: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]. وفي الصحيحينِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ; فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ, وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تُبَاغِضُوا وَلَا تَدَابَرُوا, وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا” (رَوَاهُ البُخَارِيُّ)

وَكَيْفَ لَا؟ والتَّشْكِيكُ بِالنَّاسِ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى تَتَبُّعِ الْعَوَرَاتِ، وَالْبَحْثِ عَنْ الزَّلَّاتِ، وَالتَّنْقِيبِ عَنْ السَّقَطَاتِ، وَهُوَ بِذَلِكَ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ؛ وَقَدْ وَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْمَرَضَى بِالْفَضِيحَةِ بِقَوْلِهِ كما في حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتْبَعُوا عَوَرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوَرَاتِهِمْ، يَتْبَعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، يُفْضِحُهُ فِي بَيْتِهِ))؛ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ )

وَكَيْفَ لَا؟ وَسُوءُ النِّيَّةِ وَخُبْثُ الطَّوِيَّةِ؛ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ العَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ جلَّ وَعَلَا:﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ [الفتح: 6].وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ [الفتح: 12]، وَقَالَ جلَّ فِي عَلَاه: ﴿ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [آل عمران: 154].

وَكَيْفَ لَا؟ وَالتَّشْكِيكُ فِي نَوَايِا النَّاسِ يُؤَدِّي الْوُقُوعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَالْوَقُوفَ عِنْدَ مَوَاطِنَ وَمَوَاضِعَ التُّهَمِ وَالرَّيْبِ، لِذَا يَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: “ادْعُ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ” (رَوَاهُ وَلْتَرْمِذِي وَالنِّسَائِي).وَلَقَدْ ضَرَبَ لَنَا رَسُولُنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي الِابْتِعَادِ عَنْ مَوَاضِعَ التُّهْمَةِ؛ لِنَقْتَدِيَ بِهِ، تَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حَيَيٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا؛ فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيُقَلِّبَنِي، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَءَا الْنَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَسْرَعَا، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: “عَلَى رَسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حَيَيٍ”، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ!!، قَالَ: “إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا، أَوْ قَالَ: شَيْئًا” (رَوَاهُ الْبُخَارِي).

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ مَوَاطِنَ الشُّبُهَاتِ؛ لِئَلَّا يُسِيءَ النَّاسَ بِهِ الظَّنَّ، قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: “مَن عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْتُّهْمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَن أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ”

فَعَلَّمَنَا حَبِيبُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْسَانَ الظَّنِّ بِالْآخَرِينَ، وَعَلَّمَنَا عَدَمَ التَّشْكِيكِ فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَالْحُكْمَ عَلَيْهِمْ مِنْ خِلَالِ ظَوَاهِرِهِمْ، وَتَرْكَ سَرَائِرِهِمْ إِلَى خَالِقِهِمْ، لَذَا اهْتَمَّ نَبِيِّنَا الْكَرِيمُ اهْتِمَامًا بَالِغًا بِهَذَا الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، فَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ”، قِيلَ: صَدُوقِ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ، النَّقِيُّ، الَّذِي لَا إِثْمَ فِي قَلْبِهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غَلًّ، وَلَا حَسَدٌ.))وَنهَى أَصْحَابَهُ أَنْ يُبَلِّغُوهُ أَخْبَارًا لَا يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ: لَا يُبَلِّغَنِّي أَحَدٌ مِّنكُمْ عَنْ أَحَدٍ مِّن أَصْحَابِي شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ((الحَذَرَ الحَذَرَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالنَّاسِ، الحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ التَّشْكِيكِ بِالنَّاسِ وَنَوَايَاهُمْ … فَمِنْ أَشَدِّ الآفَاتِ فَتْكًا بِالْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ آفَةُ “سُوءِ الظَّنِّ”؛ ذَلِكَ أَنَّهَا إِنْ تَمَكَّنَتْ قَضَتْ عَلَى رُوحِ الأَلْفَةِ، وَقَطَعَتْ أَوَاصِرَ الْمَوَدَّةِ، وَوَلَّدَتْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ.

لَنَا الظَّاهِرُ أَيُّهَا الْأَخْيَارُ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.. لذا أَمَرَنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ النَّاسِ حَسَبَ الظَّاهِرِ، وَأَنْ نَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلى اللهِ تعالى، وَلَا نَحْكُمَ عَلَى مَا في القُلُوبِ، وَلَا نَشُقَّ عَنِ البُطُونِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَخِيهِ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ».

فلا يَعْلَمُ النِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ مِنَ النِّيَّةِ الخَبِيثَةِ إِلَّا اللَّهُ جل وعلا قَالَ أَبُو عُمْرَانَ رحمهُ اللهِ((تَصْعَدُ الْمَلَائِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فَتُصَفُّ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُنَادِي الْمَلَكَ: أَلْقِ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ، أَلْقِ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا قَالُوا خَيْرًا وَحَفِظْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ قَالَ: فَيَقُولُ: لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهِي وَيُنَادَى مَلَكٌ: اَكْتُبْ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا مَرَّتَيْنِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ نَوَاهُ إِنَّهُ نَوَاهُ” (حِليَةُ الأَوْلِيَاءِ (2/313).

❖ ثَانِيًا: التَّمَاسُ الأَعْذَارِ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ أَيُّهَا الْأَخْيَارُ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: التِّمَاسُ العُذْرِ لِلنَّاسِ هُوَ مِنْ أَعْلَى شِيمِ الأَخْلَاقِ، وَمِنْ أَكْبَرِ مَحَاسِنِهَا؛ فَلَا غِلٌّ وَلَا حِقْدٌ، وَلَا حَسَدٌ وَلَا ضَغِينَةٌ، وَلَا سُوءُ ظَنٍّ، وَلَا تَشْكِيكَ فِي نَوَايَا النَّاسِ.

التِّمَاسُ العُذْرِ خُلُقٌ عَظِيمٌ مِنْ أَخْلَاقِ الدِّينِ، وَمَبْدَأٌ كَرِيمٌ مِنْ مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ، وَشِيمَةُ الْأَبْرَارِ الْمُحْسِنِينَ مِنَ النَّاسِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ، وَسَهْلَةٌ وَمَيُّسُورَةٌ، أَمَرَ بِهَا الدِّينُ، وَتَخَلَّقَ بِهَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ ﷺ، تَدُلُّ عَلَى سُمُوِّ النَّفْسِ وَعَظَمَةِ الْقَلْبِ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَوَعْيِ الرُّوحِ وَنَبْلِ الإِنْسَانِيَّةِ وَأَصَالَةِ الْمَعْدِنِ، وَجَبْرُ الْخَوَاطِرِ عِبَادَةٌ يُحَارِصُ عَلَيْهَا دَائِمًا الْأَصْفِيَاءُ الْأَنْقِيَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ وَالْمَشَاعِرِ الْفَيَّاضَةِ وُصُدِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ((وَليسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ أَنْزَلَ الكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ((قال جل وعلا ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ) [الشُّورَى: 25]، فالعُذْرُ في هَذَا الْحَدِيثِ: التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ.

وَاحذَرْ الْخَوَاطِرَ الْكَاذِبَةَ، وَالظُّنُونَ الْخَادِعَةَ، وَاذْكُرْ قَوْلَ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» وَالتَّمِسْ لِأَخِيكَ سَبْعِينَ عُذْرًا كَمَا قِيلَ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ جَعْفَرِ الصَّادِقِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ: “إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ الشَّيْءُ تُنْكِرُهُ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا وَاحِدًا إِلَى سَبْعِينَ عُذْرًا، فَإِنْ أَصَبْتَهُ وَإِلَّا قُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا لَا أَعْرِفُهُ” وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي خَادِمًا يُسِيءُ وَيَظْلِمُ أَفَأَضْرِبُهُ؟ قَالَ: «تَعْفُو عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» قَالَ ابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَقُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا لَا أَعْرِفُهُ.

تَأَنَّ وَلَا تَعْجَلْ بِلَوْمِكَ صَاحِبًا .. … .. لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا وَأَنتَ تَلُومُ

وَيَقُولُ ابْنُ الْمُبَارَكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “الْمُؤْمِنُ يَطْلُبُ مَعَاذِيرَ إِخْوَانِهِ، وَالْمُنَافِقُ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِم(( وَمَا أَجْمَلَ تِلْكَم النَّمْلَةُ التي ذكرها القرآنُ، فِي زَمَانِ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ كَيْفَ التَمَسَتْ لِجُنُودِهِ الْعُذْرَ فَقَالَتْ: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) قَالَتْهَا بَعْدَ صَيْحَتِهَا لِبَنِي جِنْسِهَا النَّمْلِ: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ). لَقَدْ التَمَسَتْ لِبَنِي الْإِنْسَانِ عُذْرًا فِي جُرْمِهِمِ الَّذِي قَدْ يَرْتَكِبُوهُ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهُمْ لِصِغَرِ حَجْمِهَا وَضَآلَتِهِ.

وَهَا هُوَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ مَرِضَ وَأَتَاهُ بَعْضُ إِخْوَانِهِ يَعُودُهُ، فَقَالَ لِلشَّافِعِيِّ: قَوَّى اللَّهُ ضَعْفَكَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ قَوَّى ضَعْفِي لَقَتَلَنِي! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْخَيْرَ. فَقَالَ الْإِمَامُ: أَعْلَمُ أَنَّكَ لَوْ سَبَبْتَنِي مَا أَرَدْتَ إِلَّا الْخَيْرَ. هَذِهِ هِيَ الْأَخُوَّةُ الْحَقيقيَّةُ، حُسْنُ ظَنّْ بِالْإِخْوَانِ وَالْتِمَاسُ الْأَعْذَارِ لَهُمْ. وكيف لا؟ والْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُدَافِعَ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ ظُنُونٍ عَلَى إِخْوَانِهِ، وَيُغَالِبُهَا، وَيُخْرِجُهَا مِنْ قَلْبِهِ؛ حَتَّى يَكُونَ قَلْبُهُ سَلِيمًا عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسْرَارُ الْقُلُوبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَعْتَقِدَ فِي غَيْرِكَ سُوءًا إِلَّا إِذَا انْكَشَفَ لَكَ بَعَيَانٍ لَا يَقْبَلُ التَأْوِيلَ، وَلَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ مِنَ الْمَخَارِجِ، فَعِندَ ذَٰلِكَ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْتَقِدَ إِلَّا مَا عَلِمْتَهُ وَشَاهَدْتَهُ، وَمَا لَمْ تُشَاهِدْهُ بِعَيْنِكَ، وَلَمْ تَسْمَعْهُ بِأُذُنِكَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي قَلْبِكَ فَإِنَّمَا الشَّيْطَانُ يُلْقِيهِ إِلَيْكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُكَذِّبَهُ؛ فَإِنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) وَكَيْفَ لَا؟ وَالْافْتِرَاءَ عَلَى الْأَبْرِيَاءِ جَرِيمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَبِيرَةٌ مُنْكَرَةٌ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]، وَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 112]. وَلْنَذْهَبْ مَعاً أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ إِلَى عَصْرِ النُّبُوَّةِ لنرى نَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَيْسَ الظَّاهِرُ مُرْتَبِطاً بِالْبَاطِنِ دَوْمَاً، عَلَيْنَا بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ نَعَمْ، وَلَكِن لَا نَتَسَرَّعُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَا نَنْظُرْ إِلَى الْمَسْأَلَةِ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلْيَكُنْ شِعَارُنَا، رَأْيِي صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: رَأْيُكَ فِي هَذَا. نَقُولُ: هَذَا مِنْ أَشْرَفِ النَّاسِ، هَذَا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ، أَنْ يَخْطُبَ، وَإِنْ شَفَعَ، أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: نَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ، لَمْ يُنْكَحْ، وَإِنْ شَفَعَ، لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

فَاللهَ اللهَ في نَقَاءِ القُلُوبِ اللهَ اللهَ في التَّمَاسِ الأعذَارِ اللهَ اللهَ في حُسْنِ الظَّنِّ بِالنَّاسِ

أحسِنْ إلى النّاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ*****فطالَما استبَعدَ الإنسانَ إحسانُ

وإنْ أساءَ مُسيءٌ فلْيَكنْ لكَ في*****عُروضِ زَلَّتِهِ صَفْحٌ وغُفرانُ

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَأَتُوبُ إِلَيْه؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. …..الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا…….أَمَّا بَعْدُ:

❖ ثَالِثًا وَأَخِيرًا: الرَّشْوَةُ خَطَرٌ جَسِيمٌ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: إِنَّ مِمَّا يُدْمِي الْقُلُوبَ وَيُشْعِرُ بِالْخَوْفِ مِنْ عَذَابِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، انْتِشَارَ آفَةٍ مِنْ أَشَدِّ الآفَاتِ خَطَرًا عَلَى مُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمِينَ، آفَةٌ مِنَ الْآَفَاتِ وَالْعُيُوبِ، وَكَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، تَنُمُّ عَنْ فَسَادِ النِّيَّةِ، وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَسُوءِ الطَّوِيَّةِ، وقِلَّةِ الْخَوْفِ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَهِيَ عُنْوَانٌ لِلْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، وَإِيذَانٌ بِالْهَلَاكِ وَالْخَرَابِ، أَلَا وَهِيَ الرِّشْوَة. وَقَدْ بَيَّنهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ، وَوَجَّهَ إِلَى الْحَذَرِ مِنْهَا، وَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَبَّهَ إِلَى خَطَرِهَا، وَلَعَنَ صَاحِبَهَا، إِنَّهَا مُفْسِدَةُ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَالْحَاكِمَةُ عَلَيْهَا بِالدَّمَارِ وَالْهَلَاكِ.

والرَّشْوَةُ عِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ الْمَالِ لِلتَّوَصُّلِ بِهِ إِلَى بَاطِلٍ، إِمَّا بِإِعْطَاءِ الْبَاذِلِ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ بِإِعْفَائِهِ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ؛ يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-(( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( وَالرَّشْوَةُ بِجَمِيعِ صُوَرِهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: “لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ )  وَإِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ حَقًّا أَنَّ الرَّشْوَةَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَصْبَحَتْ بَابًا مَفْتُوحًا عَلَى مِصْرَاعِيْهِ، فَلا يَكَادُ الشَّخْصُ يَقْضِي حَاجَةً أَوْ يُنْجِزُ عَمَلًا يَخُصُّهُ إِلَّا بِوَسَاطَةٍ، أَوْ جَاهٍ، أَوْ دَفْعِ رَشْوَةٍ. وَبِمُرُورِ الْوَقْتِ صَارَتْ الرَّشْوَةُ عُرْفًا بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ كَثُرَتْ أَسْئِلَةُ النَّاسِ عَنْهَا وَالْإِلْحَاحُ عَلَى التَّحَايُلِ عَلَيْهِا ، فَلَقَدْ تَفَشَّتِ الرَّشْوَةُ فِي غَالِبِ الْمُجْتَمَعَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَمْ تَعُدْ مَقْصُورَةً عَلَى تَعَامُلاتِ الْأَفْرَادِ، بَلْ أَصْبَحَتْ أَدَاةً تَسْتَخْدِمُهَا الْمُؤْسَّسَاتُ وَالشَّرِكَاتُ التِّجَارِيَّةُ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافِهَا وَتَنْفِيذِ مُخَطَّطَاتِهَا التَّسْوِيقِيَّةِ، بَلْ أَصْبَحَتِ الرَّشْوَةُ تَأْخُذَ مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةً، فَتَارَةً يُسَمُّونَهَا (إِكْرَامِيَّةً)، وَتَارَةً يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا (حَلَاوَةً)، وَتَارَةً يُسَمُّونَهَا (هَدِيَّةً) أَوْ (تَحِيَّةً)، وَصَدَقَ اللهُ -تَعَالَى- إِذْ يَقُولُ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ).

لذا تَوَعَّدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يَسْتَحِلُّهَا، أَوْ يَتَعَامَل بِهَا بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْخِزْيِ الْعَظِيمِ، قَالَ سُبْحَانَهُ عَن الْيَهُودِ: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} المائدة: [41-42] قاَل الْمُفَسِّرُونَ: (سَمِعُوا كِذْبَةً وَأَكَلُوا رِشْوَةً) وقَالَ مَسْرُوق: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ عَنِ  السُّحْتِ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْحَاجَةَ لِلرَّجُلِ فَيَقْضِيَهَا، فَيُهْدِي إِلَيْهِ فَيَقْبَلُهَا. وهَذَا فِيمَنْ تُهْدَى إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يَطْلُبهَا، فَمَا بَالُكُمْ بِمَنْ يَطْلُبهَا؟ بَلْ، وَيَشْتَرِطهَا!

وَالرِّشْوَةُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، واللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، وَدَاءٌ عضَالٌ ابْتُلِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَآَفَةٌ سَامَّةٌ دَبَّتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤَسَّسَاتِ، وَشَاعَتْ فِي عَدَدٍ مِنَ الْهَيْئَاتِ، اسْتَبَاحَهَا أَقْوَامٌ انْطَفَأَتْ جَذْوَة الْإِيمَانِ فِي صُدُورِهِمْ، وَطَالَ عَلَيْهِم الْأَمَدُ فَفَسَدَتْ قُلُوبُهُمْ، سَيْطَرَ الشَّيْطَانُ عَلَى عُقُولِهِمْ، وَامْتَلَأَتْ بِالْحَرَامِ أَفْوَاهَهُمْ، لَا يَرْجُونَ للهِ وَقَارًا وَلَا يَتَّخِذُونَ مِنْ عِبَادِهِ حُجُبًا وَلَا أَسْتَارًا، وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ: قَالَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ–: «الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَا عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».وقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ).

 والرِّشْوَة بِذْرَةٌ للشَّحْنَاءِ والضَّغِينَةِ، وَسَبِيلٌ لِهَدْمِ الْأُمَمِ، وَإِفْسَادِ الْحَضَارَاتِ، وَغِيَابِ الْكَفَاءَاتِ، فَهِيَ تُخْفِي الْحَقَائقَ، وَتَسْتُرُ الْقَبَائِحَ، وَتُزَيِّنُ الْبَاطِلَ، فَأَيُّ بَرَكَةٍ تُرْجَى مِنْ عَمَلٍ لَا يُنْجَزُ إِلَّا بِمَعْصِيَةٍ للهِ وَرَسُولِهِ؟ وَأَيُّ خَيْرٍ يُؤَمَّلُ مِنْ عَامِلٍ وَقَفَ سَدًّا مَنِيعًا فِي سَبِيلِ مَصَالِحِ النَّاسِ وَأُمُورِ مَعَاشِهِمْ؟ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَو.

 واعْلَمُوا أَيُّهَا الْأَخْيَارُ أنَّ هَذَا الْمَالَ حَلَالُهُ حِسَابٌ، وحَرَامُهُ عِقَابٌ، واحْذَرُوا الرشوة، فإنها أَكْلٌ لأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وصدق المعصومُ ﷺ إذ يقولُ (يَأْتي على النّاسِ زَمانٌ لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه؛ أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ) أخرجه البخاري ، واحْذَرُوا مَغَبَّةَ أَكْلِ الْحَرَامِ، قالَ ﷺ (يَا كَعْبُ بنُ عُجَرَةَ! إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ لَحْمٌ وَدَمٌ نَبَتا عَلَى سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ). قِيلَ: وَمَا السُّحْتُ؟ قَالَ: (الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ) رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ). ويُروَى عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: (بَابَانِ مِنَ السُّحْتِ يَأْكُلُهُمَا النَّاسُ: الرِّشَا وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ). فالرِّشْوَةُ دَاءٌ وَشَرٌّ وَمَرَضٌ خَطِيرٌ، خَطَرُها عَلَى الأَفْرَادِ عَظِيمٌ، وَفَسَادُهَا لِلمُجْتَمَعِ كَبِيرٌ، فَمَا يَقَعُ فِيهَا امْرُؤٌ إِلَّا وَمُحِقَتْ مِنْهُ البَرَكَةُ فِي صِحَّتِهِ وَوَقْتِهِ وَرِزْقِهِ وَعِيالِهِ وَعُمُرِهِ، وَمَا تَدَنَّسَ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا حُجِبَتْ دَعْوَتُهُ، وَذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ، وَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهُ، وَنُزِعَ حَيَاؤُهُ، وَسَاءَ مَنْبَتُهُ)

 ومِنْ سُبُلِ مُكَافَحَةِ ظَاهِرَةِ الرَّشْوَةِ: مَعْرِفَةُ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْ مَالِهِ؛ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟”(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ) وإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا جَمِيعًا التَّعَاوُنُ عَلَى قَطْعِ دَابِرِ هَذَا الدَّاءِ الْخَطِيرِ، وَذَلِكَ بِاجْتِنَابِهِ وَبِمُنَاصَحَةِ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَنُبْلِغُ الْجِهَاتِ الرِّقَابِيَّةَ فِي أَجْهِزَةِ الدَّوْلَةِ، وَالْعِقَابُ وَسِيلَةٌ هَامَّةٌ لِمُكَافَحَةِ الرَّشْوَةِ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ سُلْطَةُ تَوْقِيعِ عُقُوبَاتٍ تَعْزِيرِيَّةٍ عَلَى الْمُرْتَشِي، مِنَ الْحَبْسِ أَوِ الْعَزْلِ مِنَ الْوَظِيفَةِ، أَوِ الْغَرَامَةِ أَوْ مُصَادَرَةِ أَمْوَالِ الرَّشْوَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ رَدْعٌ لِهَؤُلاءِ الْمُتَلاعِبِينَ بِالْمُجْتَمِعِ وَمَصَالِحِهِ )) إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ)) فَالحَذَرَ الحَذَرَ عِبَادَ اللّهِ مِنَ الرَّشْوَةِ وَخَطَرِهَا ، وَالحَذَرَ الحَذَرَ عِبَادَ اللّهِ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، الحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الحَرَامِ وَصُوَرِه قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ .وتذكرْ

جَمَعَ الحَرامَ إِلَى الحَلالِ لِيَكْثُرَهُ… فَدَخَلَ الحَرامُ عَلَى الحَلالِ فَبَعْثَرَهُ

حَفِظَ اللهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الكَائِدِينَ، وَشَرِّ الفَاسِدِينَ، وَحِقْدِ الحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ المَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ المُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ المُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الخَائِنِينَ.

كَتَبَهُ العَبْدُ الفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ

د/ مُحَمَّدٌ حِرْزٌ إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الأَوْقَافِ

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى