حطبة الجمعة القادمة : ((العقول المحمدية)) للدكتور مسعد الشايب

حطبة الجمعة القادمة : ((العقول المحمدية)) (أول مرة) الجمعة الموافقة 14 من جماد ثاني 1447هـ الموافقة 5/12/2025م للدكتور مسعد الشايب
===========================================
حطبة الجمعة القادمة word : ((العقول المحمدية)) للدكتور مسعد الشايب
حطبة الجمعة القادمة pdf : ((العقول المحمدية)) للدكتور مسعد الشايب
أولا: العناصر:
- دعوة الشريعة الإسلامية لإعمال العقل والتفكير.
- أربعة من صور التفكير السلبي، وآثاره السيئة.
- الخطبة الثانية: (التحذير من التشاؤم، وبيان حكمه).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله ربِّ العالمين، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، جلّ وجهك، وعزّ جاهك، ولا يخلف وعدك، ولا يهزم جندك، وأَشهدُ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عَبدُه ورسولُهُ، صلاة وسلاما عليه دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه…الخ، إلى يوم الدين، وبعد:
===========================================
(1) ((دعوة الشريعة الإسلامية لإعمال العقل والتفكير))
===========================================
أيها الأحبة الكرام: فمن دعوات القرآن الكريم، الدعوة إلى إعمال عقولنا، والتفكير بها، فقال سبحانه وتعالى: {قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[المؤمنون:80]، وقال أيضًا: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الجاثية:13،12]، وقال تعالى: {أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ}[الحج:46].
===
_ وكما دعانا القرآن الكريم لإعمال عقولنا والتفكير بها، كذلك جاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ودعتنا إلى ذلك، فعن أنَسِ بن مَالكٍ (رضي الله عنه)، قال: (كَانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعيدُ الْكَلِمةَ ثَلاثًا، لِتُعْقَلَ عَنْهُ)(رواه الترمذي)، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه)، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، اعْقِلْ مَا أَقُولُ لَكَ: لَعَنَاقٌ يَأْتِي رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أُحُدٍ ذَهَبًا يَتْرُكُهُ وَرَاءَهُ، يَا أَبَا ذَرٍّ اعْقِلْ مَا أَقُولُ لَكَ: إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا، اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أَقُولُ لَكَ: إِنَّ الْخَيْلَ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(مسند أحمد).
===
_ ولقد ذم الحق تبارك وتعالى في القرآن الكريم مَنْ لا يستخدم عقله؛ ليصل به إلى الإله الواحد، وإلى قضية التوحيد، فقال سبحانه وتعالى مخاطبًا نبينا صلى الله عليه وسلم: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا*أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:44،43]، فالاستماع والعقل مظنة الاستجابة لدعوة الرسل إلى التوحيد، وهؤلاء الكفرة والمشركين أكثرهم ليس لديه استماعٌ جيد، ولا عقلٌ يعي به؛ ومِنْ ثَمَّ، فقد سُدت عليهم منافذ الاستجابة والإيمان، فكانوا كالأنعام؛ بل هم أضل سبيلًا منها.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ*وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:23،22]، فبالعقل أيضًا يتمايز البشر عن بعضهم البعض، فليس العاقلُ كالأحمقِ، وليس اللبيبُ كالسفيه، والأخرق.
===
_ ومن هنا جاء الإسلام وخاطب العقول أولًا، وحرص، أيما حرصٍ على تنبيهها، وإيقاظها من غفلتها، ومن هنا كثر في القرآن الكريم الحثُّ على استخدام العقل في قضية الإيمان والتوحيد، فقد جاءت صيغة الخطاب الموجه للسامعين: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، اثنتا عشرة مرة، وبصيغة الغيبة أيضًا مرة واحدة في سورة (يس)، فقال سبحانه وتعالى تعريضًا بهم: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ}[يس:68]، وجاءت مرة واحدة بصيغة: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}[الأنعام:50].
===========================================
((أربعة من صور التفكير السلبي، وآثاره السيئة))
===========================================
عباد الله وأحباب رسوله الكريم: إذا كانت الشريعة الإسلامية دعتنا إلى التفكير وإعمال العقل؛ فإنها في نفس الوقت حذرتنا من التفكير السلبي، الذي يضر ولا ينفع، وبينت لنا عددًا من صوره، والتي منها:
==========
1ـ التفكير في إثارة الفتن والشرور، وتأليب الناس على بعضهم بعضًا، فالحق تبارك وتعالى يقول: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:114]، والنجوى، هي: ما ينفرد بتدبيره قوم سرا كان أو جهرا، فمعنى الآية: لا خير في كثير مما يدبره القوم ويفكرون فيه سرًا أو جهرًا إذا لم يكن في أبواب الخير كالأمر بالصدقة، وفعل المعروف، والإصلاح بين الناس، فالآية صريحة في النهي بمفهوم المخالفة عن صورة من صور التفكير السلبي الذي يضر ولا ينفع، وهو إثارة الفتن والشرور، وتأليب الناس على بعضهم بعضًا، فالأصل بين الناس التعاون على البر والتقوى، وصدق الله إذ يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة:2]، ومن صور التفكير السلبي أيضًا:
==========
2ـ التفكير في الانتقام والاعتداء على من ظلمنا أو اعتدى على حق من حقوقنا، فإن كان لابد من معاقبته، ومقابلة الإساءة بالإساءة؛ فلنرفع الأمر إلى ولي الأمر، والعفو أفضل مع من يستحق العفو، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ*وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ*إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى:40ـ43].
===
وانظروا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيدة عائشة (رضي الله عنها) تقول له: (يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ؟). تقصد لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: (لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ)(الشيخان، واللفظ لمسلم)، أي بئر ذي أروان، ومن صور التفكير السلبي أيضًا:
==========
3ـ التفكير المنصب على المثالب والنقائص، وتتبع العورات، مع التغاضي عن المناقب والمميزات، وإساءة الظن بالآخرين، فإن هذا التفكير ينافي الأصل العام في الشريعة الإسلامية؛ ألا وهو إحسان الظن بالآخرين، وينبئ عن عدم فهم لطبيعة البشر التي لا تخلو من أخطاء، ويناقض ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به من التركيز على الإيجابيات، وعدم التركيز على السلبيات والنقائص، كما أنه يوقع في الذنوب والمعاصي، يقول الحق تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:12]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)(رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ)(رواه أبو داود)، ومن صور التفكير السلبي أيضًا:
==========
4ـ التفكير المبني على الخرافة، والأوهام، والأغاليط، وهذا له صور متعددة، كالتفكير في ذات الله (عز وجل) فمهما فكرنا فيها ليست كما نتوهم، وكالمسائل التي تخالف العلوم الحديثة، وتخالف الواقع كاعتقاد أن الدم في الأوردة أزرق، وأن الصواعق لا تصيب مكانًا مرتين، أما الأغاليط أو الأغلوطات، فهي: المسائل الصعبة الشديدة يتكلم ويتجادل فيها من لا علم له، ولا دراية ولا خبرة، كالجدال في مسائل العقيدة من نابتة العصر، أو التعمق والتكلف فيما لا حاجة للإنسان إليه من المسائل أو هي المسائل الصعبة يطرحها البعض بهدف تعنيت أولي العلم والراسخين فيه، وإحراجهم أمام الأخرين، ووضعهم في مأزق، قال تعالى ناعيًا على أصحاب الخرافة، والأوهام، والأغاليط: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[الحج:8]، يجادل في ذاته، وصفاته، ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ)(المعجم الأوسط).
===
ولما علم سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أن صبيغًا العراقي يسأل عن أشياء من القرآن الكريم، ويغالط فيها, أمر به فضرب بأعواد الجريد حتى صار ظهره دبرة (متقرحًا كالقرحة في ظهر الدواب) أو خبزة (مسترخيًا لحمه أو متهرأً)، ثم تركه حتى برأ، ثم أمر به فضرب ثانية، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليضرب ثالثة, فقال له صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا , وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برأت, فأذن له سيدنا عمر إلى أرضه , وكتب إلى سيدنا أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) ألا يجالسه أحد من المسلمين, فاشتد ذلك على الرجل, فكتب سيدنا أبو موسى إلى سيدنا عمر بن الخطاب أن قد حسنت هيئته, فكتب إليه عمر أن يأذن للناس يجالسونه. (سنن الدارمي، ومسنده).
===
إن التفكير السلبي فيه مخالفة لأوامر الله (عزّ وجلّ)، وأوامر رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويؤدي بصاحبه إلى الوقوع في المهالك، والذنوب والمعاصي، كما فعل إخوة يوسف مع يوسف (عليه السلام)، قال تعالى حاكيًا عنهم: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ*إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ*اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ*قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}[يوسف:7ـ10]، هذا النموذج من التفكير السلبي دفعهم إخوة يوسف لقطع رحمهم، فلم يرحموا الصغير، ولم يرأفوا بالكبير، وأخطأوا في حق النبوة، فقالوا كما يقص القرآن الكريم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وهموا بقتل أخيهم.
===
إن التفكير السلبي بما فيه من سوء ظن بالآخرين يؤدي إلى قطع روابط الألفة والمودة والمحبة بين أفراد المجتمع الواحد، وينشر التشاحن والتخاصم بين أفراده، كما أنه يشيع الفوضى، والخروج على النظام وينشر كل ذلك في جنبات المجتمع، ومن أكبر طوامه وآثاره السيئة وخصوصًا إذا كان متعلقًا بالخرافات، والأوهام، والأغاليط نشر الجهل، وإضلال الناس بغير علم، وتصوير الشريعة بمظهر غير لائق بها، وطمس دعوتها لمواكبة التطور الزمني والعلمي.
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون…………
===========================================
(الخطبة الثانية)
((التحذير من التشاؤم، وبيان حكمه))
===========================================
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
===
أيها الأحبة الكرام: فمن المقرر شرعًا ـ وكما هو عقيدة أهل السنة والجماعة ـ أن الحق تبارك وتعالى كتب في اللوح المحفوظ ـ مقادير الخلائق وما يجري في الكون إلى يوم القيامة قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ…)(رواه مسلم).
===
كما أنه من الواجب على كل مسلم أن يؤمن بذلك، فالإيمان بذلك هو أحد عناصر الإيمان الستة، فعن عمر (رضي الله عنه)، أن جبريل (عليه السلام) سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)(رواه مسلم).
===
إذا كان الأمر كذلك أقول: لا ينبغي لأحدٍ منا أن يتشاءم من أي شخص ويعتقد أن قدمه سيئ، وأن نظرته أو دخوله أو سماعه أو وجهه…إلخ شؤم، فالنكبات والخسائر، والأمراض والبلايا، والحياة والموت…إلخ كل ذلك بيد الله (عزّ وجلّ)، وواقعٌ لنا بقضاء الله وقدره، ولا يتدخل فيه أحدٌ ولا يؤثر فيه لا إيجابًا ولا سلبًا.
فقد كان الفراعنة يتشاءمون من نبي الله موسى (عليه السلام) ومن معه، فبيّن الحق تبارك وتعالى أن كل من عنده، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ*فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:131،130]، قال ابن عباس: (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: إن الذي أصابهم من الله.
===
وكذلك ردّ الحق تبارك وتعالى على قوم صالح (عليه السلام) حينما تشاءموا منه وبمن معه، قال تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}[النمل:47].
===
إن التشاؤم من الأشخاص، ومن الزمان والمكان والحيوانات أيضًا يُعدُّ من التطير الذي نهى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)(رواه البخاري)، الشاهد في الحديث: (ولا طيرة) وهو التشاؤم من أي شيء، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وَلاَ صَفَرَ) يراد به الشهر العربي المعروف كانت العرب تتشاءم بدخوله فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. (وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)، أي: خذ بالأسباب، وابتعد عن مواطن الجذام، واترك النتيجة لله يقدرها كيف يشاء.
===
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ). فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي، تكون في الرمل كأنها الظباء (أي: في النشاط والقوة)، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟)(رواه البخاري) أي: مَنْ الذي أنزل البلاء أول مرة، وأصاب به أول حيوان؟ إنه الله فالمقادير كلها بيده.
===
شبهة وردّها: أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ: فِي المَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ)(رواه البخاري)، وقوله: (إِنْ يَكُنْ مِنَ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ، فَفِي الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ)(رواه مسلم)، فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس عادة ما يتشاءمون من هذه الأمور الثلاثة، وليس أن هذه الأمور الثلاثة شؤمٌ، فلنفهم ولنتأمل.
===
الخلاصة الفقهية: إن التطير والتشاؤم من شيم الكفرة والمشركين، ونقصٌ في الإيمان، وغفلةٌ عن أن الأمور وتدبيرها بيد الله (عزّ وجلّ)، كما أنه يُعدُّ إساءةً وسوء خلق مع مَنْ نَصِفُهم ونَسِمُهم بذلك، ونسبب لهم أضرارًا نفسية ومعنوية، وقد نتسبب في هدم أُسرٍ من جراء ذلك، ولا شك أن المرء يحاسب على كل ذلك.
===
إن المؤمن الحق يجب أن يكون متفائلًا مبتسمًا للحياة، تاركًا المقادير لله يدبرها كيفما أراد وكيف شاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)(رواه مسلم).
===========================================
فاللهمّ أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علمًا نصير به خاشعين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين. اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب








