خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة ، النبي المعلم صلي الله عليه وسلم ، للدكتور مسعد الشايب

خطبة الجمعة القادمة ، النبي المعلم صلي الله عليه وسلم ، للدكتور مسعد الشايب الجمعة 27 من ربيع الأول 1447هـ الموافق 19 من أغسطس 2025م

خطبة الجمعة WORD ، النبي المعلم صلي الله عليه وسلم ، للدكتور مسعد الشايب

خطبة الجمعة PDF ، النبي المعلم صلي الله عليه وسلم ، للدكتور مسعد الشايب

===========================================

أولا: العناصر:

  1. التعليم والتربية والتزكية من وظيفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
  2. خمسةٌ من جملة من مكارم أخلاقه (صلى الله عليه وسلم).
  3. الخطبة الثانية: (حبُّ الوطن، والعمل على نهوضه، والسعي في بنائه).

===========================================

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله رب العالمين، أنار الوجود بميلاد خير مولود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، سبحانه بعث فينا رسولا من أنفسنا يتلوا علينا آياته، ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وقد كنّا من قبله في ضلال مبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا، وحبيبنا، وشفيعنا محمداً عبده ورسوله، فاللهم صلْ وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وأصحابه الأخيار، ومن سار على نهجهم إلى يوم القرار. وبعد:

===========================================

(1) ((التعليم والتربية والتزكية من وظيفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)))

===========================================

فيقول الحق سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164]، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (…إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا)(رواه مسلم)، هذه الآية القرآنية، ومعها هذا الحديث النبوي الشريف، يبينان ويوضحان لنا أن الله (عزّ وجلّ) أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) معلمًا ومؤدبًا لنا، يعلمنا ما أوحاه إليه في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة من أحكام الشريعة، والحلال والحرام، ويؤدبنا بما اشتملا عليه من أخلاق كريمة، وأوصاف حميدة.

كما أن الحق تبارك وتعالى أمرنا بالتأسي والاقتداء والاهتداء بالنبي (صلى عليه وسلم) في طاعاته وعباداته وسلوكه وأخلاقه، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، وقد عشنا في لقاء الجمعة السابق مع بعض هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) في حياته الزوجية، والأسرية، وبينت ووضحت لكم كيف كان (صلى الله عليه وسلم) يعامل زوجاته، وكيف كان يعامل أطفاله، وإتمامًا للفائدة، وتعميمًا للخير، نعيش اليوم بإذن من الحق تبارك وتعالى في لقاء الجمعة الطيب المبارك، ونحن نجدد الاحتفاء والاحتفال بذكرى ميلاد المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، نعيش مع النبي (صلى الله عليه وسلم) معلمًا ومربيًا لأصحابه ولأمته من بعدهم، فتعالوا بنا لنرى مجموعة من مكارم أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) أدبنا بها، وعلمنا إياها لما لها من أثرٍ عظيم على الفرد والمجتمع، فأعيروني يا عباد الله القلوب، وأصغوا إليّ بالآذان والأسماع، فأقول وبالله التوفيق:

===========================================

(2) ((خمسة من جملة من مكارم أخلاقه (صلى الله عليه وسلم)))

مما تعلمناه من المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وأدبنا به، وكان من عظيم شمائله وأخلاقه، الأخذ بالتوسط في الأمور كلِّها، والبعد عن الإفراط والتفريط:

فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) (قيل: هم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعثمان بن مظعون (رضي الله عنهم)، يسألون عن عبادة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما أخبروا كأنهم تقالوها (عدوها قليلة)، فقالوا: وأين نحن من النبي (صلى الله عليه وسلم)؟، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم، فقال: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)(اللفظ للبخاري)، ولا عجب في ذلك، فالإسلام هو دين الوسطية، والنبي (صلى الله عليه وسلم) هو رسول الوسطية، والحق تبارك وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143].

إن الأخذ بالتوسط، والبعد عن الإفراط والتفريط له مظاهر متعددة ومتنوعة: منها: الموازنة بين مطالب الروح ومطالب الجسد، فالإسلام جاء وسطًا بين مادية اليهود الجسدية وهذا من التفريط، ورهبانية النصارى الروحية وهذا من الإفراط، فلا مادية ولا رهبانية في الإسلام، وإنما الموازنة بين مطالب الروح، ومطالب الجسد، انظروا إلى سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)، وقد علم أنه يصوم النهار ولا يفطر، ويقوم الليل بالقرآن كله ولا يرقد: (فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)(متفق عليه)، وها هو سيدنا سلمان الفارسي (رضي الله عنه)، يقول لسيدنا أبي الدرداء (رضي الله عنهما)، وقد نهج نهج عبد الله بن عمرو وفعل مثله: (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ). فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) معقبًا على ذلك حينما بلغه: (صَدَقَ سَلْمَانُ)(رواه البخاري).

ومنها: العمل للدنيا كما هو العمل للأخرة، فالدنيا مزرعة الأخرة، ومن الإفراط أن ننشغل بالأخرة فقط ونضيع الدنيا، ومن التفريط أن ننشغل بالدنيا ونضيع الأخرة، وإنما جاء الإسلام بالعمل لهما، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)(رواه البخاري)، فهذا الحديث دعوة للعمل للدنيا كما نحن مطالبون بالعمل للآخرة، فداود (عليه السلام) بالرغم من نبوته، وبالرغم من ملكه، فقد كان نبيا ملكًا، بالرغم من ذلك لم يترك العمل بيده، ولم يرغب عن العمل للدنيا، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ)(رواه ابن ماجه)، فالإنفاق على الأهل والأولاد من العمل للدنيا، وفي نفس الوقت هو نوعٌ من أنواع الصدقة التي تنجينا من عذاب الأخرة.

=======

ومنها: التوسط في الإنفاق بين التقتير والإسراف والتبذير، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ)(متفق عليه)، (معى) جمع أمعاء وهي المصارين. (سبعة أمعاء) كناية عن الشره والرغبة في متاع الدنيا وملذاتها والحرص على التشبع من شهواتها التي من جملتها تنوع المآكل والمشارب والامتلاء منها.

ومنها: التوسط في أداء الطاعات والعبادات بدون إفراطٍ أو تفريط، قال (صلى الله عليه وسلم): (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)(رواه أحمد)، وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسجد، وحبلٌ ممدودٌ بين ساريتين، فقال: (مَا هَذَا؟). قالوا: لزينب (بنت جحش) تصلي، فإذا كسلت، أو فترت أمسكت به. فقال: (حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ، أَوْ فَتَرَ قَعَدَ)(متفق عليه).

===========================================

أيضًا مما تعلمناه من المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وأدبنا به، وكان من عظيم شمائله وأخلاقه أيضًا، الدعوة للمحافظة على المال سواء أكان عامًا أم خاصً، والدعوة إلى الرشد في إنفاقه، والنهي عن إضاعته، فآفة العصر اليوم إضاعة المال سواء أكانت الإضاعة في سرف أو تبذير، والفرق بين الاثنين، أن السرف هو تجاوز الحدّ في الحلال المباح والمغالاة فيه، كالمغالاة في الطعام والشراب واللباس والمسكن، والمركب…الخ، أما التبذير فيكون بإنفاق المال في ما لا يجوز في المحرمات، كشرب الخمر والمخدرات والمسكرات، ولعب القمار، والزنا…الخ، وفي كل ما لا ينفع ولا يفيد، أو في اللهو الباطل كضرب الشماريخ والصواريخ، والعري القبيح، وفي تدمير القيم والمبادئ والأخلاق، ومحاربة الدين….الخ.

قال (صلى الله عليه وسلم) محرمًا السرف: (كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ)(رواه النسائي)، وقال أيضًا: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)(رواه الترمذي)، وقال أيضًا: (لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلاَ تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ»)(متفق عليه)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا، أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا)(رواه ابن ماجه).

وقال (صلى الله عليه وسلم) محرمًا التبذير وإضاعة المال: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)(متفق عليه)، وعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما)، أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم. قال: فقال: (كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُبَادِرٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ)(رواه أبو داود)، ولا متأثل: أي ولا متخذ منه أصل مال للتجارة ونحوها.

=======

وقد علمنا النبي (صلى الله عليه وسلم) أن إخراج حق الله (عزّ وجلّ) في المال هو أحد السبل في المحافظة عليه، فقال: (مَا تَلَفَ مَالٌ فِي بَحْرٍ وَلَا بَرٍّ إِلَّا بِمَنْعِ الزَّكَاةِ فَحَرِّزُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ…)(مسند الشاميين)، وقال أيضًا: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)(متفق عليه).

=======

كما علمنا (صلى الله عليه وسلم) المحافظة على رأس المال المنتج محافظة على المال، فقد خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم، أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، فقال: (مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟). فقالا: الجوع يا رسول الله. فقال: (وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا). فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أَيْنَ فُلَانٌ؟). قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني، قال: فانطلق، فجاءهم بعذق (غصن بلح بمنزلة العنقود من العنب) فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية (السكين)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ). فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا…)(رواه مسلم)، فتلك دعوة للحفاظ على رأس المال المنتجة (إياك والحلوب) محافظة على المال، فلو ذبحت تلك الشاة الحلوب لضاع على أهل بيت من المسلمين مصدر رزق ودخل، ومن أجل ذلك كان اشتراط السنّ في الهدي، والأضاحي، والعقيقة.

========

وقد أخبرنا المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن الإنسان سيسأل مرتين عن ماله يوم القيامة، مرة عن مصدر اكتسابه، والثانية عن جهة إنفاقه، فقال: (لَا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟) (المعجم الكبير)، فهل أعددنا الإجابة لهذين السؤالين؟ يا من جمعت المال من حلّه وغير حلّه، وأنفقته فيما يحوز وفيما لا يجوز هل سمعتم هذا التحذير النبوي قبل ذلك؟ إن كنتم سمعتموه فأعملوا له، وإن لم تكونوا فها قد سمعتم فاتقوا الله في أموالكم.

===========================================

أيضًا مما تعلمناه من المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وأدبنا به، وكان من عظيم شمائله وأخلاقه أيضًا، إنصاف النساء، والوصية بهن، والدعوة إلى احترامهن، وإعطائهن حقوقهن، وهذا من أعظم ما تميز به النبي (صلى الله عليه وسلم) في كثير من تشريعاته، وأحاديثه، فقد أنصف الأنثى أمًّا، وبنتًا، وزوجةً، وأختًا، وخالةً، والهدف من وراء ذلك إبطال ما رسخته الجاهلية في نفوس اتباعها، من ظلم النساء والبنات، وهضم حقوقهن.

=======

فأوصى بالنساء عمومًا، فقال: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ)(اللفظ للبخاري).

=======

وأوصى بالأم فقال حينما سأله معاوية بن حيدة (رضي الله عنه) عن أحق الناس بحسن المصاحبة والمخالطة والمعاشرة: (أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ)(اللفظ لمسلم)، وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) أي الناس أعظم حقا على المرأة؟. قال: (زَوْجُهَا). قلت: فأي الناس أعظم حقا على الرجل؟. قال: (أُمُّهُ)(رواه النسائي).

=======

وفي حجة الوداع أوصى بالزوجات، فقال: (…أَلَا فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ، لَا عَلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيْءٌ، إِنَّمَا آتَيْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَهُنَّ حَقٌّ عَلَيْكُمْ فِي بُضْعِهِنَّ، وَرِزْقِهِنَّ، وَكِسْوَتِهِنَّ…أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟). قالوا: نعم. قال: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ…)(رواه الترمذي)، وقال أيضًا: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)(رواه مسلم).

