خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (العُقُولُ المحمَدِيَّةُ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (العُقُولُ المحمَدِيَّةُ) د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ بِتَارِيخِ 14 جُمَادَى الأُخْرَى 1447هـ – 5 دِيسَمْبَرَ 2025م
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (العُقُولُ المحمَدِيَّةُ) word د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ
خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ (العُقُولُ المحمَدِيَّةُ) pdf د. مُحَمَّدُ حِرْزٍ
الحَمْدُ لِلَّهِ الْخَالِقِ الْعَلِيمِ، الْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ، خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَبَّرَهُ، وَبَرَأَ كُلَّ مَوْجُودٍ وَسَيَّرَهُ، وَأَبْدَعَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَصَوَّرَهُ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَرشَدَهُ بِالوَحْيِ الحَكِيمِ، وَزَوَّدَهُ عَقْلاً وَفِكْرًا يَهْدِيهِ إِلَى الطَّرِيقِ القَوِيمِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَرَعَ مِنَ الدِّينِ مَا يَدْعُو إِلَى استِقْلالِ الفِكْرِ وَإِعْمَالِ العَقْلِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، نَهَى عَنِ التَّبَعِيَّةِ العَمْيَاءِ، صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الجَزَاءِ. أَمَّا بَعْدُ، فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي -عِبادَ اللهِ- بِتَقْوَى اللهِ، وَالعَمَلِ بِمَا فِيهِ رَضَاهُ، فَإِنَّكُمْ ” إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ” عِبَادَ اللَّهِ:((العُقُولُ المحمَدِيَّةُ))عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:
❖ أَوَّلًا: العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ عُقُولٌ إِيَجَابِيَّةٌ.
❖ ثَانِيًا: الفِكْرُ السَّلْبِيُّ خَطَرُهُ جَسِيمٌ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ!!
❖ ثَالِثًا وَأَخِيرًا: التَّشَاؤُمُ تَفْكِيرٌ سَلْبِيٌّ يَضُرُّ بِالْمُجْتَمَعَاتِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ العُقُولِ المُحَمَّدِيَّةِ خَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا فَسَدَتْ فِيهِ العُقُولُ وَانْحَرَفَتْ بِسَبَبِ بُعْدِهَا عَنْ مَنْهَجِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَاصَّةً سُوءُ فَهْمِ النُّصُوصِ فَهْمًا صَحِيحًا أَدَّى إِلَى انتشَارِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ وَالْمُنْحَرِفَةِ وَالأَفْكَارِ الطَّائِشَةِ، وَالْآرَاءِ الهَزِيلَةِ، الَّتِي تُشَوِّهِ صُورَةَ الْإِسْلَامِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَخَاصَّةً وَالأُمَّةُ فِي الْأَزْمَاتِ فِي حَاجَةٍ إِلَى العُقُولِ المُحَمَّدِيَّةِ العُقُولِ الْمُتَوَازِنَةِ العُقُولِ الْوَاسِطِيَّةِ لَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَخَاصَّةً وَنَحْنُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الفِكْرِ الإِيَجَابِيِّ لِلنَّهُوضِ بِالْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ وَلِمُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ وَالْأَزْمَاتِ وَالنَّكَبَاتِ، وَخَاصَّةً وَرَأَيْنَا وَشَاهَدْنَا أَنَّ الفِكْرَ السَّلْبِيَّ هُوَ الْمُتَصَدِّرُ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ وَلَهُ مُتَابِعُونَ بِالْمَلَايِينِ عَلَى تِلْكَم المَوَاقِعِ الَّتِي أَفْسَدَتِ الْكَثِيرَ وَالْكَثِيرَ مِنَ العُقُولِ وَخَرَبَتْ الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ مِنَ المَفَاهِيمِ وَهَدَمَتْ الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ مِنَ القِيَمِ وَالمَبَادِئِ وَالأَخْلاَقِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
❖ أَوَّلًا: العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ عُقُولٌ إِيَجَابِيَّةٌ.
أيُّهَا السَّادَةُ : العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ هي العُقُولُ التي رَضِيَتْ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا وَنَبِيًّا ، العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ هي العُقُولُ التي اسْتُنِيَرَتْ بِنُورِ الْوَحْيِ الإِلَاهِيِّ الرَّبَّانِيِّ، العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ هي العُقُولُ التي اسْتَمَدَّتْ نُورَهَا وَفَهْمَهَا مِنَ الْأَنْوَارِ المُحَمَّدِيَّةِ وَالتَّجَلِّيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ ، العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ هي تِلْكَمَ العُقُولُ التي رَعَتْهَا الْمَفَاهِيمُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَصَاغَتْهَا أَنْوَارُ النُبُوَّةِ، شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى إِذا تَكَامَلَتْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي وَنَضَجَتْ وَرَقَّتْ وَاسْتَوَتْ؛ آتَتْ ثِمَارَهَا وَأُكُلَهَا تَفْكِيرًا إِيْجَابيًّا يَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَى صَاحِبِهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ ، العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ عُقُولٌ تَبْنِي وَلَا تَهْدِمُ عُقُولٌ تُعَمِّرُ وَلَا تُخَرِّبُ عُقُولٌ تُعِينُ وَلَا تُعِيقُ، عُقُولٌ تَتَعَاوَنُ لَا تَتَخاذَلُ ،عُقُولٌ لَا تَعْرِفُ ذَمَّ النَّفْسِ وَلَا لَعْنَ الظُّروفِ، وَلَا تَسْتَسْلِمُ لِلْأَفْكَارِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تَجُرُّ الْمَرْءَ إِلَى الشَّكْوَى وَالْعَجْزِ، بَلْ تَرْتَقِي بِه إِلَى مِيَادِينِ الْعَمَلِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْيَقِينِ. العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ تَلْكُمُ العُقُولُ الْمُسْتَنْيِرَةُ رُوَّادُ التَّفْكِيرِ الإِيْجَابِيِّ الَّذِينَ تَنْهَضُ بِرُؤَاهُمْ المُجْتَمَعَاتُ وَتَرْقَى الأُمَمُ، العُقُولُ المُحَمَّدِيَّةُ هي إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي أَسْرَارِ وَمَعَانِي الْآيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ عَنْ طَرِيقِ التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَمُلاحَظَةِ وَجْهِ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ وَمُشَاهَدَةِ الدِّقَّةِ وَحُسْنِ التَّنْظِيمِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْتِمَاسِ الْحِكْمَةِ وَالْعِبْرَةِ مِنْ وَرَاءِ ذَٰلِكَ.
وكَيْفَ لَا ؟ وَمَنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ عُنْوانَ تَقَدُّمِ الأُمَمِ وَمبْعَثَ أَمَانِها، وَمصْدَرَ عِزِّهَا وَاستِقرَارِهَا، فِي سَلاَمَةِ عُقُولِ أَفرَادِها، وَنَزَاهَةِ أَفكَارِ أَبنَائِها، وَمَدَى ارتِبَاطِهِمْ بِثَوابِتِ حَضَارَتِهِمْ، وَاعتِزَازِهِمْ بِمَعَالِمِهِمُ الثَّقَافِيَّةِ، وَمِنْ مَحاسِنِ شَرِيعَتِنا الغَرَّاءِ أَنَّها جَاءَتْ بِبِنَاءِ العُقُولِ وَالأَفْكَارِ، وَجَعَلَتْ ذَلِكَ إِحْدَى الضَّرُورَاتِ الخَمْسِ الوَاجِبِ حِفْظُهَا مِنَ الإِضْرارِ، تَحقِيقًا لِمَصَالِحِ العِبَادِ فِي أُمُورِ المَعَاشِ وَالمَعَادِ، فالتَّوجِيهُ السَّـلِيمُ لِفِكْرِ الأَجْـيَالِ وِقَايَةٌ لَهُمْ مِنَ الانْحِرافِ وَالضَّلاَلِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ أُمَّةٍ تَفْخَرُ بِجِيلٍ مُفَكِّرٍ، وَأُخْرَى تَنُوءُ بِشَبابٍ جَاهِلٍ غَيْرِ مُتَبَصِّرٍ، ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ” لِذَا كَانَ غَرْسُ العِلْمِ وَصِيَاغَةُ الفِكْرِ أَوَّلَ هَدَفٍ لِلرِّسَالَةِ، كَيفَ لاَ؟ وَقَدِ استَغْرَقَ ذَلِكَ ثَلاثَةَ عَشَرَ عَامًا فِي مَرحَلَتِها المَكِّيَّةِ، وَلَمْ تَخْلُ مِنْهُ تَوجِيهَاتُ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ مِنَ المَرحَلَةِ المَدَنِيَّةِ، وَعِنْدَما أَسلَمَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: ((فَقِّهِوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقرِئُوهُ القُرآنَ)).
وكَيْفَ لَا ؟ والْعَقْلُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَمَحَلُّ التَّفْكِيرِ، وَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِالْقَلْبِ وَثِيقٌ، فَإِذَا صَرَفَ الْعَبْدُ تَفْكِيرَهُ فِي الْأُمُورِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَوَاضِيعِ السَّامِيَةِ؛ صَلُحَتْ أَحْوَالُهُ، وَاسْتَقَامَ عَيْشُهُ، وَقَرُبَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَمَّا إِذَا وَجَّهَ الْعَبْدُ تَفْكِيرَهُ لِلْأُمُورِ الدَّنِيئَةِ، وَأَشْغَلَهُ بِالشَّهَوَاتِ الْوَضِيعَةِ؛ فَسَدَ حَالُهُ، وَصَغُرَ عَقْلُهُ، وَصَارَ هَمُّهُ شَهْوَتَهُ. وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُفَكِّرُونَ، مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ، شَرِيفُهُمْ وَوَضِيعُهُمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُفَكِّرُ بِحَسَبِ مَقَامِهِ وَهِمَّتِهِ وَاهْتِمَامِهِ، وَبِسَبَبِ ضَعْفِ الْإِيمَانِ كَانَ أَكْثَرُ تَفْكِيرِ النَّاسِ مِنْ فُضُولِ التَّفْكِيرِ، وَمِنْ سَيِّئِهِ وَرَدِيئِهِ، مِمَّا لَا يَعُودُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنَفْعٍ عَاجِلٍ وَلَا آجِلٍ.
وكَيْفَ لَا ؟ وَالعقلُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِنَّةٌ كَبِيرَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْنَا وَمَنَّ بِهَا عَلَيْنَا، وَفَضَّلَنَا وَمَيَّزَنَا عَلَى سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70]. وَقَالَ تَعَالَى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. وَجَعَلَهُ سَيِّدًا فِي هَذَا الْكَوْنِ بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ((وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الجاثية: 13)
وكَيْفَ لَا ؟ وَدِينُنَا دَعَانَا إِلَى اسْتِثْمَارِ الْعُقُولِ فِي الْفِكْرِ الْإِيجَابِيِّ وَإِعْمَالِهِ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ فَهْمًا صَحِيحًا فالتَّفكُّرُ فِي مَخْلُوقَاتِ اللهِ يَفْتَحُ أَبْوَابًا مَغْلَقَةً مِنْ نُورِ البَصِيرَةِ فِي الْعُلُومِ وَالأَفْهَامِ، وَتَحْرِيرِ الإِنْسَانِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ وَالْعُصْيَانِ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَلَى الْمُتَفَكِّرِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) ( آلِ عِمْرَانَ: 190) قَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾( الْحَجِّ:46) ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ((ق: 37. قَالَ المُفَسِّرُونَ: “لِمَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ”. فَإِذَا طافَ عَقْلُكَ فِي الْكَائِنَاتِ، وَامْتَدَّ نَظَرُكَ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْمَجَرَّاتِ، وَالنُّجُومِ السَّائِرَاتِ، رَأَيْتَ عَلَى صَفَحَاتِهَا قُدْرَةَ اللَّهِ الْبَاهِرَةَ، وَامْتَلَأَ قَلْبُكَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَانْطَلَقَ لِسَانُكَ بِالتَّنْزِيهِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَخَضَعَتْ مَشَاعِرُكَ وَجَوَارِحُكَ لِسُلْطَانِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ وَالْمُبْدِعِ الْحَكِيمِ، فَلَا خَالِقَ غَيْرَهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ إِذْ يَقُولُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].
وكَيْفَ لَا ؟ وَالنَّاظِرُ فِي مَنْهَجِ الإِسلامِ يَجِدُ بِنَاءً فِكْرِيًّا إيجابيًا قَائِمًا عَلَى مَعْرِفَةِ الخَالِقِ وَالغَايَةِ مِنَ الخَلْقِ، وَلا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ وَرَاءَهُ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَفْهُومِهَا الوَاسِعِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ” ، ثُمَّ تَغْذِيَةُ الفِكْرِ بِسَلِيمِ الأَفْكَارِ وَصَحِيحِ المُعتَقَداتِ نَحْوَ اللهِ وَسَائرِ المَوجُودَاتِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا فَقَالَ: ((يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ، احفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسأَلِ اللهَ، وَإِذَا استَعَنْتَ فَاستَعِنْ بِاللهِ))، إنَّ التَّصَوُّرَ الصَّحِيحَ للحَقَائِقِ يَجْعَلُ المَرْءَ يَتَفَكَّرُ فِيمَا حَولَهُ مِنْ مَظَاهِرِ الحَيَاةِ، ويَتَأَمَّـلُ فِيمَا يَخْدُمُ صَالِحَ الإنْسَانِيَّةِ، وَيَسْـتَمِعُ إِلَى الحَسَنِ مِمّا يَقولُهُ الغَيرُ، فَفِي ذَلِكَ عِبَرةٌ وذِكْرى، ومَنفعةٌ وَهُدًى، لِلرَّاغِبِ فِي بِنَاءِ فِكْرِهِ فِكْرًا إِيْجَابِيًّا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ” الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ “
وَكَيْفَ لا؟ وَأَنَّ الفِكْرَ الإيجَابِيَّ يُنْتِجُ شَّخْصِيَّةً لاَ تُضِلُّهَا الأَهْوَاءُ وَلاَ تَنْحَرِفُ بِهَا المَسَالِكُ وَلاَ تُزَعْزِعُهَا أَعَاصِيْرُ البَاطِلِ وَهَذَا مِنَ المَقَاصِدِ الكُبْرَى لِلدِّيْنِ، لأَنَّ فِيهِ حِفَاظًا عَلَى حَيَاةِ الأُمَّةِ، الَّتِي أَرَادَ اللهُ لَهَا أَنْ تَكُونَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ” كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ” ، فَعِمَادُ الحِفَاظِ عَلَى الفِكْرِيِّ الإيجَابِيِّ هَذَا الدِّيْنُ الحَقُّ دِيْنُ اللهِ الإِسْلاَمُ، لِذَا استَنْهَضَ الإِسْلامُ العُقُولَ، وَوَجَّهَ الأَفْهَامَ، وَحَرَّرَ الإِنْسَانَ مِنْ أَغْلالِ التَّقْلِيدِ، وَسَيْطَرَةِ التَّبَعِيَّةِ العَمْيَاءِ، وَرَبَّاهُ عَلَى حُرِّيَّةِ الفِكْرِ، وَاستِقْلالِ الإِرَادَةِ، لِيَكْمُلَ بِذَلِكَ عَقْلُهُ، وَيَستَقِيمَ تَفْكِيرُهُ، وَتَكْتَمِلَ لَهُ شَخْصِيَّـتُهُ وَإِنْسَانِيَّـتُهُ، فَكَمَالُ العَقْلِ، وَسَلامَةُ التَّفْكِيرِ، وَاستِقْلالُ الإِرَادَةِ، هِيَ أُسُسُ صِحَّةِ الأَفْكَارِ، وَاستِقَامَةِ السُّلُوكِ، وَرُقِيِّ الأَخْلاقِ، وَمَعْرِفَةِ الحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ، وَمَعْرِفَةِ البَاطِلِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُجتَنَبَ، وَفِي الأَثَرِ: (مَا اكْتَسَبَ رَجُلٌ مِثْلَ عَقْلٍ، يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى هُدًى، وَيَرُدُّهُ عَنْ ضَلالٍ)، إِنَّ الوَاجِبَ أَيُّهَا السَّادَةُ: التَّنَبُّهُ لِلأَفْكَارِ المُنْحَرِفَةِ، وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ في مُقَوِّمَاتِنَا الرّاسِخَةِ، وَهُوِيَّـتِنا الوَاضِحَةِ، هُوِيَّةٍ لاَ تَنْسَى المَاضِيَ العَرِيقَ، وَلاَ تُهْمِلُ الحَاضِرَ المُشْرِقَ، بَلْ تَستَشْرِفُ آفَاقَ المُستَقْبَلِ. فَاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ -، وَابنُوا فِكْرَكُمْ عَلَى سَلِيمِ الأَفْكَارِ وَنَبِيلِ القِيَمِ، وَتَعَاوَنُوا مِنْ أَجلِ مُجتَمَعٍ تَسُودُهُ استِقْلالِيَّةُ الفِكْرِ، وَيَنْأَى أَبنَاؤُهُ عَنِ التَّقْلِيدِ الأَعْمَى قَالَ سبحانه ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَان﴾ المائدة:2)إِنَّ عَالَمَ اليَوْمِ لَيَمُوجُ بِأَفْكَارٍ وَثَقَافَاتٍ مُختَلِفَةٍ، وَحَضَارَاتٍ وَاتِّجَاهَاتٍ مُتَدَاخِلَةٍ، بِفِعْلِ الانْفِتَاحِ الثَّقَافِيِّ، وَتَعَدُّدِ الوَسَائِلِ الإِعْلامِيَّةِ، وَسُهُولَةِ الاتِّصَالِ وَالتَّوَاصُلِ، وَهَذَا يَجْعَلُنَا نَنْظُرُ لِحَالِ الأُسْرَةِ وَمَا لَهَا مِنْ أَثَرٍ فِي صِيَاغَةِ الأَبنَاءِ، خَيْرًا أَوْ شَرًّا، سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا، وَمَا لَهَا مِنْ دَوْرٍ فِي إِنْشَاءِ جِيلٍ يُفَكِّرُ، وَعَقْلٍ يُدَبِّرُ، مَمَا يُحَقِّقُ لَهُ الحَيَاةَ الطَّيِّـبَةَ، وَيَكْفُلُ لِمُجتَمَعِهِ الأَمْنَ وَالسَّلامَ، وَيَأْمُلُ فِيهِ لأُمَّـتِهِ وَوَطَنِهِ الخَيْرَ وَالتَّقَدُّمَ إِلَى الأَمَامِ، وَقَدْ رَسَمَ لَنَا القُرآنُ الكَرِيمُ نَمُوذَجًا يُحْـتَذَى بِهِ لِتَرْوِيضِ الأَبْنَاءِ عَلَى حُسْنِ العَقْلِ، وَتَحْرِيكِ الفِكْرِ الإيجابي ، فَيُصَوِّرُ لَنَا الحِوَارَ الَّذِي دَارَ بَيْنَ لُقْمَانَ وَابنِهِ وَكَأَنَّكَ تَرَاهُ رَأْيَ العَيْنِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:” وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ” ، ثُمَّ يُحَرِّكُ وِجْدَانَهُ إِلَى مَقَامِ المُرَاقَبَةِ بِأَنَّ اللهَ لا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيةٌ ” يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ “
تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنتَ تَزْعُمُ حُبَّهُ *** هَذَا مُحَالٌ فِي الْقِيَاسِ شَنِيعٌ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ *** إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعٌ
❖ ثَانِيًا: الفِكْرُ السَّلْبِيُّ خَطَرُهُ جَسِيمٌ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ!!
أَيُّهَا السَّادَةُ: الْفِكْرُ السَّلْبِيُّ هَلَاكٌ وَدِمَارٌ وَخِزْيٌ وَعَارٌ، الْفِكْرُ السَّلْبِيُّ آَفَةٌ مِنْ آَفَاتِ الْإِنْسَانِ، مَدْخَلٌ كَبِيرٌ لِلشَّيْطَانِ، مُدَمِّرٌ لِلْقَلْبِ وَالْأَرْكَانِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ وَالْإِخْوَةِ، يَحْرِمُ صَاحِبَهُ: الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَيَدْخُلُهُ النِّيرَانَ، وَيُبْعِدُهُ عَنْ الْجَنَّانِ، فَالْبُعْدُ عَنْهُ خَيْرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. الْفِكْرُ السَّلْبِيُّ مَرَضٌ نَخَرَ فِي أَجْسَادِنَا فَأَهْلَكَها …. وَفِي قُلُوبِنَا فَأَوْهَنَهَا…. وَفِي أَبْدَانِنَا فَأَهْرَمَهَا ، الْفِكْرُ السَّلْبِيُّ ظَاهِرَةٌ سَلْبِيَّةٌ مُدَمِّرَةٌ لِلْأَفْرَادِ وَالدُّوَلِ ويُعَدُّ العجزُ والكسلُ وَغِيَابُ الْوَعْيِ وَضُعْفُ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ، وَعَدَمُ مُرَاقَبَةِ الْمَوْلَى جلَّ وَعَلَا مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الْفِكْرِ السَّلْبِيِّ، وَ الْفِكْرُ السَّلْبِيُّ دَاءٌ يَقْتُلُ الطُّمُوحَ، وَيُدَمِّرُ قِيَمَ الْمُجْتَمَعِ، وَيُعَدُّ خَطَرًا مُبَاشِرًا عَلَى الْوَطَنِ، وَيَقُفُ عَقَبَةً فِي سُبُلِ الْبِنَاءِ وَالتَّنْمِيَةِ، يُبَدِّدُ الْمَوَارِدَ، وَيُهْدِرُ الطَّاقاتِ . وَكَيْفَ لَا؟ وَكُلُّنَا رُكَّابُ سَفِينَةٍ ، يَرْكَبُ فِيهَا الصَّالِحُونَ ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الطَّالِحُونَ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الْمُذْنِبُونَ ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الْأَبْرَارُ، وَيَرْكَبُ فِيهَا الْفُجَّارُ، فَإِنْ نَجَتْ السَّفِينَةُ نَجَا الْجَمِيعُ، وَإِنْ هَلَكَتْ السَّفِينَةُ هَلَكَ الْجَمِيعُ، سَيَهْلِكُ الْمُتَّقُونَ وَالْمُذْنِبُونَ، سَيَهْلِكُ الْأَبْرَارُ وَالْفُجَّارُ، لِذَا قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حديثِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا” رواه البخاري.
التَّخَلُّصُ مِنَ الْفِكْرِ السَّلْبِيِّ: بِالتَّخَلُّصِ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ فَعَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» [رَوَاهُ البُخَارِي]. فَهَذَا الدُّعَاءُ النَّبَوِيُّ مَدْرَسَةٌ كَامِلَةٌ فِي مُوَاجَهَةِ التَّفْكِيرِ السَّلْبِيِّ؛ إذْ يَبْدَأُ بالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ العَجْزِ الَّذِي يُشِلُّ الهِمَّةَ، وَمِنَ الكَسَلِ الَّذِي يُهْدِرُ الطَّاقاتِ، وَمِنَ الجُبْنِ الَّذِي يُقْعِدُ عَنِ الحَقِّ، وَمِنَ الهَرَمِ الَّذِي يَضْعَفُ القُوَى وَيُقَرِّبُ الفَتُورَ.
التَّخَلُّصُ مِنَ الفِكْرِ السَّلْبِيِّ: بالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فَمَن أَعَانَهُ اللَّهُ فَهُوَ المُعَانُ وَمَن خَذَلَهُ اللَّهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ قَالَ النَّبِيُّ الأَمِينُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَيْدِنَا مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ((أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وقالَ: يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ)) فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» [رواه مسلم]
التَّخَلُّصُ مِنَ الْفِكْرِ السَّلْبِيِّ: بِالتَّخَلُّصِ مِنَ الْغَضَبِ وَالْانْفِعَالَاتِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]، فَهَذَا النَّهْيُ لَيْسَ مُجَرَّدَ ضَبْطِ انْفِعَالٍ، بَلْ مَنْعٌ لِانْفِجَارِ سِلْسَلَةٍ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالتَّصَرُّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي قَدْ تَجُرُّ عَلَى الْإِنْسَانِ نَدَمًا طَوِيلًا، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى أَنَّ إِدَارَةَ النَّفْسِ بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّفْكِيرِ الْإِيَجَابِيِّ.
التَّخَلُّصُ مِنَ الْفِكْرِ السَّلْبِيِّ: بِالتَّخَلُّصِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعارِضِ وَالْآثَامِ تَدَبَّرْ مَعِي قَوْلَ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا وفي لفظ قام النبي يوما من النوم فزعا يَقُولُ:” لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ “وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) رواه البخاري
التَّخَلُّصُ مِنَ الْفِكْرِ السَّلْبِيِّ :بالتَّفْكِيرِ فِي الْمَوْتِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ؛ لِيَعْمَلَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ أَعْمَالًا صَالِحَةً تُنْجِيهِ فِيهِ، وَبالتَّفْكِيرِ فِي الْجَنَّةِ لِيَشْتَاقَ إِلَيْهَا، وَيَنْشَطَ فِي الْعَمَلِ لَهَا، وَالتَّفْكِيرِ فِي النَّارِ؛ لِيَخَافَ أَنْ يُقْذَفَ فِيهَا؛ فَيَأْتِيَ الطَّاعَاتِ، وَيُجَانِبَ الْمُحَرَّمَاتِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ، آكُلُ ثِمَارَهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا، وَأُعَانِقُ أَبْكَارَهَا. ثُمَّ مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ، آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ صَدِيدِهَا، وَأُعَالِجُ سَلَاسِلَهَا وَأَغْلَالَهَا؛ فَقُلْتُ لِنَفْسِي: أَيْ نَفْسِي، أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا فَأَعْمَلَ صَالِحًا، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتِ فِي الْأُمْنِيَةِ فَاعْمَلِي». فالتَّفكيرُ السَّلْبِيُّ مَسْلَكُ مِن مَسَالِكِ الشَّيْطَانِ، وَطَرِيقٌ مِن طُرُقِ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ يُضْعِفُ الهِمَمَ، وَيَقْتُلُ رُوحَ المُبَادِرَةِ، وَيُعَطِّلُ الطَّاقَاتِ وَيُطْفِئُ جَذْوَةَ الإِبْدَاعِ. يَنْشُرُ القَلَقَ وَالتَّشَاؤُمَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُثَبِّطُ العَزَائِمَ، وَيَزْرَعُ الْقُنُوطَ وَالْيَأْسَ فِي الْقُلُوبِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
إلهِي لَسْتُ لِلْفِرْدَوْسِ أهلاً ***وَ لاَ اَقْوَي عَلَي النَّارِ الْجَحِيْمِ
فَهَبْ لِي تَوْبَةً وَ اغْفِرْ ذُنُوْبِي*** فَاِنَّكَ غَافِرُ الذَنْبِ الْعَظِيْمِ
وَ عَامِّلْنِي مُعامَلةً الْكَرِيْمِ ***وَ ثَبِّتْنِي عَلَي النَّهْج الْقَوِيْم
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي ولكُم ….الخطبةُ الثانيةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ ….وبعد
❖ ثَالِثًا وَأَخِيرًا: التَّشَاؤُمُ تَفْكِيرٌ سَلْبِيٌّ يَضُرُّ بِالْمُجْتَمَعَاتِ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: إِنَّ مِنَ الأَمْرَاضِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِهَا بَعْضُ الْمُجْتَمَعَاتِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ التَّشَاؤُمُ ،فَالتَّشَاؤُمُ دَاءٌ عُضَالٌ حَذَرَ مِنْهُ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ النَّظْرَةُ السُّودَاوِيَّةُ إِلَى النَّاسِ مِنْ حَوْلِكَ وَإِلَى مُسْتَقْبَلِكَ وَإِلَى نَفْسِكَ، وَهُوَ الْخُلُقُ السَّيِّئُ الَّذِي يَجْعَلُكَ تَعْتَقِدُ أَنَّ فُلَانًا كَانَ سَبَبًا فِي نَقْصِ رِزْقِكَ، أَوْ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي تَعَاسَتِكَ وَغَيْرِ ذَٰلِكَ مِمَّا سَيُذْكَرُ، وَلِأَجْلِ هَذَا فَالتَّشَاؤُمُ غَيْرُ مَرْغُوبٍ طَبْعًا وَشَرْعًا، فَالمُتَشائِمُ غَيْرُ مُتَوَكِّلٍ عَلَى اللَّهِ، وَغَيْرُ واثِقٍ بِاللَّهِ جَلَّ وعَلَا فَهُوَ يُعَتَقِدُ أَنْ الشَّخْصَ النَّحْسَ هُوَ الَّذِي يُنْقِصُ رِزْقَهُ، وَقَدْ يَتْرُكُ عَمَلًا تَشَاؤُمًا بِمَنْ يُعَتَقِدُ بِأَنَّهُ النَّحْسُ. لِذَا جاءَ فِي صَحيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثٍ ذَكَرَ فِيهِ عَرْضِ الأُمَمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ: ((وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ)) فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ أَلْفًا مَنْ هُمْ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((هُمْ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))، وَالشَّاهِدُ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((وَلَا يَتَطَيَّرُونَ)) وَالتَّطَيُّرُ: هُوَ التَّشَاؤُمُ، فَالْمُتَشَائِمُ لَا يُعْتَبَرُ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ لَا مِنْ قَرِيبٍ وَلَا مِنْ بَعِيدٍ. فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالأَسْبَابِ المَشْرُوعَةِ لِرَفْعِ الغَلَاءِ وَالبَلَاءِ وَالوَبَاءِ وَالتَّصَدِّي لِكَيْدِ الأَعْدَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَكُنْ مِنَ المُتَفَائِلِينَ لَا مِنَ المُتَشَائِمِينَ.
وَكَيْفَ لا؟ وَإِنَّ أَشَدَّ مَا ابْتُلِيَتْ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةُ، لَا سِيَّمَا في هَذِهِ الظُّرُوفِ التي تَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ غَلَاءٍ وَبَلَاءٍ وَوَبَاءٍ وَتَكَالُبِ الأَعْدَاءِ دُخُولُ النَّقْصِ في أَعَزِّ مَا لَدَيْهَا، في عَقِيدَتِهَا وَثَوَابِتِهَا. نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى العَوْدَةِ إلى كِتَابِ اللهِ تعالى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ لِتَدَبُّرِ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾. وَلِتَدَبُّرِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: كما في حَديثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا «رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» رواه الترمذي. فَالأُمُورُ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ أَخْفَى عَلَيْنَا مَا قَدَّرَهُ ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾.
هَلُمُّوا أَيُّهَا الْأَخْيَارُ إِلَى التَّفَاؤُلِ، وَنَبْذِ التَّشَاؤُمِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ التَّفَكُّرِ السَّلْبِيِّ مَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْكُمُ الكُرُبَاتُ وَالابْتِلَاءَاتُ، وَقُولُوا لِكُلِّ مُتَشَائِمٍ لِأَيِّ سَبَبٍ مِنَ الأَسْبَابِ: كَيْفَ تَتَشَاءَمُ وَأَنْتَ المُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى، وَالمُؤْمِنُ بِكِتَابِهِ، وَالمُؤْمِنُ بِقَدَرِهِ؟ كَيْفَ تَتَشَاءَمُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في حَادِثَةِ الإِفْكِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؟ حَادِثَةُ الإِفْكِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا حَادِثَةُ الإِفْكِ؟ ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؟
كَيْفَ تَتَشَاءَمُ مِنْ مَكْرِ الآخرِينَ وَرَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ مُخَاطِبًا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾؟ هَلْ مَكْرُهُمْ أَضَرَّ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ كَيْفَ تَتَشَاءَمُ وَأَنْتَ تَلْتَزِمُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾. وَلَا تَخَفْ مِنْ مَكْرِ المَاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ. كَيْفَ تَتَشَاءَمُ مِنَ الظُّرُوفِ وَالأَحْدَاثِ وَالابْتِلَاءَاتِ وَالكُرُوبِ وَأَنْتَ تَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾؟ فَاحْذَرْ مِنَ الاسْتِسْلَامِ للتَّشَاؤُمِ، لِأَنَّ التَّشَاؤُمَ يُضْعِفُكَ في العِبَادَةِ، وَيُورِثُكَ الإِحْبَاطَ، وَيَدْفَعُكَ لِسُوءِ الظَّنِّ بِاللهِ تعالى؛ فَكُنْ مُتَفَائِلًا لَا مُتشَائِمًا، وَأَبْشِرْ بِالخَيْرِ. وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
يَا صَاحِبَ الهمِّ إِنَّ الهمَّ مُنفَرِجٌ أَبْشِرْ بِخَيْرٍ فَإِنَّ الفَــارِجَ اللَّهُ
اليَأْسُ يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِه لَا تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الكَافِيَ اللَّهُ
اللَّهُ يُحْدِثُ بَعْدَ العُسْرِ مَيْسِرَةً لَا تَجْزَعَنَّ فَإِنَّ القَاسِمَ اللَّهُ
إِذَا بُليتَ فَثِقْ بِاللَّهِ وَارْضَ بِهِ إِنَّ الَّذِي يَكْشِفُ البَلْوَى هُوَ اللَّهُ
وَاللَّهِ مَا لَكَ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ فَحَسْبُكَ اللَّهُ فِي كُلٍّ لَكَ اللَّهُ
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَيُّهَا الْأَخْيَارُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُعَظِّمَ الثِّقَةَ بِهِ، وَأَنْ يَلْتَجِئَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ شَغَلَهُ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ زَمَانٌ مُبَارَكٌ، وَأَنْ كُلَّ زَمَانٍ شَغَلَهُ الْعَبْدُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ زَمَانٌ مَشْؤُومٌ عَلَيْهِ وَعَلَى مُجْتَمَعِهِ ، فَالشَّؤْمُ فِي الْحَقِيقَةِ -كَمَا قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ-: “هُوَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ”، إِلَى أَنْ قَالَ: “وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا شُؤْمَ إِلَّا الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ، فَإِنَّهَا تُسْخِطُ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلا-، فَإِذَا سَخِطَ عَلَى عَبْدِهِ شَقِيَ الْعَبْدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُ إِذا رَضِيَ عَنْ الْعَبْدِ سَعِدَ فِي الدَّارَيْنِ”. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: “كُلُّ مَا شَغَلَكَ عَنْ اللَّهِ مِنْ أَهْلٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ مَالٍ فَهُوَ عَلَيْكَ مَشْؤُومٌ”. فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ التَّشاؤُمِ وَسَلْبِيَّاتِهِ ، الحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ التَّفكِيرِ السَّلْبِيِّ وَأَضْرَارِهِ ، الحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ اليَأْسِ وَالْقُنُوطِ {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ التَّشْكِيكِ المَفْرِطِ، وَالـحَيْرَةُ المُسْتَمِرَّةُ، وَنَشْرُ رُوحِ التَّشَاؤُمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي التَّفكِيرِ الإيجَابِيِّ وَمَنَافِعِهِ ، اللَّهَ اللَّهَ فِي تَفْوِيضِ الأَمْرِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَالثِّقَةِ بِكَفايَتِهِ سُبْحَانَهُ ، اللَّهُ اللَّهُ فِي الْعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَاللهُ اللهُ فِي مُرَاقَبَةِ الأَفْكَارِ وَتَنْقِيَةِ الْعَقْلِ، وَ الْبُعْدِ وَالِابْتِعَادِ عَنْ الأَفْكَارِ السَّلْبِيَّةِ الْمُدَمِّرَةِ قَبْلَ أَنْ تَتَغَلْغَلَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ ، فالتفِكْرُ الإِيَجَابِيُّ هُوَ عِمَادُ النَّهْضَةِ، وَقُوَّةُ الشُّعُوبِ وَحِصْنُهَا الْحَصِينُ وَدِرْعُهَا الْمَتِينُ وَسِلَاحُ الْأُمَّةِ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْأَزْمَاتِ وَهُوَ سِرُّ الْبَقَاءِ، وَبِه تُشَيَّدُ الْحَضَارَاتُ، وَتُبْنَى الْأَمْجَادُ وَبِه تُصَانُ الْأَوْطَانُ، وَتُحْفَظُ الرِّسَالَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مِنْ كُلِّ فِكْرٍ مُنْحَرِفٍ ضَالٍّ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]. ومُواجَهَةُ الشُّكُوكِ وَالحَيْرَةِ لَيْسَتْ مَهْمَةً سَهْلَةً، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ مُسْتَحِيلَةً، إِنَّهَا تَتَطَلَّبُ مِنَّا جَمِيعًا، أَفْرَادًا وَمُجَتَمَعَاتٍ، أَنْ نَكُونَ عَلَى قَدْرِ المَسْئُولِيَّةِ، وَأَنْ نَعْمَلَ جَاهِدِينَ عَلَى تَعْزِيزِ اليَقِينِ فِي قُلُوبِنَا وَقُلُوبِ أَبْنَائِنَا، وَأَنْ نُحَصِّنَ عُقُولَهُمْ بِالمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ، وَأَنْ نُرَبِّيَهُمْ عَلَى القِيَمِ الإِيمَانِيَّةِ السَّلِيمَةِ، حَفِظَ اللهُ مِصْرَ مِنْ كَيْدِ الكَائِدِينَ، وَشَرِّ الفَاسِدِينَ، وَحِقْدِ الحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ المَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ المُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ المُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الخَائِنِينَ.
كتبه العبدُ الفقيرُ إلى عفو ربِّه د/ مُحَمَّد حِرْز









