خطبة الجمعة القادمة ، إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها ، للشيخ ثروت سويف

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها ،(المؤمن كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثابت كالنخلة نافع كالنحلة ) للشيخ ثروت سويف ، بتاريخ 28 صفر 1447هـ ، الموافق 22 أغسطس 2025م
خطبة الجمعة القادمة word ، إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها ، للشيخ ثروت سويف
خطبة الجمعة القادمة pdf ، إنَّ من الشجر شجرةً لا يَسقطُ ورقُها ، للشيخ ثروت سويف
إقرأ في هذه الخطبة
أولاً : مِنْ أَهَمِّ أَوْجُهِ الشَّبَهِ بَينَ المُسْلِمِ والنَّخْلَةِ
ثانياً : المؤمن القوي ثابت في دينه كالنخلة
ثالثاً : حفظ النفس
الخطبة الأولي
الحمدُ لله القويِّ المتين، القاهرِ الظاهرِ الملكِ الحقِّ المبين، لا يخفى على سمعِه خفيُّ الأنينِ، ولا يعزُب عن بصرِه حركاتُ الجنِين، ذلَّ لكبريائِه جبابرةُ السلاطين، وَقَضى القضاءَ بحكمتِه وهو أحْكَمُ الحاكمين، أحمده حمْدَ الشاكِرين، وأسْألُه مَعُونَةَ الصابِرين
وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له رب العالمين وإِلهُ الأوَّلين والآخرين
وأشَهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطَفَى على جميع المرسلين، المنصورُ ببَدرٍ بالملائِكةِ المنزَلين، صلَّى الله وسلم عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابِعين لهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدين
أما بعد
فلقد ضرب الله لنا الأمثال في القرآن لعلنا نتذكر، ولعلنا نعقل، ولعلنا نعلم، ومن ذلك قول الله عز وجل (أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ 24) ابراهيم
وهذه الشجرة -كما جاء تفسيرها عن صحابة رسول الله ﷺ، هي النخلة، وهي كالمؤمن
وهذه الكلمة التي مثل بها هي كلمة التوحيد، لا إله إلا الله
عباد الله: إن المُؤْمِنُ مُبَارَكُ الذَّات، مبارك الصفات؛ لأنه مُطَهَّرٌ مُسَلَّمٌ عن الشك والشِّرْكِ، مبارك الأقوال؛ لأنه لا يقول إلَّا خيرًا، مبارك الأفعال؛ لأنه لا يأتي إلَّا طاعه، مُنْتَفَعٌ به في علمه ودعائه، ومواساته إن كان ذا مال، وعلى قَدْرِ نفعه لنفسه والانتفاع به تكون بركته، فهو بَرَكَةٌ كله فالمؤمن ثابت كالنخلة نافع كالنحلة
روي الإِمَامان البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ النَّخْلَةُ». قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا.
أولاً : مِنْ أَهَمِّ أَوْجُهِ الشَّبَهِ بَينَ المُسْلِمِ والنَّخْلَةِ( النفع والشموخ )
عبادَ اللهِ .. وحيثُ إنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يَنطِقُ عن الهوى، فتعالوا لنرى بعضَ أوجِه الشَّبهِ بينَ المؤمنِ والنَّخلةِ كما ذكر في هذا الحديث المبارك
1 ـ فالنَّخلةُ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا .. والوَرقُ هو لِباسُ الشَّجرةِ وزينتُه .. وكذلك المؤمنُ فخيرُ لباسِه التَّقوى كما قالَ تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 26] ..
والنَّخْلَةَ لها عُروقٌ، وساقٌ، وفُروعٌ، وورقٌ، وثمرٌ. كذلك المُسْلِمُ له أصلٌ، وفرعٌ، وثمرٌ. فالأصل: هو أصولُ الإيمانِ السِّتة، والفرع: الأعمالُ الصالحة والطاعاتُ المتنوعة، والثَّمَرُ: كلُّ خيرٍ يُحَصِّله المُسلمُ، وكلُّ سعادةٍ يجنيها في الدنيا والآخرة.
فلا ترى المؤمنَ إلا تَقيَّاً مُداوِماً على ما أمرَ اللهُ تعالى، تاركاً ما نهى عنه، حتى يوافيَ ربَّه تعالى وهو وليٌّ من أولياءِ اللهِ تعالى الَّذينَ وصفَهم سُبحانَه بقولِه: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 62- 63
فالمؤمن كالنخلة قوي في دينه نافع في كل حينه
2 ـ والنَّخلةُ كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومطابقاً لِما جاءَ في الآيةِ: (تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) [إبراهيم: 25]، فالبُسرُ والرُّطبُ والتَّمرُ يؤكلُ صيفاً وشِتاءً.. وكذلك المؤمنُ له عملٌ صالحٌ في كلِّ وقتٍ .. في الصَّباحِ والمساءِ وفي الحَضرِ والسَّفرِ وفي الصِّحةِ والعافيةِ .. مُتأسياً بحبيبِه وقُدوتِه كما قالَ روي الامام البخاري عَنْ عَلْقَمَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْتَصُّ مِنَ الْأَيَّامِ شَيْئًا؟. قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطِيقُ.
كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً –أي مُسْتَمِرًّا-” .. ولا عجبَ فهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القائلُ: “أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ” .. وهكذا المؤمنُ يتقلَّبُ في أنواعِ الطَّاعاتِ .. ويصعدُ له في السَّماءِ في كلِّ حينٍ عباداتٌ .. حتى يموتَ على ذلك كما أوصاه ربُّه تعالى بقولِه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
وأما ثباتُ أصلِ النَّخلِةِ في الأرضِ، واستقرارِها فيها، فشيءٌ مُشَاهدٌ .. فالنَّخْلَةُ شديدةُ الثُّبوتِ؛ كما قال تعالى: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾. والمُسْلِمُ – إذا رَسَخَ الإيمانُ في قلبِه – يكون ثباتُه كثباتِ الجبالِ الرَّواسِي تَهبُّ عليها الأعاصيرُ والرِّياحُ ثم تنجلي وإذا النَّخلةُ صامدةٌ ثابتةٌ قائمةٌ .. وهكذا المؤمنُ الصَّادقُ في ثباتِه على الحقِّ، فلا تحطمُه الفِتنُ ولا تفتنُه الشُّبهاتُ .. (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) [إبراهيم: 27] ..
وهذا يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء، فهو يبالغ في الدعاء، ولا يرى أثرًا للإجابة، ولا يتغير أمله ورجاؤه، ولو قويت أسباب اليأس، لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح، أو؛ لأن المراد منه الصبر أو الإيمان؛ فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد من القلب التسليم، لينظر كيف صبره، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء.
فأما من يريد تعجيل الإجابة، ويتذمر إن لم تتعجل، فذاك ضعيف الإيمان، ويرى أن له حقًّا في الإجابة، وكأنه يتقاضى أجرة عمله.
1425- أما سمعت قصة يعقوب وقد ذهب يوسف بن يعقوب عليه السلام، فبكى يعقوب ثمانين سنة، ثم لم ييأس، فلما ذهب ابنه الآخر، قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83]
وقد دعا موسى عليه السلام على فرعون، فأجيب بعد أربعين سنة، وكان يذبح الأنبياء، ولا ترده القدرة القديمة العظيمة، وصلب السحرة، وقطع أيديهم
ولقد قالَ هِرَقْلُ لأَبي سُفْيَانَ بْنَ حَرْبِ: “وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟، فَزَعَمْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ يُخَالِطُ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ يجعل المسلم ثابتا راسخا لا يتزحزح وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- أنّه قال: أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعشر كلمات. قال: «لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا؛ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرًا؛ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ، وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ؛ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ، وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مُوتَانٌ وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ، وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ، وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ» رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجال أحمد ثقات
يقول سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه أوصاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ) أي أمرني ( بعشر كلمات ) بعشرة أحكام من الأوامر والنواهي لأعمل بها وأعلمها الناس ( قال : ( لا تشرك بالله شيئا ) أي بقلبك ، أو بلسانك أيضا ، فإنه أفضل عند الإكراه ( وإن قتلت وحرقت ) أي وإن عرضت للقتل والتحريق
ثم المؤمن القوى في التعامل مع الوالدين بأن يخفض جناح الذل من الرحمة لهما فلا يعقل أن يعق والديه أو يغضبهما
كذا الكسل وترك الصلاة أو القوة النفسية ضد مغريات العصر وأخبثها المخدرات والخمر فإنها رأس كل خطيئة فلا يحق لمؤمن الولوج في تلك الخبائث ( ولا تشربن خمرا فإنه ) أي : شربها ( رأس كل فاحشة ) أي : قبيحة ؛ لأن المانع من الفواحش هو العقل ؛ ولذا سمي عقلا ؛ لأنه يعقل صاحبه عن القبائح فبزواله عن الإنسان يقع في كل فاحشة عرضت له ، ولذا سميت أم الخبائث ، كما سميت الصلاة أم العبادات ؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ( وإياك والمعصية )
وان يعف نفسه عن المعصية ويبنى يقينه وبدنه فلا يكن جبان ويفر من عدوا فهى أما نصر أو شهادة إن عاش فهو سيد الناس وإن مات صار الي جنة لم يري مثلها قط ( وإذا أصاب الناس موت ) أي : طاعون ووباء ( وأنت فيهم ) : الجملة حالية ( فاثبت ) : لقوله – عليه الصلاة والسلام – : ( وإذا وقع الطاعون ببلد ، وأنتم فيه فلا تخرجوا منه ، وإذا وقع ببلد ، ولستم فيه فلا تدخلوا إليه
3 ـ ومما جاءَ في الأحاديثِ: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ، مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ نَفَعَكَ” .. فالنَّخلةُ كلُّها منفعةٌ لا يسقطُ منها شيءٌ بغيرِ منفعةٍ، فتمرُها غذاءٌ ودواءٌ وقُوتٌ وشرابٌ وفاكهةٌ وحَلوى، وجذعُها للأبنيَةِ، وسعفُها تُسقفُ به البيوتُ، وخُوصُها يُتَّخذُ منه المكاتلُ والأواني والحُصُرُ، ولِيفُها لصُنعِ الحِبالِ، بل حتى نوى التَّمرِ علفٌ للدوابِ .. وهكذا المؤمنُ تنتفعُ بكلامِه المُباركِ وأخلاقِه الحسنةِ وتعاملِه الطَّيِّبِ فلا تجدْه إلا في حاجةِ النَّاسِ مُساعداً لهم وناصحاً وواعظاً وآمراً بالمعروفِ وناهياً عن المنكرِ ومُعيناً على نوائبِ الحقِّ
وكما قالَ ذلكَ العالِمُ الحكيمُ لِمن استفتاه، وقَالَ لَهُ: “إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟، فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ” ..
ويحتاجُ المؤمنُ إلى صُحبةٍ صالحةٍ تُعينُه على طاعةِ اللهِ تعالى .. قالَ سبحانَه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28] .. وكما أوصاهُ حبيبُه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- حينَ قالَ له: “لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّكما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الجليسِ الصَّالحِ أنه كحامِلِ المِسكِ: “إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تَبتاعَ منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحاً طيِّبةً”.. وهؤلاءِ هم خيرُ هذه الأمةِ كما جاءَ في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ عَلَى أُنَاسٍ جُلُوسٍ فَقَالَ: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُم؟”، قَالَ: فَسَكَتُوا، فَقَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا، قَالَ: “خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ”.
[فصلت: 34] ..
4 ـ كما ان النخلة مرتفعة الهامة شامخة مثل المؤمن العاقل، لا يلتفت إلى حاسده، ولا يعده شيئًا؛ إذ هو في واد، وذاك في واد، وذاك يحسده على الدنيا، وهذا همته الآخرة، فيا بعد ما بين الواديين!وهذا من صفاتِ النَّخلِ
كما قالَ الشَّاعرُ
كُنْ كالنَّخيلِ عن الأحقادِ مُرتفعاً *** يُرمى بصخرٍ فيُلقي أطيبَ الثَّمرِ
5 ـ فالنَّخلةُ تمتازُ أيضاً بأنها كلَّما طالَ عمرُها ازدادَ خيرُها وجادَ ثمرُها، وهكذا المؤمنُ وهو خيرُ النَّاسِ إذا طالَ عمرُه ازدادَ خيرُه وحسنَ عملُه، ففي الحديثِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟، قَالَ: “مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: “لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا”5. وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من السعادة أن يطول عمر العبد، ويرزقه الله عز وجل الإنابة”6”.
وكما أنَّ النَّخلةَ أصبرُ الشَّجرِ على العَطشِ، فكذلك المؤمنُ صبورٌ على البلاءِ لا تزعزعه المصائبُ، وقد اجتمعَ فيه أنواعُ الصَّبرِ الثلاثةُ: الصبرُ على طاعةِ اللهِ، والصبرُ عن مَعاصيه، والصبرُ على أقدارِه المؤلمةِ .. مؤمناً باللهِ تعالى الحكيمِ في أقدارِه .. مُحتسِباً ذلكَ الأجرُ الذي أخفى اللهُ تعالى مِقدارَه .. (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
6 ـ والأعجبُ في تشابِه المؤمنِ والنَّخلةِ هو حنينُهم إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- .. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما:
أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتُمْ). فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فضمها إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ. قَالَ: (كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا) الباخري.
وهكذا المؤمنُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ يشتاقُ إليه شَوقاً عظيماً .. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ “مسلم
المؤمن الحقيقي: هو الَّذي تسري عظمة الله في فؤاده، فيسجد جسده، ويخشع قلبه، وتتواضع نفسه. ففي ركوعه يقوله واصفا حاله مع ربه اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي.
– ولذلك يقول الإمام أحمد: لو صححت قلبك لم تخف أحدا.
– وهذا العز بن عبد السلام يتقدم أمام أحد الملوك الطغاة، ويتكلم عليه بكلام شديد، فلما مضى قال له الناس: أما خفت يا إمام، فقال: تصورت عظمة الله، فأصبح عندي كالهر
ثانياً : المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف
عباد الله : إن العظمة الإنسانية، والقوة الإيمانية لا تُعرف في الرخاء قدرَ ما تعرف في الشدة، وان النفوس الكبار هي التي تملك أمرها عند بروز التحدي وان الله يحب المؤمن القوي
ففي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» مسلم .
هذا الحديث الجامع المانع يُحدثنا فيه نبينا أنه ينبغي للمؤمن ألا يدع الأسباب، بل ينبغي أن يأخذ بالأسباب، ويعمل، ويكدح؛ حتى لا يحتاج إلى الناس، ولهذا قال: المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف في إيمانه أو الضعيف في بدنه وعمله، لأن المؤمن القوي ينتج ويعمل للمسلمين وينتفع المسلمون بقوته البدنية وبقوته الإيمانية، وبقوته العلمية ينتفعون من ذلك نفعًا عظيمًا في الجهاد في سبيل الله، وفي تحقيق مصالح المسلمين، وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين..
فالمؤمن القوي الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأخذ بالأسباب حتى يستغني عن الناس؛ خيرٌ من الضعيف الذي قد يحتاج إلى الناس، ويضعف عن الأمر والنهي.
والمؤمن القوي متقن في عمله ينفق على عياله من عرقه وكده وفضل ماله وفي الوسط لا تبذير ولا تقصير ويؤدبهم لينفعوا أنفسهم ويخوفهم بالله وفعل أوامره واجتناب نواهيه ويعلمهم لينفعوا بلادهم ودينهم
* القوة هنا تشمل كل أنواع القوة التي تقيم للإنسان حياة في هذه الأرض، فتكون القوة الجسدية والقوة الاقتصادية والقوة المادية وقوة الفراسة والقوة الفكرية وقوة الوعي وقوة السلاح وقوة العتاد والعدد والعدة، وكلما اكتشفت إحدى تلك الجوانب من القوة جعلَتْ منك شعلة وكتلة من الطاقة والحيوية، وقد قام مجد هذا الدين على أكتاف وعقول قوية
- القوة في مواقف المصطفي صلى الله عليه وسلم..
وخير من تحلي بالقوة في احلك الازمات هو القدوة والاسوة الحسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تحمل الجوع فربط الحجر علي بطنه وحوصر وحُبس رسول اللهﷺ، ومن معه في شعبِ أبي طالب وهجر لكنه كان سيد الأقوياء بالله ولقد ضرب لنا نبينا صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في كل خلق فضيل، تحلي بالقوة اذا عصفت الازمات فهو الثابت حين زلزل الناس في احد والخندق وفي العسرة وهو القوي حين ضعف الناس
وحري بالمسلم أن يقتدي به، فهو أشجع الناس في الحرب، وأثبتهم عند اللقاء
في البطولة والشجاعة فهذا علي يقول: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه. رواه الإمام أحمد في المسند
* قوته وثباته صلي الله عليه وسلم يوم حنين …..
في غزوة حنين عندما فاجأ المشركون المسلمين في كمين مباغت، فر المسلون وانجفلوا، لم يبق إلا النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته وعمه العباس وابن عمه أبو سفيان ابن الحارث
والحديث رواه الإمام البخاري عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عُمَارَةَ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ، فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ البَيْضَاءِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ»
وَزَادَ في الحَديثِ: حتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ. قالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ علَى بَغْلَتِهِ.
والمثل الخر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك المؤمن القوي الخليفة الراشد
روي البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إيهًا يا ابْنَ الخَطَّابِ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ.
إنه لقوة إيمانه أخاف الشيطان وصرع الجن
أخرج الطبراني في معجمه الكبير، والدارمي في سننه، وغيرهما أن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْجِنِّ فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ الْإِنْسِيُّ، فَقَالَ لَهُ الْجِنِّيُّ: عَاوِدْنِي، فَعَاوَدَهُ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ لَهُ الْإِنْسِيُّ: إِنِّي لَأَرَاكَ ضَئِيلًا شَحِيبًا كَأَنَّ ذُرَيِّعَتَيْكَ ذُرَيِّعَتَا كَلْبٍ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْجِنِّ ـ أَوْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ ـ قَالَ: لَا وَاللهِ إِنِّي مِنْهُمْ لَضَلِيعٌ، وَلَكِنْ عَاوِدْنِي الثَّالِثَةَ، فَإِنْ صَرَعْتَنِي عَلَّمْتُكَ شَيْئًا يَنْفَعُكَ، فَعَاوَدَهُ فَصَرَعَهُ، قَالَ: هَاتِ عَلِّمْنِي، قَالَ: هَلْ تَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَهَا فِي بَيْتٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ، لَهُ خَبَجٌ كَخَبَجِ الْحِمَارِ، لَا يَدْخُلُهُ حَتَّى يُصْبِحَ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فَعَبَسَ عَبْدُ اللهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَنْ يَكُونُ هُوَ إِلَّا عُمَرُ -رَضِي اللهُ عَنْهُ-
وروي ابْن الْأَثِير فِي (النِّهَايَة) أن عَائِشَة رضي الله عنها نظرت إِلَى رجل كَاد يَمُوت تخافتا فَقَالَ: مَا لهَذَا، فَقيل: إِنَّه من الْقُرَّاء، فَقَالَت : كَانَ عمر سيد الْقُرَّاء، وَكَانَ إِذا مَشَى أسْرع، وَإِذا قَالَ أسمع، وَإِذا ضرب أوجع.
وكان مشيه- رضي الله عنه- إلى السرعة خلقة لا تكلفاً. والخير في الوسط.
كان يمشي كأنه راكب على فرس، وقوي في إرادته
فالمسلم قوي في كل حاله أما أن تري أناس يتماوتون في مشيتهم، ينكسون رءوسهم ويكسرون أجنحتهم في السكة، يظنون أن هذه تدخلهم في العشرة المبشرين بالجنة فلا
كان قوياً في أحلك الظروف لإيمانه بربه عزيز بدينه ذليل علي المؤمنين تواضعا
روي الحاكم في المستدرك عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا، تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ، فَقَالَ عُمَرُ: «أَوَّهْ لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ»
* عباد الله : لا يتطلب للمسلم القوي قوة في جسده وحسب بل قوة إيمانه وقلبه
* فهذا أحد العبادلة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان ضعيف الجسم لكنه كان قوي الإيمان فهو أول من جهر بالقرآن الكريم عند الكعبة ولذا كان ثقيلاً في ميزان ربه
روي الإمام أحمد إنَّ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ انْكَشَفَتْ ساقُه، وكانت دقيقةً هزيلةً، فضَحِكَ منها بعضُ الحاضِرِينَ. فقال النبيُّ : أَتَضْحَكُونَ من دِقَّةِ ساقَيْهِ ! و الذي نفسي بيدِه لَهُمَا أَثْقَلُ في الميزانِ من جَبَلِ أُحُدٍ
* كذلك اخوتنا أصحاب القدرات الخاصة أصحاب قوة * فهذا عبد الله بن أم مكتوم أسلم وكان اشهر أعمي لكنه كان صاحب قلب مبصر ولما أتى داعي الهداية، والكفاح، والجهاد، وارتفعت راية الإسلام بيد عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونادى بالنفير إلى القادسية، إلى معركة فاصلة مع آل كسرى وآل رستم؛ كان من المجاهدين عبد الله بن أم مكتوم، قال له الصحابة: أنت أعمى، قال: لا والله، يقول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]
فلما حضر المعركة، سلموه الراية، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه.
سلام على ذاك الصديق المخلص، وسلام على ذاك المنيب القوي الذي عرف الله فعرفه
لقد كانت عظمة هؤلاء يوم اتصلوا بالواحد الأحد، وعرفوا الله عزّ وجلّ، فَعَرَّفهم الله عز وجل على منازل الصديقين.
ومما زادني فخرًا وتيهاً ……وكدتُ بأخمصي أَطأُ الثريَّا
دخولي تحت قولك “يا عبادي” ……وأن صيَّرت أحمد لي نبيِّا
رضي الله عنكم أيها السلف الصالح، يوم عرفتم أن الحياة بسنينها وأعوامها، ينبغي أن تصرف في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم…إذا جَمَعتْنَا يا جريرُ المجامعُ
أولئك الذين كان كل منهم قرآنًا يمشي على الأرض, يتعاملون بتعاليم القرآن, وينامون على تلاوة القرآن, ويستيقظون على صوت القرآن.
أولئك الذين نظر الله إلى قلوبهم, فرضي عنهم ورضوا عنه؛ يكلم شهداءهم كفاحًا, ويرضى عن مواقفهم, ويثني عليهم وهم في الحياة الدنيا.
يجتمعون تحت شجرة, فينزل جبريل بقرآن يتلي ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
تعالوا لنضرب مثلا آخر في القوة الإيمانية والثبات على الحق للصحابة الكرام
من أؤلئك الصحابة الأبرار عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى……
قصة…..
ذكر ابن كثير وغيره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشًا لحرب الروم، وكان من ضمن هذا الجيش شاب من الصحابة هو عبد الله بن حُذافة رضي الله عنه، وطال القتال بين المسلمين والروم، وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين وجرأتهم على الموت، فأمر أن يُحضَر إليه أسير من المسلمين، فجاؤوا بعبد الله بن حذافة يجرّونه، الأغلال في يديه، والقيود في قدميه، فأوقفوه أمام الملك، فتحدث قيصر معه فأُعجِب بذكائه وفطنته، فقال له: تنصَّرْ وأطلِقك من الأسر، فقال عبد الله: لا، فقال قيصر: تنصّرْ وأعطِك نصف ملكي، فقال: لا، فقال: تنصر وأعطك نصف ملكي وأشركك في الحكم معي، فقال عبد الله: والله لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وملك العرب والعجم على أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت، فغضب قيصر وقال: إذًا أقتلك، قال: اقتلني، فأمر قيصر به فسُحِب وعُلِّق على خشبة، وجاء قيصر وأمر الرماة أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه، وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية وهو يأبى وينتظر الموت، فلما رأى قيصر إصراره أمر أن يمضوا به إلى الحبس.
ثم أُوقف عبد الله بن حذافة أمام قِدر، وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثّقًا بالقيود، حتى ألقوه في هذا الزيت وغاب جسده في الزيت ومات، وطفت عظامه تتقلّب فوق الزيت، وعبد الله ينظر إلى العظام، فالتفت قيصر إلى عبد الله وعرض عليه النصرانية فأبى، فاشتد غضب قيصر وأمر بطرحه في القِدر، فلما جروه إلى القدر وشعر بحرارة النار بكى ودمعت عيناه، ففرح قيصر وقال: تتنصر وأعطِك وأمنحك، قال: لا، قال: إذًا لماذا بكيت؟! فقال عبد الله: أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القِدر فتموت، ولقد ودِدت والله أن لي مائة نفس كلّها تموت في سبيل الله مثل هذه الموتة، فقال له قيصر: قبِّل رأسي وأخَلِّي عنك، فقال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين عندك؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه ثم أطلقه مع الأسرى وقدم بهم على عمر، فقام عمر فقبل رأسه.
القصة رواها ابن عساكر وابن سعد وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، وذكرها ابن حجر في الإصابة وفي سير أعلام النبلاء، وابن كثير في التفسير، وابن الأثير في أسد الغابة، والمزي في تهذيب الكمال.
عجبًا! لله دره، أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات وهذه القوة ؟! وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن من المسلمين اليوم من يتنازل عن دينه لأجل دراهم معدودات رشوية في عمله أو تتبّع الشهوات أو الولوغ في الملذّات، ثم يختَم له بالسوء والعياذ بالله من ذلك.
فَبِالثَّبَاتِ يَعِيشُ المُسْلِمُ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ ثَابِتَ الأَرْكَانِ، عَظِيمَ القِيَمِ، مُحَقِّقًا أَسْمَى غَايَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
إن الاعداء ينفقون أموالهم ليصدوا أهل الثبات عن دين الله وان يهدموا بلاد الإسلام فهم لا يدخرون جهداً من أجل غايتهم الم يخبرنا الله ورسوله بذلك
قال الله تعالى في سورة الانفال ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال
اين أهل الثبات حتي في غير الأزمات أهل الثبات على الطاعة “رأى وهب بن الورد قومًا يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبَّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين وإن كان لم يتقبَّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين” (لطائف المعارف، ص: [209]
……….
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد
فإن الله كرّم الإنسان، وأمر بحفظ النفس، ونهى عن قتلها، وجعل من مقاصد الشريعة صيانتها، وإن حفظ النفس لا يعني فقط عدم القتل، بل يشمل كل ما يؤدي إلى إتلاف النفس أو تعريضها للهلاك، سواء كان ذلك بـ:
١- الانتحار نتيجة الاكتئاب أو الفشل أو الضغط.
٢- القيادة المتهورة التي تزهق الأرواح على الطرقات.
أولًا: خطر الانتحار
وهو من الكبائر العظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ِمن قتل نفسه بشيء، عُذب به يوم القيامة» [متفق عليه
إن “الحياة هبة الله، ولذلك يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الإقدام على التخلص من الحياة، مهما كانت بواعثه، ومهما قست بالمرء نوائبُ الزمان، فمن المعلوم أن هذه الدنيا دار شقاء، وليس للمصائب والمتاعب إلا الرجال، وبقدر تحمل الرجل لكبار المصائب تكبر رجولته، وبقدر جزعه وانهياره أمام بعضها يظهر ضعفه وجبنه.
وقد علمتنا التجارب أن طريق السعادة مفروش بالأشواك، ومن أراد القمة تسلق الصعاب، ودون الشهد إبر النحل، وبالجهاد والصبر والتفويض يبلغ الإنسان ما يريد، ومن ظن أنه بانتحاره يتخلص من الآلام فهو واهم، لأنه إنما يدفع بنفسه من ألم صغير إلى ألم كبير، ومن ضجر محدود، وفي زمن قصير، إلى ضجر غير محدود، وفي زمن طويل إن الذي يقدم على الانتحار غير راض بالقضاء، محارب للقدر ساخط على الفعال لما يريد، يائس من روح الله، وإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ومن أجل هذا كانت عقوبته عند الله قاسية”. [فتح المنعم]
ومن الأسباب المعاصرة التي تؤدي للضيق النفسي وأحيانا الانتحار: الإخفاق في الامتحانات وفي أعقاب ظهور النتيجة، وهنا لا بد من التسليم بقضاء الله وأن نعرف أن أمر المؤمن كله خير مع الأخذ بالأسباب طبعا، ويجب أن نعلم أولادنا أن الامتحان ليس نهاية العالم، وأن النتيجة لا تعني فشلك في الحياة، بل هي محطة من محطات التعلّم والتجربة، ولنبتعد عن الضغط الزائد، واللوم القاسي، والمقارنة بالآخرين.
ثانيًا: التهور في الطرق والمواصلات
فكثير من حوادث الطرق سببها: السرعة الجنونية، واستخدام الهاتف أثناء القيادة، والقيادة بدون رخصة أو أهلية، وتجاوز الإشارات، وعدم احترام قواعد السير. قال صلى الله عليه وسلم: «ِمن قتل نفسه بشيء عذبه الله به في نار جهنم» [رواه مسلم]، ويشمل ذلك من يتسبب عمدًا أو إهمالًا في قتل نفسه أو غيره.
- إجراءاتٌ عمليةٌ لحفظِ النفسِ
– تقوية الإيمان والرضا بقضاء الله؛ فاليأس من رحمة الله سبب كثير من حالات الانتحار.
– التأكيد على أن تعرض الإنسان للمشكلات يتطلب محاولة حلها، وطلب العون من الآخرين، وليس معناه أن يُنهيَ الإنسانُ حياته لإنهاء الأزمات.
– دعم الشباب نفسيًّا واجتماعيًّا.
– احترام قوانين المرور؛ فإنها ليست مجرد قوانين دنيوية، بل من حفظ النفس الذي أوجبه الدين.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على كل أسباب الثبات، وحذار من كل أسباب الزيغ، تكونوا من المفلحين.
واذكروا في دعائِكم أن يحفظَ المسلمين في فلسطين من شرِّ الصهاينَة الظالمين، وأن يحفظَ أعراضَهم وأموالهم، وأن ييسِّر للمسلمين أرزاقَهم، وأن يؤمِّن روعاتِهم، وأن يستُر عوراتِهم في كلِّ مكان، وأن يخذلَ أعداءَ الإسلام، ويجعَل كيدَهم في نحورهم، ويخالفَ بين كلمتهم، ويكفَّ شرَّهم دائمًا، وتحرَّوا أوقاتَ الإجابة، فإنَّ الأمرَ كلَّه لله، فقد وصف النبيّ الفتنَ فقال فيما روي عنه: ((استقبِلوا بالدعاء أمواجَ البلاء))، وفي الحديث: ((الدعاء مخُّ العبادة)).
عبادَ الله، جدِّدوا التوبةَ في كلِّ وقتٍ وحين، فذلك هو العدّة لكلِّ شدّة، وصلّوا على نبيّ الهدى ورسوله المصطفى، كما أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة…
جمع وترتيب/ ثروت علي سويف/ إمام وخطيب ومدرس بالأوقاف المصرية