=======

وأوصى بالبنات والأخوات، فقال: (من عالَ ثلاثَ بَنَاتٍ، فأدَّبهُن، وزَوَّجَهُنَّ، وأحْسَنَ اليهنَّ، فلهُ الجَنَّةُ)، وفي رواية: (ثلاثُ أخواتِ، أو ثلاثُ بناتٍ، أو ابنَتانِ، أو أُختانِ)(رواه أبو داود)، وقال أيضًا: (مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتٍ، أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ، حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ)(رواه أحمد)، وقال أيضًا: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ)(متفق عليه)، وقال أيضًا: (لَا تَكْرَهُوا الْبَنَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ)(رواه أحمد)، (فإنهن المؤنسات) للآباء وللمنازل (الغاليات) في المهور والأجور لمن كفلهن، وأحسن إليهن كما تقدم، ودخل عمرو بن العاص على معاوية وفي حجره صبية فقال: انبذها فإنهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء، فقال: لا تفعل فما ندب الموتى، ولا تفقد المرضى، ولا أعان على الحزن مثلهن.

=======

وأوصى بالخالة، فقال لمن ارتكب ذنبًا وأراد التوبة منه: (هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟). قال: لا، قال: (هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟). قال: نعم، قال: (فَبِرَّهَا)(رواه الترمذي).

أيضًا مما تعلمناه من المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وأدبنا به، خدمة المجتمع والبيئة التي نحيا فيها، والقيام على حوائج أفرادها، والدعوة لذلك، فها هي السيدة خديجة (رضي الله عنها) تشهد للنبي (صلى الله عليه وسلم) بخدمته لمجتمعه، وقيامه على حاجة أفراده؛ فحينما رجع إليها (صلى الله عليه وسلم) يرتجف فؤاده ويقول: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)، فزملوه (صلى الله عليه وسلم) حتى ذهب عنه الروع، فقصّ على السيدة خديجة (رضي الله عنها) وأخبرها خبر الوحي وقال لها: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي). فقالت له: (كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَ اللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ)(متفق عليه)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ – وَأَحْسِبُهُ قَالَ – وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ)(متفق عليه)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ, وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ, أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً, أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا, أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا, وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ (يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ) شَهْرًا, وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ)(رواه الطبراني في الكبير)، وهذا أبوطالب يشهد للنبي (صلى الله عليه وسلم) برعايته للأيتام، كما شهدت السيدة خديجة (رضي الله عنها)، فيقول في قصيدته اللامية:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ…..ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ

يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ…..فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ

أي: ملجأ وغياث ومطعمٌ لهم في الشدة.

أيضًا مما تعلمناه من المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وأدبنا به، تصحيح المفاهيم المغلوطة للصحابة والأمة من بعدهم، وهذا واجب الأئمة والدعاة والخطباء؛ لأنهم ورثة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكل مَنْ عرف الحق مِن بعدهم، وخصوصًا في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأغاليط، وتصدى للكتابة في دين كل مَنْ ودبّ، حتى اختلط الحابل بالنابل، واتسع الخرق على الراقع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فقد أصبحت الحرية عريًا وفجورًا، وأصبحت المحافظة على الإيمان والدين تشددًا وتزمتًا، وأصبحت الرشوة إكرامية وشايًا وحلاوة وهدية، وأصبح التعصب والولاء والبراء لحزب سياسي أو لفريق كرة قدم، وأصبح الأقارب عقارب، والعمّ همّ، والخال غمّ، واللي يحتاجوا البيت (المنزل) يحرم على الجامع، وأصبح الجار عدوًا، وأصبحت خطبة الفتاة خلوة بها، وتحرش، وانتهاك حرماتها، وصدق نبينا (صلى الله عليه وسلم) حينما قال: (بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)(رواه مسلم)، أي: أن الإسلام بدأ في آحادٍ وقلةٍ من الناس، ثم انتشر فظهر، ثم سيلحقه النقص حتى لا يبقى إلا في آحادٍ وقلةٍ أيضا كما بدأ.

إن الذي دفعني لكتابة هذا العنصر في جملة ما نتعلمه من المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في تلك الجمعة المباركة أنني قرأت لأحد العوام منشورًا على الفيس بوك كتب فيه: (إن الدنيا ليست بدار عدلٍ أو مساواة)، حينها أدركت أهمية تصحيح المفاهيم المغلوطة، كما كان من هدي نبينا (صلى الله عليه وسلم).

فعن أبى هريرة (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟). قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: (إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ). قالوا: فمن هم يا رسول الله؟. قال: (مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ…)(رواه مسلم)، وتفصيل في سبيل الله في قوله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)(رواه الترمذي).

وقال (صلى الله عليه وسلم): (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟). قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)(رواه مسلم)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا). فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟. قال: (تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ)(رواه البخاري).

وقال (صلى الله عليه وسلم) سائلًا أصحابه ذات يوم: (مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟). فقالوا: الذي لا يولد له. قال: (لَيْسَ ذَاكَ بِالرَّقُوبِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا). قال: (فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟). فقالوا: الذي لا يصرعه الرجال. قال: (لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)(رواه مسلم).

عباد الله أقول قولي هذا، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

===========================================

(الخطبة الثانية)

((حبُّ الوطن، والعمل على نهوضه، والسعي في بنائه))

الحمد لله ربّ العالمين، أعد لمن أطاعه جنات النعيم، وسعر لمن عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أخوة الإيمان والإسلام: فقد رأينا في الخطبة الأولى جملة من تعاليم وهدي المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ومن أهم تلك التعاليم، والذي صورته الجماعات المارقة الضالة بغير ذلك، حبُّ الوطن، والعمل على نهوضه، والسعي في بنائه، فوطنٌ كمصرنا الحبيبة له منزلة عالية، ومكانة سامية في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة لحريٌ وجديرٌ أن نحبَّه، ونحافظ على استقراره وأمنه، ونعمل على نهوضه، ونسعى في بنائه، فحب الأوطان، والعمل على استقرارها والحفظ لأمانها وأمنها، والعمل على نهوضها، والسعي في بنائها من كمال الإيمان، فإيماننا لا يكمل إلا بذلك، وإن صورت لكم الجماعات الضالة المارقة غير ذلك.

انظروا لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة الهجرة، فقد وقف بالحزورة (تلٌّ مشرف على مكة)، وهو على ناقته، ونظر لمكة نظرة المحبّ المفارق لحبيبه وخاطبها قائلًا: (وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ، مَا خَرَجْتُ)(رواه ابن ماجه)، النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول ذلك برغم محاولة قتله، وبرغم الإيذاء، والاضطهاد، والتعذيب، والقتل لبعض أصحابه، ولعل سائلًا يقول: هذه مكة، ولا يدانيها في الأوطان وطن، ولا يساميها في الشرف مكان، فلا يؤخذ كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) عليها في حبِّ جميع الأوطان.!

وهؤلاء نردّ عليهم بما روته السيدة عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا)(متفق عليه)، فدعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) لنفسه ولأصحابه بحبّ المدينة، والدعاء بإصلاح هوائها، والمباركة في مدها وصاعها، مما يعلمنا حبَّ الوطن والانتماء له، وخصوصا أن المدينة قبل الهجرة إليها كانت تسمى (يثرب)، ولم يكن يعرف لها فضل.

إن الوطن يا عباد الله يتكون من الأرض، والأهل، والمال، والعرض، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)(رواه الترمذي)، كما أن الوطن يتكون من حرمات ومقدسات، ويتكون من حكومة وشعبًا، وقيادة ونظامًا، ونحن مأمورون بالدفاع عن الحرمات والمقدسات، قال تعالى: {…وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40]، ومأمورون أيضًا بالسمع والطاعة للحكومة والقيادة، واحترام النظام، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا (أي: تأمرّ عليكم)، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ…)(رواه الترمذي)، ومأمورون أيضًا بمخالطة الناس ومعاملتهم بالحسنى، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة:83]، وها هو النبي (صلى الله عليه وسلم) يوصي معاذ بن جبل، وأبا ذر (رضي الله عنهما)، فيقول: (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)(رواه الترمذي)، كما أننا مأمورون بعمارة الأوطان والنهوض بها، فعمارتها جزء من عمارة الأرض، وقد أمرنا الله بعمارة الأرض على لسان نبيه صالح (عليه السلام)، فقال: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود:61].

فكلُّ ما تقدم من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة دليلٌ على حب الأوطان، وأن حبها من كمال الإيمان، ودليلٌ على وجوب العمل على استقرارها، والحفظ لأمانها وأمنها، والعمل على نهوضها، والسعي في بنائها.

فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به عاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى