خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة ، إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، للدكتور مسعد الشايب

إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، للدكتور مسعد الشايب – الجمعة 28 من صفر 1447هـ الموافق 22 من أغسطس 2025م

===========================================

خطبة الجمعة word ، إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، للدكتور مسعد الشايب

خطبة الجمعة pdf ، إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، للدكتور مسعد الشايب

أولا: العناصر:

  1. الدعوة لإعمال العقل والفكر.
  2. ستة طرق لتنمية العقل والفكر.
  3. الخطبة الثانية: (الجمود الفكري، وستة من مخاطره).

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ وسلّم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

===========================================

(1) ((الدعوة لإعمال العقل والفكر))

===========================================

أيها الأحبة الكرام: يقول الحق تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا}[الإسراء:70]، ومن مظاهر هذا التكريم الرباني لبني آدم: إعطائهم التمييز والعقل، الذي هو مناط التكليف، وبه يعرف الحق (تبارك وتعالى)، ويفهم كلامه، ويُوصل إلى نعيمه وجنانه، فالعقل مظهر من مظاهر التكريم لبني آدم، اختصهم الله (عزّ وجلّ) به عن بقية الكائنات، والحيوانات.

=====

_ والعقل أيها الأخوة الأحباب: هو الآلة التي يفكر بها الإنسان، ويوازن بين الأمور، ويتبين الخير من الشر، والحلال من الحرام، ويميز الصالح من الفاسد، والنافع من الضار، فيأخذ بالحلال، والصالح، والنافع، ويترك الحرام، والفاسد، والضار، ولذا سمي العقل عقلا، وحجرًا؛ لأنه يعقل الإنسان ويحجره، أي: يحبسه ويمنعه عن الحرام، والفاسد، والضار.

=====

_ وقد دعانا القرآن الكريم في كثير من آياته إلى إعمال عقولنا، والتفكير بها، فقال سبحانه وتعالى: {قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[المؤمنون:80]، وقال أيضًا: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الجاثية:13،12]، وقال تعالى: {أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ}[الحج:46].

=====

_ وكما دعانا القرآن الكريم لإعمال عقولنا والتفكير بها، كذلك جاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ودعتنا إلى ذلك، فعن أنَسِ بن مَالكٍ (رضي الله عنه)، قال: (كَانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعيدُ الْكَلِمةَ ثَلاثًا، ‌لِتُعْقَلَ ‌عَنْهُ)(رواه الترمذي)، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه)، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، ‌اعْقِلْ ‌مَا ‌أَقُولُ ‌لَكَ: لَعَنَاقٌ يَأْتِي رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أُحُدٍ ذَهَبًا يَتْرُكُهُ وَرَاءَهُ، يَا أَبَا ذَرٍّ ‌اعْقِلْ ‌مَا ‌أَقُولُ ‌لَكَ: إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا، اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أَقُولُ لَكَ: إِنَّ الْخَيْلَ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(مسند أحمد).

=====

_ ولقد ذم الحق تبارك وتعالى في القرآن الكريم مَنْ لا يستخدم عقله؛ ليصل به إلى الإله الواحد، وإلى قضية التوحيد، فقال سبحانه وتعالى مخاطبًا نبينا صلى الله عليه وسلم: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا*أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:44،43]، فالاستماع والعقل مظنة الاستجابة لدعوة الرسل إلى التوحيد، وهؤلاء الكفرة والمشركين أكثرهم ليس لديه استماعٌ جيد، ولا عقلٌ يعي به؛ ومِنْ ثَمَّ، فقد سُدت عليهم منافذ الاستجابة والإيمان، فكانوا كالأنعام؛ بل هم أضل سبيلًا منها.

وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ*وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:23،22]، فبالعقل أيضًا يتمايز البشر عن بعضهم البعض، فليس العاقلُ كالأحمقِ، وليس اللبيبُ كالسفيه، والأخرق.

=====

_ ومن هنا جاء الإسلام وخاطب العقول أولًا، وحرص، أيما حرصٍ على تنبيهها، وإيقاظها من غفلتها، ومن هنا كثر في القرآن الكريم الحثُّ على استخدام العقل في قضية الإيمان والتوحيد، فقد جاءت صيغة الخطاب الموجه للسامعين: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، اثنتا عشرة مرة، وبصيغة الغيبة أيضًا مرة واحدة في سورة (يس)، فقال سبحانه وتعالى تعريضًا بهم: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ}[يس:68]، وجاءت مرة واحدة بصيغة: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}[الأنعام:50].

===========================================

(2) ((ستة طرق لتنمية العقل والفكر))

===========================================

1ـ ملازمة العلماء، والإقبال عليهم، فهذا من صناعة العقول، وإنارتها، وتنمية الفكر فقد ابتليت الأمة بمجموعة من مقطوعي النسب العلمي، فرقوا الأمة، وشرذموها، وكفروا علمائها وفقهائها، واعتدوا على تراثها بضيق أفقهم، وضحالة تفكيرهم، وعقولهم.

==

انظروا إلى مَنْ إليه المنتهى في علم التفسير كما يقول الإمام السيوطي في كتابه: (مشتهى العقول)، إنه سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما)، الذي بلغ من العلم مبلغًا جعل سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يجلسه في مجلسه، ويدخله مع كبار الصحابة (رضي الله عنهم) من أشياخ بدرً وغيرهم، وجعله يسأله ويرجع إليه في أشياء خفيت على كبار الصحابة (رضي الله عنهم)، ولذلك كان يلقب بفتى الكهول.

إن سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما) لم يبلغ تلك المنزلة العالية، والمكانة السامية عند أمير المؤمنين إلا بجده واجتهاده وبنائه لنفسه وذاته، وصناعته لعقله، فقد كان يسعى إلى العلم، ويكابد في سبيل نيله وتحصيله، ولا يتكبر على شيوخه، ولم يتكل على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)(مسند أحمد)، وفقط، انظروا إليه، وهو يقول: (لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَا فُلَانُ هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ). فقال: واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مًنْ ترى؟. قال ابن عباس: (فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ، وَهُوَ قَائِلٌ (نائم وقت الظهيرة)، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيحُ (تثير وتلقي) عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ، فَيَخْرُجُ، فَيَرَانِي). فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: (لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ). قَالَ: (فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ). فقال: كان هذا الفتى أعقل مني. (سنن الدارمي)، أيضًا من خطوات تنمية العقل والفكر:

=====

2ـ استعمال العقل، والحواس في النظر والتدبر والتفكر، في الكتاب المنظور، والكتاب المسطور، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، وقال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ*أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ*نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ*عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ*وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ*لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُون*إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ*لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ*نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ*فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:57ـ74].

==

وفي تدبر القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:29]، ويقول سبحانه وتعالى أيضًا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24]، ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (…وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ…)(رواه مسلم)، أيضًا من خطوات تنمية العقل والفكر:

=====

3ـ استشارة أصحاب المواهب، والعقول، فالشورى شرعًا (اصطلاحًا): هي استنباط المرء الرّأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور، ويكون ذلك في الأمور الجزئيّة الّتي يتردّد المرء فيها بين الفعل والترك، قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ*وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ*وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ*وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى:36ـ40].

==

وانظروا إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز، وهو يقول: (لأن يكون لي مجلس من عبيد الله [أي: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة] أحب إلي من الدنيا)، وهذا لرجاحة عقله، وعلو فكره، ولذا قال أيضًا: (والله، إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال), فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع تَحَرِّيك وشدة تحفظك؟!. فقال: (أين يذهب بكم؟ والله، إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف، إن في المحادثة تلقيحًا للعقل، وترويحًا للقلب، وتسريحًا للهمّ، وتنقيحًا للأدب)(وفيّات الأعيان)،فالشورى هي إضافة عقل إلى عقل، وفكر إلى فكر، فبها نصل لأفضل الآراء، فهي عقل جمعي، للوصول إلى الحل والرأي الأمثل، أيضًا من خطوات تنمية العقل والفكر:

=====

4ـ تعلم العلوم الكونية المدنية التي تقوم على التجربة والملاحظة، فالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة يحملان الكثير والكثير من الإشارات العلمية التي تلفت الأنظار إلى تلك العلوم، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت:53]، وكقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:185]، وكقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ*وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذّاريات:21،20]، ويقول النبيّ (صلى الله عليه وسلم): (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)(رواه الطبراني في الكبير)، أيضًا من خطوات تنمية العقل والفكر:

=====

5ـ ضرب الأمثال، وصدق الله إذ يقول: {وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ}[العنكبوت:43]، وقال تعالى: {وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر:21]، وكثيرًا ما استخدم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليعلم أصحابه، ويلفت عقولهم، وينمي أفكارهم، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (‌أَرَأَيْتُمْ ‌لَوْ ‌أَنَّ ‌نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟). قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ (وسخه) شَيْءٌ. قَالَ: (ذَاكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا)(اللفظ لمسلم)، أيضًا من خطوات تنمية العقل والفكر:

=====

6ـ طرح الأسئلة، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما)، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌إِنَّ ‌مِنَ ‌الشَّجَرِ ‌شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟). فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: فَقَالَ: (هِيَ النَّخْلَةُ). قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ قَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَ: هِيَ النَّخْلَةُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا. (متفق عليه).

عباد الله أقول قولي هذا، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

===========================================

(الخطبة الثانية)

((الجمود الفكري، وستةٌ من مخاطره))

===========================================

الحمد لله ربّ العالمين، أعد لمن أطاعه جنات النعيم، وسعر لمن عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها الأحبة الكرام: فقد عشنا مع الأوامر القرآنية والنبوية التي حثت على إعمال العقل وتنمية الفكر، وبقي لنا في تلك الخطبة المباركة أن نحذر من الجمود على الفكري، وبيان شيء من خطورته، وآثاره السيئة، فأقول:

=====

الجمود الفكري: يعني عدم سيلان العقل، بعدم البحث، وعدم التعمق في فهم الأشياء من حوله، وعدم الوعي بالملابسات المحيطة بها، وهذا المنهج مردود، ومرفوضٌ منذ عهد النبوة.

فهذا عدي بن حاتم الطائي (رضي الله عنه) يقول: لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}[البقرة:187]، عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل، فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك فقال: (إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ)(متفق عليه).

وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا). فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟. قال: (تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ)(رواه البخاري).

وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عُذِّبَ). فقلت: أليس قد قال الله (عز وجل): {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق:8]؟. فقال: (لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ)(اللفظ لمسلم).

=====

إن الجمود الفكري، وعدم إعمال العقل تدبرًا، وتفهمًا، واستيضاحًا لأغراض الأشياء ومراميها، واستنباطًا وتكيفيًا للحوادث والمستجدات، له أخطار متعددة، بعضها كالآتي:

=====

1ـ الجمود الفكري ينافي حتمية التجديد، الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)(رواه أبو داود)، ومعلومٌ أن التجديد يحتاج إلى إعمال عقل، وتفهم، وتدبر للنصوص…الخ، ومعلومٌ أنه يكون بعيدًا عن المسلمات، والمجمع عليه، بعيدًا عن المعلوم من الدين بالضرورة، بعيدًا عما ثبت بدليل قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، مع الاحترام الكامل لاجتهاد العلماء السابقين، والاعتراف بالرأي، والرأي الأخر، وأن ما صلح في زمن ما بظروف ما قد لا يصلح في الزمان الأخر مع تغير ظروفه وأحواله.

2ـ الجمود الفكري يؤدي إلى تأخر الأمة عن ركب الحضارة، فوتيرة الحياة تتسارع في كافة المجالات العلمية، والفكرية، والتكنولوجية، والسياسية، والاقتصادية، والعالم تحيط به تكتلات ومتغيرات حضارية كثيرة، وهذا مما يحتم على العلماء إعمال العقل، وإنعام النظر في النصوص الشرعية؛ لمواكبة تلك التكتلات والمتغيرات الحضارية، ومسايرة ركب التقدم الحضاري.

3ـ الجمود الفكري ينافي عالمية الإسلامية، واستدامته، فقد قدر الله (عزّ وجلّ) للرسالة المحمدية أن تكون عالمية لكل الناس، وقدّر لها أن تكون خاتمة الرسالات، وأن تستمر إلى يوم الدين، وبدون تجديد فكري وإعمال عقل واجتهاد، لن تصلح الرسالة الإسلامية لذلك؛ لأن الحوادث والمستجدات كثيرة، والنصوص محدودة، وهى مجرد قواعد كلية، وليست تفصيلية، فتحتاج تلك الحوادث والمستجدات إلى تكييف فقهي، وبيانٍ لحكمها الشرعي، وهذا لن يتأتى إلا بإعمال العقل في النصوص الشرعية، واستنباط أحكامها منها بالأدلة والأدوات التشريعية.

4ـ الجمود الفكري ينافي ما فتحه النبي صلى الله عليه وسلم من باب الاجتهاد، حيث قال لمعاذ بن جبل (رضي الله عنه) حينما بعثه واليًا وقاضيًا إلى اليمن: (كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟). قال: أقضي بكتاب الله. قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟). قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟). قال: أجتهد رأيي، ولا آلو (ولا أقصر). فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدره، وقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ، رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ)(رواه أبو داود)، ومعلومٌ أن الاجتهاد إعمال عقلٍ في المقام الأول.

5ـ الجمود الفكري يعسر على الناس أمر دينهم، ويدخل المشقة عليهم، ويوقعهم في الحرج، فالحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر فشجّه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ)(رواه أبو داود)، وقد رأينا في هذا العصر من يتمسك بإخراج زكاة الفطر قوتًا وحبّا، ويلزم الناس شرائهما، ويمنعهم من إخراجها نقودًا، والأمثلة والنماذج كثيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العي العظيم.

6ـ الجمود الفكري فيه مخالفة صريحة لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، الداعية إلى إعمال العقل والتدبر، والتفهم، كما تقدم، وهو من الضلال في دين الله كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج، وهو جهل بالمقاصد العامة للتشريع الإسلامي، قال الإمام القرافي (رحمه الله): (وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِد عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ)(الفروق).

فاللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى